أوجد قرار دولة رئيس الحكومة الدكتور حسان دياب بالقرار الذي اتخذه أوّل من أمس مناخًا إيجابيًّا وطيّبًا عند من أخلص للبنان إخلاصًا حقيقيًّا وكاملاً. لم تجافِه سوى قلّة مارقة صدر جفاؤها ورفضها لرؤية الحكومة ضمن خطّة كادت أن تأخذ لبنان نحو انفجار خطير، فيصير بالفعل تحت أيدي أوصياء ووكلاء يقيّدون حركته ويرهنونه بمجهول سحيق.
"شو بيقدر السلطان يحصّل من الطفران" عبارة ردّدها أحد كبار المتابعين لأوضاعنا في لبنان. طفر لبنان ناتج من أنّ الحريريّة السياسيّة، وحتّى يثبت العكس، غرّقته عنوة في لجج الديون المتراكمة منذ سنة 1992، سلبته من ذاتيّته وبهاء الإبداع ووضعته في جبّ غريب عنه بالكليّة، جبّ أخلاه من المعطى القيميّ-الأخلاقيّ بالدرجة الأولى، فتدحرج على أكمات من صخور، ليبدو في إفلاس وجوديّ وليس في إفلاس ماليّ. فالأزمات عديدة، وتراكمها سار ضمن دائرة واحدة، عنوانه في الأصل التطبيع مع إسرائيل ضمن منظومة الشرق الأوسط الجديد. من هنا بات لزامًا على الجميع الإقرار بأنّ الحريريّة السياسيّة بشكلها الفضفاض، وبعناصرها المستجمَعة بواسطة الرأسمالية المتوحّشة، ظهرت ومنذ لحظاتها الأولى طريقًا مفتوحًا لإنجاز التطبيع، اقلّه عن طريق المواصلات، بمجموعة اتوتسترادات، وهذا مثبت في الكثير من الأدبيات الظاهرة منها وغير الظاهرة.
انكشف اتجاه الحريريّة السياسيّة ماليًّا وسياسيًّا نحو التطبيع مرّتين بصورة جليّة. المرّة الأولى كانت خلال المفاوضات التي قادتها الولايات الأميركيّة المتحدة بين دول المحور العربيّ وإسرائيل بدءًا من واشنطن إلى أوسلو إلى كمب ديفيد وواي بلانتيشن. في تلك اللحظات صدر كتاب لشمعون بيريز عنوانه الشرق الأوسط الجديد، وعدّ ذلك الكتاب خريطة طريق كانت مطلاً غير مباشر للحريريّة السياسيّة من الخلفيّة الأميركيّة لتهيئة لبنان ليكون جزءًا منه. والمرّة الثانية انكشفت في الرابع من تمّوز سنة 2006 لحظة بدء الحرب الإسرائيليّة على لبنان، وكانت بدعم خليجيّ، راهن أركان الحريريّة السياسيّة على نهاية حزب الله عن طريق الغارات الإسرائيليّة ليصار بعد ذلك إلى فرض هذا النظام، ولكن بمفهوم مختلف عن مفهوم شمعون بيريز عنوانه الفوضى الخلاّقة، بحسب برنارد لويس وتبنّي كونوليزا رايس. ومفهوم الفوضى الخلاّقة بالمنظور الأميركيّ يبقى الأمثل والأفضل وربّما الأكمل في نقض الأنظمة ليصار إلى ترميم أخرى كبدائل عنها. هذا مفهوم أميركيّ-إسرائيليّ موحّد لاستباحة المشرق وخلق أنظمة جديدة وبعثها إلى الوجود. راهنت الحريريّة السياسيّة على ترسيخ هذا المفهوم بعمق كبير، وعملت جاهدة كذراع من أذرعة أميركا لتكوين ذاتها ضمن دائرة الشرق الأوسط الجديد كرهان استراتيجيّ جوهريّ رسخ في قراءاتها وأدبياتها. لقد جاءت الانطلاقة من بيروت على وجه التحديد بيقين تامّ بانّها عماد التكوين الجديد الذي كان منتظرًا وعموده. فعمدت على سلخها من إطارها الوطنيّ الكبير، وتحويلها إلى شركة عقاريّة مساهمة ومنكشفة على هذا المشروع الخطير. فتستحيل نافذة كبرى لانسيابه ماليًّا واقتصاديًّا وعقاريًّا، عن طريق رفع أسعار العقارات بتورّم وتوحّش قلّ نظيره. فتهجّر أهلها الأصيلون والأصليون عنها، وتحوّلت أملاكهم وعقاراتهم إلى أسهم ضمن تلك الشركة، وبعضهم أصيبوا بازمات صحيّة ونوبات قلبيّة أدّت إلى وفاتهم أو عطب بعضهم. لقد أعدت بيروت بشركة سوليدير بهذا المعنى ومن خلال الحريريّة السياسيّة لتكون المنطلق والمحتوى للشرق الأوسط الجديد بالمفهومين الإسرائيليّ-الأميركيّ وبدعم سعوديّ استهلك تسوية الطائف في سبيل تأمين الغطاء.
تفريغ لبنان من محتواه السياسيّ والاقتصاديّ والماليّ والبشريّ والثقافيّ والتراثيّ هدف استراتيجيّ قائم في عقل المؤسس للحريريّة السياسيّة باصولها وفروعها. لم تكمن الخطورة بالتفريغ فقط، بل بعدم مواجهة منظّميه من قبل عهدين على الأقلّ، وهما عهدا الرئيسين الياس الهراوي وميشال سليمان. وحده الرئيس العماد إميل لحود عاين المضمون وفهم تداعياته بمعاييره المنهجيّة المتبعة والمتماهي بها الداخل والخارج معًا، فانبرى للمواجهة بشراسة، وهذا هو سبب الأزمات المحتدمة بينه وبين الرئيس الراحل رفيق الحريري، ومن ثمّ مع الرئيسين فؤاد النسيورة وسعد الحريري، ومع شركاء تلك المدرسة. والآن يقف الرئيس الجبل ميشال عون في مواجهة هذا الخطّ، وقد كان أوّل من كشف عوراته حين كان رئيسًا للتيار الوطنيّ الحرّ.
ربّ سائل لماذا العماد ميشال عون أرسى تسوية مع الرئيس سعد الحريري، وهو يعلم بأنّ الحريري ليس وليد ذاته بل يمثّل هذا الخطّ عينًا وهو عامل على انبلاجه رويدًا رويدًا؟ لا بأس إن أتى الجواب وسطيًّا بعض الشيء، فلكلّ تسوية إيجابيّاتها وسلبيّاتها، والحياة السياسيّة لا تصحّ من دون تسويات، هذا هو التاريخ، كلّه تسويات. والتسوية، وبتقييم بسيط، لم تنحصر أهدافها بوصول ميشال عون إلى رئاسة الجمهوريّة، بقدر ما رنت بتوق التيار الوطنيّ الحرّ لترسيخ الفلسفة الميثاقيّة بكمالها وبهائها بوصول من يمثّل الوجدانات الطائفيّة بأكثريّتها المطلقة، وائتلافهم معًا في مواجهة القوى التكفيريّة ورسم مستقبل جديد للبنان. فاتضح للعيان بأنّ الرئيس سعد الحريري لم يتماسك في قلب التسوية الجديدة، ولم يعتبرها مسرى لحياة سياسيّة جديدة له ضمن نهج جديد يقف به إلى جانب رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون. لم يكن منسلخًا عن حريريّة سياسيّة تزاوجت فيها سلوكيات التفريغ بسلوكيات الفساد عبر شركاء فاسدين أوصلوا لبنان إلى ما هو عليه الآن من مديونيّة مهولة.
طفر لبنان ناتج من السلب والإفراغ والفساد. وظفر لبنان سيكون من صلابة التلاقي الراقي والمبدع ما بين رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون ورئيس الحكومة الدكتور حسّان دياب. هذا الثنائيّ بتفاعله الأخّاذ والمسؤول، أرسى قيم المواجهة مع تاريخ انفجر في زمننا الحاليّ ويحاول حرق المستقبل بنيرانه العبثيّة. هذه القيم بثقلها الأخلاقيّ والمعنويّ ستتطوّر وتترسّخ في أرض الواقع ضمن مجموعة إجراءات سيلمسها اللبنانيون بقوّة وبصورة تدريجيّة عبر جرعات عقلانيّة أي غير عشوائيّة. فالرئيس عون متحسّس ومتلمّس لعبء ذلك التاريخ المنفجر في الحاضر، ومتحفّز في الوقت عينه، لرساليّة المواجهة المفروضة علينا، بسلّة إجراءات لا بدّ منها. التفريغ الماليّ أوصل لبنان إلى ارتفاع منسوب المديونيّة، وقد أوضحنا خطورة التفريغ الماليّ المستمرّ بالمعاني والرؤى والأهداف، وهو متوشّح بمبدأ الاقتصاد الريعيّ أنّه أخذ لبنان إلى أن يكون رهينة للآخرين. من أهم ما قاله الرئيس حسان دياب في هذا الخصوص: "هل يمكن لبلد أن يقوم اقتصاده على الاستدانة؟ هل يمكن لوطن أن يكون حرًّا إذا كان غارقًا في الديون؟ نحن اليوم ندفع ثمن أخطاء السنوات الماضية، فهل علينا أن نورثها لأولادنا وأجيالنا المقبلة؟ لقد أصبح الدين أكبر من قدرة لبنان على تحمله، وأكبر من قدرة اللبنانيين على تسديد فوائده. كل الإقتصاد اللبناني بات أسير تلك السياسات، وأصبح قائما على فلسفة الاستدانة التي تراكمت مع الفوائد، من دون أي أفق لكيفية الخروج من هذا النفق الذي قضى على القطاعات الانتاجية في الاقتصاد الوطني."
لقد تبيّن بأنّ الإفراغ الماليّ المقدّمة الجوهريّة لإفراغ وجوديّ أوصل لبنان إلى أزمة كيانيّة ممدودة نحو آفاق مسدودة. توطين الفلسطينيين ودمج السوريين هدفان لهذا الإفراغ. إنّهما ورقتان للضغط والابتزاز (الأميركيّ-الإسرائيليّ). نزع سلاح حزب الله بدوره هدف كبير، وهو غير مرتبط حصرًا بالصراع مع إسرائيل ضمن مفهوم السلاح الردعيّ، أو بالصراع في سوريا الذي حدّ كثيرًا من تسلّل التكفيريين إلى الداخل اللبنانيّ وقد قضى عليهم. بل نزعه مرتبط بتوطين الفلسطينيين ودمج السوريين، لكونه يشكّل سلاحًا مانعًا، وداعمًا لعودة السوريين إلى قراهم وبلداتهم، ومحفّزًا الفلسطينيين ليتذكّروا أن لديهم وطنًا يجب أن يعودوا إليه. النأي بالنفس لمن لم يقرأ معناه حجاب للتوطين والدمج، إنهما الثمنان المفروضان علينا ليصار بعدها إلى مساعدتنا ماليًّا.
قرار الرئيس حسّان دياب بعدم الدفع تاريخيّ وإنقاذيّ في آن، وهو في الأصل قائم في عقل الرئيس ميشال عون. لو دفع لبنان اليوروبوندز، وبحسب ما تبيّن، لكان أوصل لبنان إلى فوضى خلاّقة طويلة الأمد تكون المقدّمة لإنهائه. الحرب الماليّة على لبنان منذ 17 تشرين الأوّل 2019 أو ما قبل هذا التاريخ بقليل، ليست لإهاء عهد، بل لإنهاء بلد بمؤسساته، كما كانت الحرب العسكريّة على سوريا بهدف إنهائهان وليس فقط بهدف إنهاء النظام. والحرب الدائرة على العراق بدورها مستنسخة عن الحرب على لبنان وسوريا. قرار الرئيس دياب بداية مباركة للغوص في مفاوضات جذريّة مع الدائنين، وهذا سيكون بالتوازي مع إجراءات إصلاحيّة وترميميّة تعيد الاعتبار للاقتصاد المنتج، وتكافح الفاسدين فتستعيد الأموال المنهوبة منهم، وتفرض نظامًا على المصارف تستعيد من خلاله أموال المودعين التي أخرجوها من دون علم المودعين وإرادتهم وهم يحجبونها عنهم عنوة من ضمن خطة مبرمجة مندرجة بسياق الحرب الأميركيّة الماليّة على لبنان.
الحريريّة السياسيّة سبب إفراغ لبنان بالكامل، والمواجهة ليست معها بالعناصر المرتبطة بها أو مع حلفائها، بل معها كذراع من الأذرع الخارجيّة التي قادت لبنان إلى هذا الدرك الخطير من تاريخه.
لن يبقى لبنان ضحيّة طفر متعمّد ومتهوّر، بل سيعلو بظفر متوهّج ليستعيد حضورًا مضيئًا بعدما خفت طويلاً.