لقد تجاهل المتعاطون في السّياسة صفة رجل الفكر عند الجنرال عون ، وهو تجاهُل مقصود . الصّفة هذه هي الأكثر بروزًا لديه ، واقرار السّياسيّين بها يعطيه رصيدًا إضافيًّا يصّب في مصلحته كسائس ويظهر تفوّقه عليهم .
إنّ معظم السّياسيّين في لبنان – ولا نقول السّياسيّين اللّبنانيّين – لا يفرضون أنفسهم كمفكّرين ولا حتّى كمثقّفين ، إنّما يتركون الهوّة سحيقة بين عالم السّياسة وعالم الفكر ما أدّى إلى فشلهم الذّريع. وبالرّغم من أنّ بعضًا منهم من التّكنوقراط ذوي اختصاصات عالية ، فإنّهم في الأمور السّياسيّة أدنى مستوى من السّياسيّين العاديّين في أيّ دولة من دول العالم. هم يفهمون السّياسة على أنّها شطارة وتجارة وألاعيب ، بينما السّياسة للواقعيّين والفكر للطّوباويّين .
أمّا بالنّسبة إلى الجنرال عون فإنّ براعته في الخطابة والحوار والكتابة واضحة لكلّ من يّمعن في التّدقيق ولا يلقي الأحكام جزافًا. هذه البراعة تنبع من أساسٍ فكريًّ فوّار وهو الّذي يُبرز عون كقائدٍ عسكريٍّ وكرجل دولةٍ وكإنسانٍ فريدٍ.
كما أنّ عون في نظرنا واسع الاطّلاع في معظم الشّؤون الفكريّة ، أي أنّه تجاوز الشّؤون الاستراتجيّة والسّياسيّة إلى الثّقافة الشّاملة. هذه الثّقافة توضّحت بسبب براعة عون في إعطائها مبّسطة، وهي لا تبدو هامشيّة لا تعطي حقّ قدرها إلّا من قِبل من يطرح التّساؤلات عينها ويعرف صعوبة الإجابة مع تعدّد الحلول. فعون يمرّر أفكاره بدون ادّعاء وبدون إعطاء نفسه صفة المفكّر. من هنا إن كان المستمع متيقّظًا عرف أهمّيتها لأنّها تجيبه بدون لفّ ودوران ، وتصيب الهدف بدون ثرثرة ، وتختصر مراحل سابقة من التّساؤلات والمعاناة والتّخمّر حتّى تظهر الحقائق بسيطة .
والملفت في عون أنّه لا يتبنّى سوى المواقف المنطقيّة في أيّ طرح ، مُعيدًا الأمور بشكل جذريّ إلى الأسس أو الجوهر ، نازعًا عنها كل ما علق بها من أخطاء وأمر واقع وشيوع وتسويات وتنازلات . كذلك فإنّه يطرح الأمور بشكلها المتكامل حتّى يفيها حقّها ، رابطًا العناصر ببعضها ، واضعًا لها صورًا بسيطة تدلّ على خيال فنّان قدير ، ومُعطيًا للصّورة العامّة كلّ أبعادها ، ختّى يصل بالنّتائج إلى نهاياتها . وفي ذلك كلّه نراه يجمع إلى التّفكير العلميّ والرّوح النّقديّة إحساس الفنّان ووضوح العارف. وها نحن نراه لا يبسّط الحقائق بالتّغاضي عن تعقيداتها بل إنّه يعرض التّعقيدات ببساطة حتّى يفهم الكلّ بدون استثناء وبذلك يدلّهم على الحقائق الكامنة وراء التّعقيدات ، والحلول النّاجعة لها مُستعينًا بصور من عالم الطّبيعة وتشابيه من الحياة اليوميّة .
إنّ تركيزنا على هذه النّاحية من شخصيّة عون يعود أيضًا إلى كون فكره وراء التّمرّد والإصلاح والمنهجيّة العلميّة الّتي يتزيّا لها، وأيضًا لأنّ فكره شكّل نظرة وطنيّة متناسقة ومتكاملة هي أبعد ما تكون عن الايديولوجيّة وعن العسكريتاريا .
وأكثر ما يهمّنا فكره لأنّه تحوّل إلى قوّة مادّيّة متمثّلة بالشّعب المؤيّد للمسيرة. هذا الشّعب الّذي استوعب جيّدًا الخطاب السّياسيّ عند عون فصيّره جزءًا من شخصيّته ، يستنير بهديه ويرد ّبه على كلّ الطّروحات المضادة . لقد تمكّن عون من تنزيل أقواله في العقول والقلوب فصارت محفورة في الوعي الشّعبي مبادىء يرجع إليها وحُكمًا يعمل بإيحاءاتها .
والملفت في هذا السّياق هو قدرة عون الاستثنائيّة في تنشيط الشّعب الّذي أنهكته الحرب لخمس عشرة سنة، فكأنّ الشّعب في عزيمته الصّلبة في أوّل يوم من المقاومة . وبالرّغم من ضعف الامكانيّات بين يدي عون مثل وسائل الاعلام والرأسمال الضّخم ، فقد تمكّن عون من خلق الشّعب من جديد وخلق الجيش من جديد وتنمية تيّار المقاومة المتصاعد في كليهما ، وذلك بقوة فكره ، وليس بقوة زنده أو زناده . هو لم يلجأ إلى الاغراءات الماديّة ولا إلى توظيف المؤيّدين وكسب الأنصار. لم يعط الموالين له امتيازات بل طالبهم بمزيد من التّضحيات ، ولم يلجأ إلى مسايرة المطالب وتقديم الاعانات . كذلك لم يلجأ إلى غسل الأدمغة ولا إلى الضّغوطات لتقديم الولاء . ومع أنّ الشّعب اللّبناني يحاسب جيّدًا وينتقد ببراعة بالرّغم من أوضاعه الحياتيّة الصّعبة ، ها هو اليوم يولي رئيسه الثّقة الواعية لا الثّقة العمياء ، مُدركًا الهدف الكبير ، رافضًا المنافع الفرديّة والمصالح المرحليّة ، وها هو يقوم بأكثر من ذلك فيتهافت للالتزام بالمسيرة مع أنّها مغامرة مصيريّة غير مضمونة النّتائج ، اذ يعادل حظّ الانتصار فيها حظّ الانهيار .
إنّ عون تمكّن من اقناع الشّعب بصحّة المسيرة عبر المصارحة العلنيّة . وباعتقادنا أنّه لو لم يحترم المشاعر الشّعبيّة بكلّ صدق لكان الشّعب التقط الخدعة وشعر بالزّيف وتنكّر للقائد . فالاحترام هو المدخل الّذي عبّر من خلاله إلى القلوب ، والمنطق هو المنفذ الّذي اخترق بواسطته كلّ العقول .
من هنا وبعد هذ العرض السّريع ، يمكن فهم هذا التّغاضي عن عون كرجل فكر وهو تغاضٍ لا يعود إلى الأسباب المذكورة فحسب بل كذلك إلى صعوبة الرّدّ المنطقيّ على طروحاته وفي هذا سرّ جاذبيته. ونحن نتحدّى، من موقع المؤمن، المعارضون بأن يجابهونا بطرح وطنيّ على مستوى طرح العماد عون غير المستورد وغير المفروض. وإنّنا أيضًا نردّ منذ هذه اللّحظة بأنّ كلّ السّياسيّين الآخرين من الّذين انغمسوا في اللاأخلاقيّة واللاوطنيّة لا يكونوا ذا أهميّة مهما فعلوا وبأنّ عون مهما فعل أو أخطأ لا يمكن أن تنقُص قيمته قيد أنملة في عين الحقّ.
مساعد مسؤول التنسيق مع المرجعيات الروحية في الوطني الحر روني جدعون