لعلّ الغموض المريب الذي اتهم به رئيس الحكومة حسان دياب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في مضبطة اتهامية غير مسبوقة في تاريخ علاقات السلطة التنفيذية والحكومات ورؤساء الحكومات مع حاكمية مصرف لبنان بدا منطبقاً تماماً غداة هذا التطور على مجمل الوضع السياسي والمصرفي والمالي وليس فقط على الجانب المتصل بالتداعيات التي اثارها وسيديرها تباعا. ذلك أنّه فيما يرجح أن يخرج حاكم مصرف لبنان عن صمته في الأيام القليلة المقبلة ويعمد إلى طرح مكاشفة شاملة بحقائق الوضع المالي للدولة ومصرف لبنان أمام الرأي العام المحلي والخارجي ببيان تفصيلي مسهب، فإنّ ثمة من يتحدث عن مزيد من صدمات ساخنة بل وربما صاعقة ستنشأ عن فتح ملف المالية العامة على غاربه في حال انزلقت الأمور إلى محاولات الانقضاض السياسي على أكباش محارق معينة حماية للسلطة القائمة وقواها الراعية واقتصاصاً من سلامة وعبره الفريق السياسي العريض الذي يخاصم السلطة والعهد وبعض قوى 8 آذار.
ولقد سادت الأجواء السياسية في الساعات الأربع والعشرين الأخيرة مناخات ومعطيات مشدودة للغاية تنذر بتصعيد التوتر الذي ضخه هجوم دياب مساء الجمعة على حاكم مصرف لبنان وما تلاه من ردود نارية لكل من الرئيس سعد الحريري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط والحزب الاشتراكي ومن ثم نواب وسياسيون بما أثبت تفلت محاولة العهد ورئيس الحكومة ومن ورائهما “حزب الله” أيضاً لجعل الانقضاض على سلامة مسألة معزولة عن المناخ السياسي العام يمكن عبرها استكمال ما باتت تنظر إليه جهات سياسية عديدة وليس المعارضة وحدها بأنّها طلائع انقلابية بكل ما تحمله من معايير خطيرة. ولم يكن تطوّراً عارضاً أن يزور السفير الفرنسي برونو فوشيه أمس رئيس التيار الوطني الحر الوزير السابق جبران باسيل ويجتمع معه في اللقلوق لساعتين غداة زيارة مماثلة للسفيرة الأميركية درورثي شيا ولو أنّ الأخيرة لا تزال تقوم بجولة التعارف والاطلاع على القيادات السياسية والحزبية. إذ أنّ ثمة ما يتردد عن بدء استشعار ديبلوماسي غربي وتحديداً أميركي وفرنسي، بأنّ ثمة شيئا قد يحمل نذر خطورة في استغلال السلطة اللبنانية الحالية للمرحلة البالغة الخطورة لجهة غرق العالم بجائحة كورونا ومحاولة الإطاحة بالمعادلة الداخلية من بوابة محاكمة سياسية من طرف واحد سرعان ما ستتخذ بعداً إقليمياً لأنّ الحكومة الحالية لا ينظر إليها من الغرب سوى من زاوية احكام سيطرة “حزب الله” عليها، وتالياً سيغدو طبيعياً أن يشكل تطور غير مألوف في أصول التعامل بين السلطة السياسية وحاكمية مصرف لبنان جرس انذار للدول المعنية بمساعدة لبنان ودعمه أو المعروفة بعلاقاتها مع لبنان.
ولكن ثمة جهات معنية تحذر من ان رعونة ركبت رؤوس بعض الجهات المتحكمة بالحكومة قد تؤدي بالوضع الى مجموعة منزلقات ومحاذير تفجيرية اذا لم تتراجع عملية عرض العضلات الانقلابية المحكومة سلفا بالفشل وهي تتلخص بالآتي:
– أولاً ثمة طريقاً مسدود امام اقالة حاكم مصرف لبنان لن يكون ممكناً فتحه بالتحايل أو الاجتهاد، ولذا فإنّ الحكومة التي كلفت ثلاث شركات للتدقيق المحاسبي في مصرف لبنان ستكون ملزمة انتظار انجاز الشركات الثلاث مهماتها أولا وقبل أي تصرف آخر لئلّا تفتضح عملية التوجيه السياسي الانتقامي التي توجهها.
– ثانيا إنّ الانزلاق نحو جهة واحدة معنية بالوضع المالي والأزمة المالية والاقتصادية أعاد عملياً فتح أبواب الجحيم أمام الجهات السلطوية إياها التي ستتسبب لنفسها بمحاكمة علنية وشعبية وسياسية غير مسبوقة في ملفات الكهرباء والهدر والاختلاسات والتوظيف العشوائي والمناقصات والمشاريع وسائر مجالات الفساد بما فيها ما قد يطاولها اكثر من سواها في تهريب الأموال نفسها.
– ثالثا إنّ اثارة الأجواء التصعيدية والانقسامية والمخاوف من توظيف لحظة داخلية وخارجية تظن الجهات المتورطة في الخطوات الانقلابية الجاري اعدادها أنّها ملائمة لها سيضع لبنان أمام منقلب غير محدود الأخطار والمنزلقات، يضاف إلى ما هو عليه من رزوح تحت الأزمات المخيفة. وسيتحمل ذلك حصراً العهد وفريقه وحليفه “حزب الله” ورئيس الحكومة فهل تراهم سيمضون في هذا المخطط؟
في أي حال شهدت تداعيات خطوة دياب أمس مزيداً من الاحتدام خصوصاً لجهة ردود الفعل الحادة التي أطلقت تحديداً من دار الفتوى عاكسة المزاج السنّي الأساسي المناهض لرئيس الحكومة والتي جاءت غداة البيان العنيف الذي أصدره الرئيس سعد الحريري بما يضع ترددات خطوة دياب امام مزيد من التعقيدات. وكانت أبرز الردود للرئيس فؤاد السنيورة الذي اعتبر أنّه “ما هكذا تعالج الأمور والمطلوب إعادة الاعتبار الى الدستور واتفاق الطائف وإلى الكفاءة والجدارة في تحمل المسؤولية وتالياً إخضاع الجميع إلى المحاسبة وفق الأطر الدستورية “، وخلص إلى أنّ “الدولار لا ينزل بالعصا إنّما باستعادة الثقة “. كما أنّ الرئيس تمام سلام حذّر من “جو المزايدات السياسية التي لا تؤدي إلى أي نتيجة”، لافتاً إلى أنّه “في الثلاث سنوات ونصف السنة الأخيرة كان يجب ان تتم معالجة التراكمات التي يتحدث عنها الجميع ولكن بدل ذلك تم اللجوء إلى الخطابات الثأرية “. أمّا الوزير السابق النائب نهاد المشنوق، فاعتبر أنّ دياب “منذ اللحظة الأولى التي كلف بها يتصرف على طريقة قيادة السيارة والنظر الى الوراء وشيء طبيعي أن يفوت بالحيط “، واكد وجود “مؤامرة على السنية السياسية ودياب غير قادر على مواجهتها ونحن قدها وقدود وسنواجهها”.
وفي هذا السياق، بدا موقف “القوات اللبنانية ” متمايزاً عن موقفي الرئيس الحريري والحزب الاشتراكي، إذ اعتبر رئيس حزب القوات سمير جعجع في بيان أمس أنّ “التدقيق المالي ضروري وضروري جدّاً في مصرف لبنان لكن أيضاً ضروري وضروري جدّاً في قطاعات الكهرباء والاتصالات والجمارك والمرفأ “. وقال: “لقد قررت الحكومة أن تبدأ من مصرف لبنان فليكن، لكن هناك خطوات إصلاحية أساسية جدا تستطيع بالتوازي البدء فيها كي لا تظهر المسألة كأنها انتقائية ومحاولة اقتصاص من فريق أو إدارة أو شخص معين”.