كبرت رانيا في تلك المنطقة – التي تعتبرها “الأجمل في تونس” – وهي ترى نساء القرية يذهبن يوميا للبحث عن مياه الشرب، وكانت هي أيضا تذهب مع بنات عمها في الصيف للمساعدة في العثور على عيون ماء وتعبئة “البيدونات” وأخذها للبيت، لكنها أدركت لاحقا أن هذه “الرحلة الجميلة” هي في الواقع معاناة يومية قاسية تعيشها نساء في بعض المناطق الريفية في منطقة جندوبة؛ فجلب مياه الشرب مسؤولية المرأة لا الرجل في تلك الأرياف.
تركت رانيا مشرقي قريتها بعد أن حصلت على شهادة الثانوية العامة لتدرس في العاصمة، وحصلت على شهادة ماجستير في البيولوجيا، ثم درست الإرشاد السياحي وأصبحت تعمل مرشدة سياحية لزوار جبال المنطقة التي تعرفها جيدا.
ثلاثون عاما ورانيا تشاهد أمها، شهلة، تذهب كل يوم إلى الوادي لجلب الماء: “العالم كله تطور، إلا القرية لم تتطور. مشكلة الماء مشكلة من أبد الدهر. أسأل نفسي لماذا؟ كلشي يتطور إلا هذا الموضوع. وصل لدارنا الإنترنيت، ولم يصل الماء”.
“لماذا يجب على المرأة أن تحمل الماء على ظهرها أو على الحمار، وتمشي كيلومترات كثيرة ونحن في عام 2020. أنا درست وتعملت لذا تستنجد بي أمي وتقول لي ‘أنا لا أعرف الكتابة.. أنت اكتبي عنا”، كما تقول رانيا.
النساء يذهبن مشيا إلى الجزائر.. غضبا
لم تنتظر شهلة، ذات الـ 48 عاما، أن تنشر ابنتها قصتها على فيسبوك، بل اتخذت هي نفسها ما رأته مناسبا: نظمت مسيرات احتجاج لنساء القرية المتعبات عدة مرات طوال السنوات السابقة.
فبصفتها الخيّاطة التي تقصدها النساء اللاتي يعشن في الجوار في بيوت متباعدة، لدى شهلة أرقام هواتف كل النساء، وهن حوالي 50 امرأة، فتتصل بهن للاتفاق على المسيرة. وكانت آخر هذه الاحتجاجات يوم الأحد 23 شباط؛ حيث خرجت نساء ومعهن أزواجهن وأبناءهن باتجاه سد في المنطقة.
تقول شهلة عبر الهاتف: “النساء نظمن المسيرة، وعندما سمع الرجال بها خرجوا معنا. تعبت بسبب بعد عيون الماء، والنساء تعبن. وعندما اقترح عليهن الخروج في مسيرة يوافقنني.. كل امرأة تقول لي: أنا معك”.
وقبل نحو أربع سنوات، خرجت النساء في مسيرة وعبرن الحدود ودخلن الجزائر لغضبهن من عدم توفر ماء الشرب.
تتذكر شهلة: “قطعنا الحدود لتسمعنا السلطة في تونس. استقبلونا على الحدود الجزائرية وقالوا لنا ‘أهلا وسهلا.. املأن ماء ‘، كما جاء رجال الحرس الوطني التونسي وطلبوا منا أن نعود إلى بيوتنا وقالوا إنهم سينظرون في مشكلتنا، لكن لم يتغير شيء”.
“عالم آخر”
مسيرة النساء الأخيرة كانت باتجاه سد قريب من بيوتهن، يبعد حوالي 3 كيلومترات – لكن هذه المسافة لا تقارن بالمسافة التي تقطعها النساء عادة للوصول إلى عين ماء سواء مشيا أو ركوبا على الحمير.
تتراوح هذه المسافة بين 10 و 20 كيلومترا – يوميا، ويزداد عدد الرحلات اليومية لجلب الماء في فصل الصيف لأن كثيرا من منابع الماء تجف وقتها.
كل ما تريده شهلة وبقية النساء الساكنات في تلك المناطق البعيدة من الحكومة هو أن يصل الماء إلى الطريق القريب من البيوت بدلا من الذهاب إلى منابع الماء، وتبدو واقعية في مطالبها وتعرف أن الماء لا يمكن أن يصل بيتها.
كما تضيف أن المسؤول الذي التقاهم يوم المسيرة الأخيرة اقترح عليهم المشاركة في التكاليف، وقالت إن الكل قبل بذلك وقلن إنهن سيجدن طريقة لجمع المبلغ المطلوب.
“في السابق أوصلوا لنا الماء إلى حنفيات في الطريق قرب الدار، وكنا راضين بهذا الوضع. واستمرت هذه الحال 3 سنوات فقط – قبل الثورة التونسية – وكنا منظمين، ثم انقطع عنا الماء وعدنا نشرب مثل الأول من المنابع”.
يسكن 420 ألف شخص في ولاية جندوبة؛ 64 بالمئة منهم يعمل بالفلاحة.
ويوجد في الولاية سدان من أكبر السدود في تونس (سد بني مطير وسد بوهرتمة)، إلى جانب ما يقارب 40 بحيرة جبلية – لذا يحتج سكان المنطقة على عدم توفير المياه لهم رغم هذا الغنى المائي.
رجال المنطقة “كسالى”
إلى جانب الضغوط التي تعيشها النساء بسبب اضطرارهن لتوفير مياه شرب للبيت، تبدو النساء عالقات في مشاكل اجتماعية؛ ويقال عن رجال المنطقة إنهم “كسالى” إذ يمضون أوقاتهم في المقاهي أو يقومون بأعمال موسمية لشهر أو اثنين فقط مثل جمع الفلين، كما أن العقلية السائدة هناك هي أن المرأة هي التي تخرج للعمل في الفلاحة وهي المسؤولة عن باقي المهام الشاقة بما فيها تأمين الماء للبيت.