العالم رماد وركام، مقبرة عبثيّة لضحايا جلدها فيروس مصنّع ومفبرك ضمن منظومة الحرب الجرثوميّة بين الدول، فإذا البشر يسقطون بظنّ أنّه وليد الجوّ المربوء، فإذ به وليد الصناعة الإرهابيّة القاتلة.
ما الهدف الجوهريّ من التصنيع، وماذا جنى المصنّعون؟ لا يخفى على أحد بأنّ نظرية الفوضى الخلاّقة للمفكر الإنكليزيّ-اليهوديّ والأميركيّ الجنسيّة برنارد لويس غير محصورة في تبنّي نظام الفلسفة التفكيكيّة للفيلسوف شارل ديريدا ضمن الدائرة الجمعيّة الدينيّة والمذهبيّة للدول لاسيّما المشرقيّة منها كسوريا ولبنان والعراق وفلسطين والأردن ومصر، بل متفشيّة أفقيَّا وعموديًّا ضمن صراع الحضارات وظهور العالم الجديد في العالم كلّه، ومنسابة اقتصاديًّا وماليًّا، واستوت الآن في الأبعاد الطبيّة والاجتماعيّة والإنسانيّة مع التحوّل في الصراع إلى الأبعاد الجرثوميّة في احتراب شرس ظنّ مطلقوه أنهم الرابحون فإذ بهم الخاسرون الأول.
لا يغبى على أحد، بأنّ الأميركيين هم السعاة الأوّلون لبعث هذا التفشّي الكورونيّ في البنية الصينيّة اوّلاً. ظنّ الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب أنّه يملك القدرة على شلّ الصين وتجويفها من المحتوى الاقتصاديّ والصناعيّ المتين والغازي العالم بها، فإذ بالشلل ينعكس على أميركا نفسها وإدارة ترامب بالذات، لينطبق على الإدارة الأميركية هذا القول المعروف: "طابخ السّم آكله". لم يحدث أنّ جامعة هارفارد في بوسطن وهي من أعظم جامعات العالم، أغلقت أبوابها إلى أجل غير مسمّى، وبورصة نيويورك لامست الأرض، أميركا اليوم لم تعد كما كانت بالأمس، وحركة دونالد ترامب الذي نصب فخًّا للرئيس الصينيّ شي جين بينغ شلّت بالكامل بعدما وقع في الفخّ عينه، ولم يعد يسمع له صوت.
قد يظنّ قارئي بأنّي مهووس بنظريّة المؤامرة Conspiracy theory، ولعلّ بعض الظنّ من هذه الناحية إثم وضلال. لكنّ مسرى التاريخ، أثبت ديمومة تلك النظرية وثباتها. كان الراحل الكبير غسان تويني ينفر منها أمام أصدقائه ويرفضها بالشكل والمضمون. لكنّ مجريات الأحداث تخطّت نفوره، رحمه الله. ذلك أن هنري كيسينجر وزير الخارجيّة الأميركيّ الأسبق، ردّ على من اتهمه بالتآمر على المشرق ولبنان قائلاً "بأنكم بدوركم متهمون بعدم مواجهة مؤامرتنا، فنحن دولة لديها مصالحها وحاجاتها ورؤيتها في العالم، فمن الطبيعيّ أن تتآمر وتنجح، ولكن من غير الطبيعيّ أن لا تحبطوا مؤامراتنا". هنري كيسينجر هو من أثبتها، والإضاءة عليها لا تنتمي إلى عالم الوهم والخيال بل إلى طبيعة السياسة الأميركيّة في التعاطي مع قضايا العالم.
يسوغ القول بأن فيروس الكورونا، كشف وبقوّة نظرية المؤامرة في بلوغها اللحظات الذروة وكشف كلّ معاني التآمر ومعاييره ومندرجاته بالإضافة إلى انعكاسه على الإدارة المتآمرة عينها بصورة سلبيّة وقاتلة للغاية. وبنتيجة ذلك، سقط سعي الأميركيين إلى الآحاديّة المطلقة في حكم العالم وفرض أنظمتهم وعقوباتهم على الناس والدول والمنظمات والأشخاص، مستنسبين لأنفسهم اتهام الناس بالعمالة والإرهاب، يخلقون مسوخًا تكفيريّة، ويوجدون عملاء، ويخطّطون لتغيير أنظمة انته تاريخ صلاحيّة وظيفتها ودورها بالنسبة إليهم، ثمّ يقتلون شخصيات سياسية واقتصادية مع نهاية تواريخ الصلاحيّات حتّى لا ينكشفوا. ويتحكمون بأنظمة يجعلونها مطواعة لهم، ثمّ يصدّرون الجراثيم والفيروسات مستهدفين دولاً محدّدة وشعوبها، إلى أن سقطوا في الجبّ على قاعدة أن طابخ السمّ آكله (لقد أوضحنا عددًا من التفاصيل والوقائع في مقالنا أمس تحت عنوان: "السلطان... كورونا)".
لم يعد الاقتصاد الصينيّ في مأزق كبير أو خطير، ولم يمسّ إيران ارتجاج على الرغم من تسلّل فيروس الكورونا إليها، وصحيفة الفيغارو الفرنسيّة في عددها أمس أكّدت ومن دون التباس بأنّ فيروس الكورونا صناعة أميركيّة، العالم كلّه من الصين إلى روسيا إلى فرنسا إلى... إلى... يشيرون بالإصبع إلى أميركا بلا خجل ولا وجل على الرغم من تراكم عدد المصابين به في ولاية أوهايو الأميركيّة وقد بلغ أكثر من 11000 مصابًا إلى الآن. لقد سقطت الإدارة الأميركيّة أخلاقيًّا وقيميًّا، ومضبطة الاتهامات موجّهة بقوّة وحزم إلى دورها الرئيسيّ في تفشّي فيروس الكورونا، والذي انعكس على شعبها كما انعكس بقوّة على بقيّة الشعوب والدول المصابة به والمعانية منه.
لقد تساوت الدول كلّها في بلاغة المعطوبيّة وعمقها، ستخرج الدول مثخنة بالجراح ومصابة بالندوب. ذلك أنّ هذا الوباء تحوّل إلى كارثة كبرى غير محصورة في دولة أو بقعة أو مكان. إنّه السلطان المسلطن على العالم كلّه. معظم المتابعين والمحللين لا يحصرون القراءة في ثقل الكورونا ومفاعيله الكبرى والخطيرة على حياة الإنسان والشعوب والدول، بل يرنون إلى عالم ما بعد الكورونا، والتشخيص بدوره طبيعيّ لأن هذا الفيروس آيل إلى النهاية، وبعضهم اعتبر بأنّ العوامل الطبيعيّة كالمناخ الدافئ سينهيه وبعضهم الآخر اعتبر بأنّ الصين أوجدت اللقاح له وهو موجود في ثلاّجاتها، وآخرون أظهروا بأن الولايات المتحدة تملك لقاحًا، والرئيس الأميركيّ وضع مبلغًا في سبيل إيجاد اللقاح له. في دول المشرق زعم عدد من الاختصاصيين بأنّ افوله سيبدأ في آخر شهر آذار نظرًا لاقتراب المنطقة المشرقيّة من فصل الصيف.
لنتجاوز هذا المشهد باتجاه التقييم. يشي التقييم بأنّ نظرية الفوضى الخلاّقة على المستوى الصحيّ قد ترسّخت في العالم كلّه مع تفشّي فيروس الكورونا، وهيمنت أكثر داخل الدولة التي أطلقتها. هذا معطى لا يمكن الهروب منه في المدى المنظور، وهو غير محصور ومرتبط بميكانيزم الكورونا، بل منساب باتجاهات عديدة ومختلفة. غير أنّ حدّة النظريّة ستنكسر واقعيًّا بالنتائج الظاهرة على مستوى المشهد السياسيّ الكونيّ. فقد ظنّ كثيرون بأنّ الصين ستنتهي من المعادلات الكبرى وستجد روسيا نفسها محرجة وإيران مستفردة، وأوروبا مطواعة، وأميركا السيدة. لكن ومع بلوغ العالم نحو منعطف جديد، بدأنا نكتشف بأنّ الصين وروسيا وبعد تلك الإصابة سيتصدّران المشهد ليبدوا الزعيمين السياسيّ والاقتصاديّ للعالم الجديد، أي عالم ما بعد هذا الانهيار. المقياس الواقعيّ لذلك هبوط أسعار الأسهم في الشركات العالميّة، وهبوط البورصة في النيويورك نحو مدارك غير متوقعة، هبوط سعر برميل النفط بصورة صاعقة حتى بلغ ثلاثين دولارًا، وقد يهبط إلى دون ذلك. وحدها الصين استفادت بأن اشترت أسهمًا من شركات صناعية بأسعار زهيدة جدًّا فاستثمرتها وحصدت من خلالها عشرين مليار دولار أميركيّ بظرف يومين غذّت فيها الخزينة. يعني هذا بأن الصين قفزت فوق المصيبة باحتوائها لها وأّمنت وسائل مالية وجوديّة أبطلت بها المسعى الأميركيّ بتطويقها وترميدها وإنهائها. يكفي مشهد الرئيس الصيني شي جي بينغ وهو يتجوّل في مركز ليوان الطبيّ واثق الخطوة يمشي ملكًا بلا قناع أو لباس واق من فيروس الكورونا. لقد أعلن بداية نهاية الفيروس في الصين، حيث قدّر بأنّ الصين ستبرا منه مع بداية شهر حزيران المقبل.
هل يعني هذا بأنّ الأميركيين فقدوا القدرة على إكمال مخططهم في احتواء العالم؟ انبثاث الفيروس وانتشاره بهذه السرعة الفائقة أنهكها وأضعفها لأنه انعكس عليها على الرغم من أنها هي من ورّدته. إنّه أنهك العالم بأسره فكيف لا ينهكها؟! لقد اشتعلت الولايات الأميركيّ المتحدة بالإصابات بالكورونا فكيف سيبرر الرئيس الأميركيّ أو مساعدوه أو الإدارة بأسرها هذا الأمر للشعب بخاصّة أنّ أميركا مشرفة على انتخابات رئاسيّة، سيبدو دونالد ترامب بنتيجة ذلك مهشّمًا للغاية.
بين شي جي بينغ ودونالد ترامب أمر واحد: هناك غالب وهنالك مغلوب. إنها المعادلة الجديدة لعالم ما بعد الفوضى الخلاّقة والكورونا جزء منها، وعالم ما بعد موت التاريخ.
ملاحظة أخيرة على المستوى اللبنانيّ: لم يشهد لبنان واللبنانيون هلعًا مرعبًا كهذا الذي نحن فيه. نبدو في هذه اللحظات وكأننا في قلب "فيلم مرعب"، من أفلام ألفرد هيتشكوك عنوانه "الكورونا". إنّه كابوس يقضّ مضاجعنا، يضرب حياتنا، يغيّر عاداتنا، يفصلنا عن بعضنا، يمزّق اجتماعياتنا، يبطل تعاضدنا، يمنع من لقاءاتنا. المصيبة الأخطر أيضًا أنه انساب نحو روحياتنا، وأخذ يصعقها صعقًا محكمًا، ثم يقصف قيمنا قصفًا غاشمًا فيعرّضها للسقوط.
لا أحد ينفي خطورته وانعكاساته على حياتنا واستمرارنا. لكنّ مواجهته لا تتطلّب زرع الهلع بهذا الشكل. مواجهته تتطلّب منا معرفته، بنشأته وتداعياته على صحتنا وأخذ الاحتياطات اللازمة لمنع اقتحامه لنا. هذا الهلع يقتل الوجود يدمّره. لو سلمنا جدلاً بأنّ هذا الفيروس قد انتهى وجوده وهو سينتهي قريبًا وقريبًا جدَّا فماذا بعد؟ هل ننقطع عن علاقاتنا ببعضنا ونمتنع عن السهر مع بعضنا وريادة المطاعم ولقاء الأحبّة؟ هل من أحد يعلم بأنّ المبالغة بذلك طريق نحو هدم تماسكنا الاجتماعيّ والعائليّ المتين، بحيث الأبناء يبتعدون عن أهاليهم والإخوة يبتعدون عن بعضهم كذلك الأقرباء والأهل والأصدقاء؟ أيّ عالم سيولد بعد نهاية الكورونا، أنقبل بأن نكون ضحايا الفراغ وتنتهي علاقاتنا كما تدمّر مصالحنا؟ هل نعلم بأن لبنان ما بعد الكورونا بحال فقدنا تماسكنا سيترك لنا خراب بخراب.
يجب على الرؤساء الروحيين أن ينتبهوا بدورهم إلى هذه النأحية إلى جانب النخب الفكريّة والسياسيّة. وعلى الرغم من صوابية المحاذير فإنّ الكنيسة والجامع لا يزالان على الأقل المكانين الأمثلين للقائنا مع الله الواحد ومع أنفسنا، أفلا يمكن إيجاد صيغ تحكي المصلّين من انتشار المرض وتسمح بالصلاة واللقاء؟
أتمنى على المسؤولين في لبنان التفكير بالنتائج النفسيّة قبل الجسديّة الناتجة من انعكاس هذا الفيروس المصنّع على حياتنا بكلّ معانيها، مع الرجاء بأن يحمل إلينا صيامنا نحن معشر المسيحيين الترياق المبارك مع جهود الأطباء والوقاية المكثّفة لنستطيع البلوغ نحو الأسبوع العظيم المقدّس والفصح المجيد ونحن مبرَؤون معافون.