أتى القرار الذي اتّخذه القاضي علي إبراهيم أمس في حقّ المصارف ليثبِت مرة جديدة أن القطاع المصرفي هو دولة فوق الدولة. وأن سياسة الطمع والجشع التي يمارسها محميّة بأركان السلطة التي هبّت للدفاع عن المصارف بدلاً من الدفاع عن الفقراء. والغريب أن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وقفَ في الصفوف الأولى لحمايتها دافعاً الى تجميد القرار
بينما كانَت الأنظار شاخصة الى الموقِف اللبناني الرسمي المُتوقّع إعلانه في ما خصّ سندات «اليوروبوند»، ذُهِلت البلاد أمس بقرار غير مسبوق للنائِب العام المالي القاضي علي إبراهيم، قضى بوضع إشارة «منع تصرف» على أصول 20 مصرفاً لبنانياً، وإبلاغه الى المديرية العامة للشؤون العقارية وأمانة السجلّ التجاري وهيئة إدارة السير والآليات وحاكمية مصرف لبنان وجمعية المصارف وهيئة الأسواق المالية، مع تعميم منع التصرف على أملاك رؤساء مجالس إدارة هذه المصارف.
الخطوة المُفاجئة، والجريئة، للقاضي إبراهيم، والتي كانَ من الواجِب استتباعها بخطوات أكبر، ووجِهت بحملة مكثفة من الضغوط، وأثبتت مرة جديدة، وبما لا يقبل الشك، أن سياسة الجشع والتعسف التي مارستها البنوك محمية من رؤوس كبيرة في الدولة، وأن القطاع المصرفي في لبنان هو «دولة فوق الدولة». كما أعدت كشف العلاقة المشبوهة بين مُلكية المصارف وقوى سياسية هبّت أمس لحماية البنوك بدلاً من حماية الفقراء، وخصوصاً أن القرار القضائي هو قرار تمهيدي يصبّ في إطار مُساءلة المصارف بعدَ الإجراءات غير القانونية التي اتخذتها، بداية من احتجاز أموال المودعين الصغار، وصولاً الى التضييق في المعاملات المصرفية والتحويلات الى الخارج بعدما هرّبت أموال أصحاب المصرف وكبار المساهمين.
ما حصل أمس أظهر وجود كتلة كبيرة من القوى السياسية واصحاب المصارف ووسائل الإعلام المُصرّة على منع أي إجراء جدّي لمعالجة الأزمة، ولا سيما إعادة هيكلة الدين العام والقطاع المصرفي أو اللجوء الى عمليات من نوع الـ«هيركات» (شطب جزء من الديون ومصادرة جزء من الودائع الكبيرة). وتجميد القرار يعني حسماً مبكراً لمعركة تحديد الجهات التي ستدفع كلفة التصحيح، وقد باتَ واضحاً أن الجهات السياسية التي استنفرت في وجه قرار إبراهيم تريد أن تحمّل الناس هذه الكلفة وتعفي المصارف وكبار المودعين منها، على رغم أنهم السبب الأول في الأزمة الاقتصادية والانهيار الذي يواجهه البلد. والأخطر هو وجود معلومات عن كون حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، يتعمّد تنفيذ إجراءات تؤدي إلى رفع سعر الدولار في مقابل الليرة اللبنانية في السوق الموازية، بهدف الضغط على الحكومة للتراجع عن قرار عدم دفع الدين العام بالدولار (سندات اليوروبوندز)، وتحميل رئيسها حسان دياب مسؤولية تراجع قيمة العملة الوطنية، تمهيداً لإسقاطه في الشارع. وتشير المعلومات المتداولة إلى أن ما يقوم به سلامة يُنفَّذ بالتكافل والتضامن مع مصرفيين كبار، ويحظى بتغطية سياسيين نافذين من «حزب الناهبين».
قرار إبراهيم لم يستنفِر أصحاب المصارف حصراً، بل شركاءهم من سياسيين وغير سياسيين هبّوا للدفاع عن القطاع وحمايته. وبينما كان هذا التصرف متوقّعاً من البعض كرئيس الحكومة السابق سعد الحريري والنائب السابق وليد جنبلاط وباقي فُتات فريق 14 آذار، فإن التصرف الصاعق خرج من قصر بعبدا، حيث تقدّم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون جيش المُدافعين عن القطاع الذي سرق أموال الناس ويعمَد الى إذلالهم يومياً، فكانَ أول من تصدّى للقرار. وبدلاً من أن يتصدّر المقام الأول في الدفاع عن القرار، كسر سجله «الأبيض» ووعوده بالمحاسبة، وذهب الى تسييس القرار وتمييعه، واضعاً إياه في إطار «حرتقة من رئيس مجلس النواب نبيه بري لإطاحة العهد»، ووقفَ في صف رئيس جمعية المصارف سليم صفير. فبعد اتصال من الأخير، تواصل عون مع المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات وطالبه بتجميد القرار. فيما قالت مصادر قضائية لـ «الأخبار» أن رئيس الحكومة حسان دياب استدعى عويدات، وأبلغه بأنه «بعد قرار المدعي العام المالي، بدأت المصارف العالمية بإخراجنا من النظام المالي العالمي، وهذا القرار يجِب التراجع عنه». لكن مصادر حكومية أكّدت لـ«الأخبار» أن دياب قال لمدعي عام التمييز إن «القرار فيه ثغرة قانونية يجب معالجتها، بشكل يمنع الحجز على أموال المودعين أو أصول المصارف خارِج لبنان، طالباً منه تعديل القرار وفقَ هذه المعطيات لا إلغاءه أو التراجع عنه».
وبينما صدر عن المكتب الإعلامي للرئيس بري بيان أكد أنه «لم ولن يتدخل في عمل القضاء في يوم من الأيام، وكل الأخبار التي تحدثت عن أنه يقف وراء القرار غير صحيحة جملة وتفصيلاً»، قالت مصادر عين التينة لـ«الأخبار» إن «كل ما يحكى عار من الصحة، صحيح أن موقفنا معروف من قضية اليوروبوند والسندات وإننا ضد الدفع، لكننا لا نخلط الأمور ببعضها»، وأضافت المصادر إن «المصارف أخطأت في الكثير من الإجراءات التي قامت بها، ولا يجوز تصويرها وكأنها بريئة بالمطلق».
مصادر رفيعة في التيار الوطني الحر وصفت قرار القاضي إبراهيم بـ«العشوائي»، لأنه «يقضي على ما تبقّى من القطاع المصرفي». ولفتت الى أن هذا القطاع «بالتأكيد بحاجة الى إعادة هيكلة، وبعض أصحاب المصارف متورطون في تهريب الأموال الى الخارج وفي تسريع الانهيار»، إلا أن «هاجسنا الأساس هو الحفاظ على أموال المودعين، وإقفال المصارف أو دفعها الى إعلان افلاسها يضيع على هؤلاء مدخراتهم». المصادر نفسها أشارت الى أن القرار «تشوبه عيوب قانونية»، إذ «لا يوجد شيء اسمه منع التصرف بالأصول لأن الديون هي أيضاً من الأصول وهذا يؤذي المودعين. كما أن المدّعي العام يدّعي ولا يحكم». وسألت: «هل كان التحقيق مهنياً؟ ولماذا لم يشمل بعض المصارف التي تنطبق عليها شروط الادعاء، فيما ادّعى على مصارف ثبت أنها لم تحوّل أموالاً الى الخارج بعد 17 تشرين ولم تتاجر باليوروبوند أبداً؟». من جهة أخرى، أكدت المصادر «أننا مع إعادة هيكلة الدين حتماً وعدم دفع المبالغ المتوجبة علينا حالياً، لكننا مع أن يجري ذلك بالتفاهم وبالتفاوض مع الجهات الدائنة».
ومن أول المستنفرين بعد رئيس الجمهورية، كان الرئيس الحريري الذي غرّد عبر حسابه على موقع «تويتر» حول القرار قائلاً «وضع اليد على المصارف بالطريقة التي جرى الإعلان عنها انقلاب على النظام الاقتصادي وخطوة تعيد لبنان إلى زمن الأنظمة الشمولية». وتبعه جنبلاط «الاشتراكي» بتغريدة اعتبر فيها أن «القرار بداية خطة لتأميم المصارف وغير المصارف في بلد فيه ازدواجية سلطات، ويبدو المطلوب دفن لبنان الكبير في مناسبة المئوية». أما النائب نهاد المشنوق فاعتبره «إعلان حرب عديمة المسؤولية مع المصارف، في ذروة خوف الناس على ودائعها وعلى سعر صرف الليرة. وهو يأتي في لحظة قلق الناس على ودائعها، من خلال بيان مبهم نشر في الوكالة الوطنية أشبه بالبيان الرقم واحد. وهذه خطوة تفتح الباب أمام كمّ هائل من الشائعات وعلى حرب ضدّ أموال الناس العالقة في الوسط بين الطرفين، المصارف والسلطة السياسية».
وبعد استنجادها بأوركسترا سياسية وإعلامية هوّلت بخطورة القرار على اعتبار أنه «يضرب استقرار القطاع»، نشرت الجمعية العمومية للمصارف خبراً أقرب الى الابتزاز والتهديد بورقة الإقفال، قالت فيه إنها «ستجتمع لتبحث في إمكانية اتخاذ قرار بإقفال المصارف حتّى تاريخٍ غير محدّد»، لكنها عادت وأعلنت أن «اليوم هو يوم عمل عادي في المصارف» قبلَ دقائق من إصدار القاضي عويدات قراراً بتجميد قرار إبراهيم ومفاعيله، بعدَ لقاء جمعه مع وفد من الجمعية.
تجدر الإشارة إلى أن المدعي العام المالي اتّخذ قراره بعد استماعه إلى إفادات صفير ورؤساء مجالس الإدارة وممثلين عن المصارف، بشأن تحويل الأموال إلى الخارج، بعد 17 تشرين الأول، والتي قاربت 2.3 مليار دولار، وفق المعلومات المتوافرة، كما قبل هذا التاريخ. وتركز التحقيق على أمور أخرى، أبرزها عدم تمكين المودعين من السحب بالدولار من حساباتهم ووقف عمليات التحويل إلى الخارج للمودعين، والتثبت ممّا إذا كانت المصارف قد التزمت بزيادة رأسمالها لدى مصرف لبنان، إضافة إلى موضوع الهندسات المالية وبيع سندات اليوروبوند اللبنانية إلى الخارج.