"قد تناهى الليل واقترب النهار، فلنخلع عنّا أسلحة الظلمة ونلبس خوذة النور"
(رو13: 12)
أجمل ما يمكن التماسه في لحظات الصيام الممتزجة بوجع نعيشه في لبنان وفي زمن التغييرات المحوريّة المهيمنة على حياتنا، ذلك اللقاء بين تلميذيّ عمواس والسيد المبارك من بعد قيامته. إلتقيا به ولم يعرفاه إلاّ عند كسر الخبز، لكنهما رجواه من دون معرفته قائلين امكث معنا يا سيد فقج مال النهار، أي أن العتمة قد بدأت تهيمن في الخارج، وإذا ساغ الإيغال "صوريًّا" بعض الشيء، ومن دون مبالغة، فإنّنا نستنتج بأنّ النهار مال، ولكنّ السيّد هو النهار، هو النور والنار، نور للساكنين والمرميين في ليل الخطيئة والمآسي والآلام، نور للعميان في عقولهم وبصائرهم، ونار للخطيئة يحرقها بحضوره الدائم في حياتنا الشخصيّة والأمميّة.
ليس أجمل وأنت تتّجه نحو الصيام، من أن تلاقي السيّد، أو تلتقي به. ستعرفه بالكلمة أو القرابين، ستذوقه حلوًا طيّبًا، ولكنّ البهاء أن تراه في كلّ أخ حبيب، لأنه قد اتخذه مطّلاً له نحوك. لعلّك تلتقي به في الطريق، فيبدو لك بعض الشيء غريبًا، فهل سيكون لك كلام أو سيكون هو كلّ الكلام؟ أنت فقط قل له تعال يا سيّد فقد مال النهار، وأنت نهارنا وحياتنا. تعال لتكون أنت حياتنا ومجدنا، لأننا قررنا أن نحطّم كل كبرياء وبطر وسكر وفحش وعهر، قررنا أن نبطل فينا المجد الباطل والأحلام الفارغة لتمكث عندنا إل الأبد، قل تعال فتراه يأتي بخفر كالنسيم العليل المنعش ياتي ليسكن حياتك. هذا أوان الكلام، لأنّ علامات الأزمنة التي تكتنفنا وتحيط بنا مدى للنداء والدعاء. السيد يسمعنا حميعًا، "يسمع تنهّد المقيّدين ويحلّ بني المائتين"، كلّ مسيرته أن يسمع ومن ثمّ يتكلّم. إنّه يسمع على الرغم من أنه يعرف معاناة البشر، يعرف ما في القلوب والكلى. إن سمع أنينك فإنه يمطر الشفاء بالنعمة، والنعمة كما قال حزقيال النبيّ شهد عسل وشفاء للعظام. هي تنزل عليك لتحرّرك من كلّ معطوبيّة ومرض واسترخاء، لتقيمك في الشفاء. لكنّ الأساس أن تقول له تكلّم يا رب فإن عبدك يسمع. أنت وعاء للكلمة وهي تقودك في هذا الصيام إلى متجليات الضياء.
في هذه الرحلة المباركة التي نشتهي بها معانقة الختن الحبيب، تعصف بنا مجموعة محن كبرى، نحن معنيبون للتحرّر منها. أولى المحن تلك الحروب التي تخاض على وجودنا في لبنان وسوريا والمشرق عمومًا، وقمّة الحرب ظهرت في فلسطين وطن يسوع. في سنة 2011 زرعوا قوى تكفيريّة انكشف القصد واضحًا من زرعها، فهي ليست لإسقاط أنظمة ودول ومؤسسات هنا وثمّة بل لإسقاط المدى المشرقيّ برمته ومعه تسقط فلسطين قبلة وجودنا الخلاصيّ. سطّرت مجموعة مقالات أدخلتنا بتقييمات سياسيّة واقتصاديّة، حدّدت هوية الزارعين والمزروعين للشغب والفوضى. ولكنّ الذروة البادية أنّ ثمّة تقييمًا أشمل وأعمّ وجوديّة وهو أن الحرب على المشرق برمته لأنّ المشرق بامتدادته الجغرافيّة والبيولوجيّة، وبآفاقه التكوينيّة الروحيّة جسد المسيح المديد، وليس مجرّد صخور وأتربة وجيال وأودية، وليس لأنه حاو لثروات نفطيّة ومائيّة. هذه أسباب طمع تدفع للحروب. غير أن المسيح يسوع بترثنا الكنسيّ مشرق المشارق (لقد افتقدنا مخلصنا من العلى، المشرق للمشارق). من المشرق جاء مَشرقًا للمشارق ومُشرقًا في رحابه. إنّ قوى الشرّ تمدّ أياديها إلى لبنان وسوريا وفلسطين والعراق والأردن، لأن هذا المدى ليس بمدى لو لم يحمله المسيح بذاته، أو لو لم يتجسّد فيه ومنه في آن. أرومتنا من أرومته، والحرب علينا لأننا من هذه الأرومة الخلاصيّة المضيئة والساطعة، فنحن منه وهو منّا، إنه "النحن" و"الأنا"، و"النحن" و"الأنا" هو. ليس من تمايز بين المسيح وجبلته، ناسوته من ترابنا وتاريخنا، ولاهوته الأزليّ كتب لنا تاريخًا جديدًا موصولاً بحياة أبديّة.
ليست الحروب لاقتلاعنا بالشكل بل بالجوهر، سواء جاءت ماليّة أو اقتصاديّة أو عسكرية أو أمنية. بناء الشراكة مع المكونات التكوينيّة هنا وثمّة لم تكن مع المسيحيين بحلتهم السياسيّة ولكن مع المسيحيين لأنهم لابسون المسيح، ولأنهم وإياه واحد. المسيح بداءة كلّ البداءة، وهو لم ينفصل إطلاقًا عن الأديان الأخرى، فهو مكنون في داخلها، في نصوصها وتراثاتها، وممدود باللطف والمحبة إلى كلّ الناس، ومتحرّك بكلّ من ذاق العيسويّة نهج حياة بدماثة واقتبال لكلّ آخر كما هو متحرّك بكلّ من تعمّد بالماء والروح. ليس من انفصال بين من تعمّد ومن لم يعتمد، إلاّ بالممارسة والنصوص، ومن قال بأنّ المسيح محجوب في النصوص، من قال بأنّ النعمة غير ممدودة بالآخرين ومسكوبة في أجوافهم؟ من يحاربون المشرق هم المحرّفون للأديان بنصوصها وتراثاتها، هم المبيحون لصراع الآلهة، والمنتجون لأرض اليباب. من يحاربون المشرق هم المحاربون لوجود المسيح على هذا البهاء المشرق والمطلق، ولوجود مجتمع متجانس ومتلاق ومتحاب ومتصاف، ومدرك في أعماق أعماقه بأنّ الله لا يتصارع مع نفسه (هل الله يتصارع مع نفسه؟) فمتى تصارع تمزّق ومتى تمزّق مات ومات معه التاريخ كلّ التاريخ. من يحاربون المشرق أي المسيح نفسه يتوسّلون الله متصارعًا مع نفسه. حدود الصراع هنا وليس له توصيف أو اصطفاف آخر.
تاريخ المسيحيّة بني بالشهادة. لم يبنَ بالقتل المجانيّ والجملات. الدم العبثيّ المراق على المذابح العدميّة لم يجلب علينا سوى اللعنات، إنه دم هابيل المستديم وقابيل يقتل دومًا اخاه. المسيحيون الأول سكروا بيسوع، ابتهجوا بقيامته. كان وحده قضيّتهم، ولأجله كما قال بولس الرسول كانوا يماتون ويضظهدون ويعرون ويلطمون ويضطهدون. كانوا يماثلون آلام المسيح بأجسادهم، ولا يخشون من سقط دمائهم. الموت عندهم كان ربحًا. هل يعلم بنو قومي وجلدتي، بأن آلهة الأكروبوليس باليونان وهالات الآلهة في روما وهامات الأباطرة وقامات الجبابرة فيها قد سقطت وتدحرجت واضمحلت وتبخرت لأانّنا حملنا إنجيل الرب، وواجهنا الأمم بالكلمة، فواجهونا بالاضطهادات وطحنت أجسادنا وسالت دماؤنا في ملاعب روما، وقطعت رؤوس رسل وقديسين وبعضهم صلبت أجسادهم، وفي كلّ هذا كان دم يسوع يسري في العروق، ويتحوّل إلى نور في دياجير الأقبية وداخل الأجساد المتحركةن فنتصرت المسيحية وشعّت. دمنا المقدّم للمسيح في لحظات الشهادة كان دم المسيح في المقابل يرفعنا إلى المزيد من النصر والثبات. لقد سقطنا لحظة حملنا السلاح وقاتلنا، وجولنا المسيحيّة من مسيحيّة إلهيّة تتحرك فيها جداول الألوهة إلى مسيحية سياسية تارّة تلتبس بشرق وغرب، وتارّة أخرى يتقاتل أهلها مع بعضهم، وطورًا يقاتلون سواهم. الدم العبثيّ المهراق بسبب الحملات الصليبيّة كان بداية التحوّل الجذريّ من المسيحيّة الإلهيّة إلى الانحسار في حدود التاريخ والتجمّد في ميكانيزم العدد، القسطنطينيّة سقطت، لأن قتال الإخوة أبطل المسيح فيها قبل أن يبطله الآخرون، الانحسار في التاريخ وأنظمته جمّد الشهادة، ومتى تجمدت الشهادة بطل الوجود وسقطت أعمدته. لا أحد في هذا الزمن يطلب الشهادة الدمويّة بالمطلق، العبرة من التاريخ أن يتحفّز المسيحيون، في دول المشرق لا سيّما في لبنان وسوريا، لكي لا تتزعزع قلوبهم ونفوسهم، نحن بصورة مباشرة ورثة يسوع المسيح الحيّ فينا وفي الوجود، نحن ورثة لمن يحركنا، أو نتحرك به، ونوجد به وله. إنّه الحيّ الظافر على موتنا بموته في لحظات قيامته. من هنا يتجلى صيامنا. نحن نصوم له لكي يكون فينا الحركة والبركة، لكي يمكث عندنا حتى يبقى النهار به مشرقًا. نحن نصوم لأننا نحبه بوجوده وحضوره، نحبه بتجواله وصولاً إلى آلامه وقيامته. نحن نصوم لأنّنا نريده في سيدًا على حياتنا، أو ليكون هو حياتنا. نصوم لأنه شفاؤنا في انتشار الأمراض والأوبئة في محيطنا، لا نصوم لكي نتقشّف عن الأطعمة والأشربة، فالأطعمة للجوف والجوف لها والله سيبيد هذه وتلك. نصوم فقط لنقول له تعال أيها الرب يسوع لتكون أنت حياتنا، ومن بعدك ليس من حياة. نصوم لكي يثبت فينا في بلداننا لكي يظلّ وحده وجودنا. نصوم لكي ينتهي هذا البطر والسكر بالأمجاد الفانية لأننا عالمون بأن المسيح هو مجدنا الباقي، نصوم لكي ينقذنا من هذا البلاء والوباء، من الفاقة والعوز، نصوم لكي تبقى كرامتنا جزءًا من كرامته. متعة الصوم فقط تتجلى بمحبتنا وطاعتنا وإسلامنا له بمحبتنا لكلّ آخر مقيم معنا وفيما بيننا.
سنصوم ونكثف الصلوات لأجل لبنان والمشرق، لكي نستمرّ فوق الجور والظلم، وننتصر على الشرور بالمسيح يسوع. لا تتوقفوا عن الطلاة، إملأوا الكنائس بوجودكم، قدّموا المحبة لبعضكم لأنها ستقدّم ليسوع نفسه. أحبوا وتسالموا ولا تبغضوا بعضكم، تجنبوا المساوئ، والتجريح، أبطلوا في هذا الموسم المسيحيّة السياسيّة الساقطة وتعالوا إلى إنجيل الرب بالكلمة وإلى القرابين الإلهيّة فتحيوا.
تعالوا نرحل معًا إلى وجه المسيح الحبيب والحلو، وحده ينجينا من الموت. تعالوا نحبه من كل قلوبنا وعقولنا، لنستحقّ في الأسبوع العظيم المقدّس أن نسجد لآلامه الرهيبة ونمنع حصولها بامتناعنا عن الشرور، ونعانقه في اللحظة التي سيعلّق على خشبة من أجلنا، فلا نسمح البتّة بأن يسمّر من جديد بقباحاتنا، لتبقى قيامته المحيية هي الناطقة بنا والموطّدة لوجودنا الآن وغدًا وإلى الأبد.
صوم مبارك للجميع.