اذا كانت العناية الإلهية قد مرّرت يوماً آخر من دون تسجيل إصابات جديدة في لبنان بفيروس “كورونا” جرّاء التردّد الرسمي والحكومي غير المفهوم وغير المبرّر في وقف الرحلات الجوية بين لبنان والدول التي تفشّى فيها هذا الفيروس ولا سيما منها الصين وايران وسواهما، فإن ذلك لا يحجب في أي شكل التفاوت الكبير الذي برز في الساعات الأخيرة بين التصريحات والاجراءات “الكلامية” العلنية والاجراءات الفعلية التي لا تزال تفتقر الى اسباغ طابع الطمأنة الكافية الى مكافحة صارمة لانتشار الفيروس. والواضح كما برز في استقبال ثلاث طائرات أمس من ايران وايطاليا أن السلطات المعنية بما فيها وزارة الصحة ووزارة الاعلام تعتمد تضخيم الطمأنة والاعلان عن إجراءات متشدّدة لمراقبة الوافدين على طائرات من بلدان يتفشّى فيها الفيروس، فيما لا تزال قدرات الدولة غير كافية لإشاعة المناخ المطمئن الى الاجراءات المتشدّدة المطلوبة بدليل عدم اتخاذ قرار نهائي وصارم أسوة بمعظم الدول بوقف الملاحة الجوية لمدة قابلة للتمديد مع الدول التي ينتشر فيها الفيروس أولاً، ومن ثم عدم تنفيذ ما تلتزمه السلطات الصحية من إجراءات على غرار ما حصل أمس في مطار الرئيس رفيق الحريري الدولي لدى هبوط الطائرات الثلاث الايرانية والايطالية قبل الظهر ومساءً.
ذلك أن وزارة الصحة كانت أعلنت عن تدابير لعزل الركاب الآتين من ايران وايطاليا واخضاعهم للفحوص الفورية ومن ثم توجيههم عبر ممرات خاصة في المطار الى باصات خاصة تنقلهم الى مراكز كشفية معزولة لاتمام الحجر عليهم فترة 14 يوماً. لكن الاجراءات الحقيقية اقتصرت على فحوص فورية وملء استمارات في المطار، ثم اطلاق الركاب من القاعة الأساسية للدخول من دون أي إجراءات استثنائية. ومع أن النتائج المسجلة حتى البارحة لا تزال تحصر الاصابات بفيروس “كورونا” في لبنان بالإصابة الأولى فقط، فإن هشاشة الإجراءات وتفاوت الهامش الواسع بين التضخيم والتجميل الاعلاميين الرسميين والقلق المتسع من هشاشة الإجراءات الفعلية يبقي الأزمة في تصاعد ويبقي الحكومة كلا تحت وقع الانتقادات التصاعدية. وهو أمر سيكون محور جلسة خاصة يعقدها مجلس الوزراء اليوم لدرس الاجراءات المتخذة في أزمة “كورونا” وما ينبغي اتخاذه من قرارات خصوصا في موضوع الملاحة الجوية مع البلدان التي ينتشر فيها الفيروس.
وسط هذه الأجواء، لم يغب الهمّ المالي والاقتصادي الذي يرخي بثقله على مجمل الواقع الداخلي في ظل استمرار المحادثات الجارية بين المسؤولين اللبنانيين وبعثة صندوق النقد الدولي الى بيروت. وبرز في هذا السياق موقف فرنسي متجدّد لجهة إبراز اهتمام باريس بتطورات الأزمة المالية في لبنان وهي تكاد تكون الدولة المؤثّرة الوحيدة التي تدأب على إبداء هذا الاهتمام. وفي هذا السياق نقلت وكالة “رويترز” أمس عن وزير المالية الفرنسي برونو لومير قوله للصحافيين في أبو ظبي إن بلاده تدرس خيارات مختلفة لمساعدة لبنان على التعافي من أزمته المالية ومنها برنامج لصندوق النقد الدولي إذا سعت الحكومة اللبنانية الى ذلك. وأعلن لومير أنه بحث الوضع في لبنان مع القيادة الاماراتية، وقال: “نحن مهتمون للغاية”، موضحاً أن الإمارات وفرنسا ستقرّران على نحو منفصل ما اذا كانتا ستساعدان الحكومة في بيروت وسبل ذلك.
وأضاف: “نحن (في فرنسا) ننظر في خيارات مختلفة، ربما برنامج لصندوق النقد إذا طلبت الحكومة اللبنانية واحداً… لكننا لن ندير أي جهد لمساعدة لبنان… كل دولة ستقرر بطريقة سيادية ماذا ستفعل”.
كما نقلت “رويترز” عن مصدر قريب من الحكومة اللبنانية ان لبنان سيعين شركة “كليري غوتليب ستين اند هاميلتون” لتقديم المشورة القانونية في شأن سنداته الدولية، بينما يتوقع المستثمرون ووكالات التصنيف الائتماني أن يعيد البلد المثقل بالديون هيكلة ديونه.
وقال المصدر إن المسؤولين في المراحل الأخيرة لاختيار الشركة التي سيتقرر تعيينها بشكل منفصل كمستشار مالي. ولم يصدر أي تعليق حكومي رسمي على هذه المعلومات.
صندوق النقد
وكان من المنتظر أن تنتهي زيارة وفد صندوق النقد الدولي لبيروت في 23 شباط الجاري، كما كان محدداً في جدول الزيارات التي وضعها الوفد قبل وصوله الى لبنان، إلا أن البعثة أبلغت إدارة الصندوق في واشنطن مساء السبت تمديد هذه الزيارة أقله حتى منتصف الأسبوع لما تستوجبه الملفات المالية من وقت إضافي للبت وتقديم المزيد من المشورة. وفي هذا السياق، أكدت مصادر متابعة للإجتماعات أن وفد الصندوق يشدّد على ضرورة الحل الكامل وليس الجزئي، وعدم القبول بـ”الترقيع” أو بـ”إجراءات جزئية مرحلية” لمعالجة الأزمة غير المسبوقة التي يعانيها لبنان. ووصفت نتائج الاجتماعات بأنها كانت “إيجابية”. فاللقاءات الأولى في بيروت خُصّصت لتقديم الجانب اللبناني شرحاً دقيقاً للخلل الكبير في المالية العامة، كما استمع الوفد الى شروحات لأرقام المالية العامة وميزان المدفوعات، ولاحظت المصادر أن هذه الاجتماعات لم تكن إيجابية “نوعاً ما” في البداية، إلا أنها استكملت باجتماعات إيجابية منذ السبت الماضي، ما دفع البعثة الى اتخاذ قرار بتمديد زيارتها لبيروت. وأفادت أن البعثة “شددت على ضرورة أن تأخذ الخطة الإنقاذية التي تعمل عليها الحكومة اللبنانية في الاعتبار توصيات عدة مهمة بالنسبة الى المؤسسة الدولية، أهمها ما يتعلق بوضع المالية العامة، وتحديداً الاجراءات التي ستعتمدها الحكومة لخفض حجم الدين العام، إذ أوصى الصندوق بضرورة خفض نسبة الدين العام الى الناتج المحلي اللبناني من نحو 150% الى ما دون 100%، وبضرورة إيصال هذه النسبة الى نحو 80%، وهنا طلب الصندوق من الجهات المالية اللبنانية تفاصيل عن الاجراءات التي يمكن أن تتخذها للإسهام في الوصول الى هذه النسبة. وفتح نقاش تفصيلي حول إعادة هيكلة الدين العام وما قد تتضمنه هذه الخطة من إعادة جدولة للدين لناحية الفوائد أو آجال الاستحقاقات. وفي المعلومات أن الصندوق رأى هذه الخطوات “قد لا تكون كافية لمعالجة أزمة الدين العام التي يجب معالجتها بالتساوي مع الأزمة المصرفية”، ما فتح النقاش حول إمكان العمل على إعادة جدولة الدين وصولاً الى خفض الفوائد المستحقة، وحتى العمل على شطب جزء من هذا الدين، ما قد يطاول حاملي السندات الاجنبية. كذلك شدّدت البعثة على “ضرورة أن تلحظ الخطة الانقاذية للحكومة اللبنانية إجراءات عملية تساهم في خفض العجز من أكثر من 11% حالياً الى ما بين 3 و4% حداً أقصى، مع إيجاد الحل المناسب لمعالجة العجز في الحساب الجاري.
وعلمت “النهار” أن هذه الخطة ستخرج الى العلن بحلول مطلع الأسبوع المقبل على أبعد تقدير، بعدما اكتملت معظم أركانها في انتظار الأخذ بتوصيات صندوق النقد ومناقشة الاجراءات التي ستعتمدها الحكومة والتي أوصت بها المؤسسة الدولية، اضافة الى مجموعة إصلاحات هيكلية وبنيوية تأتي ضمن خطة ستساعد في معالجة الاختلالات المالية الأساسية. وتوقعت المصادر إمكان عرض الخطة للمرة الاولى على طاولة مجلس الوزراء الخميس المقبل، على ان يعلنها عنها مباشرة بحلول نهاية الاسبوع.