إنها حكومة الفرادة، والفرادة لا تنبع حصرًا من تكثيف العنصر النسائيّ فيها، بل من تلاقي التجليّات العلميّة والتقنيّة والفنيّة والثقافيّة والاقتصاديّة مع بعضها ضمن مبدأ التلاقح والتناضح المبيح للعمل المتجانس والمتيح للإنتاج المتنافس، الذي من شأنه أن يوشّح لبنان بفجر جديد.
لن تنفصل تلك الحكومة، وبواقعيّة مطلقة، عن أيّ سياق سياسيّ راسخّ أو متحرّك في البنية اللبنانيّة. فالحكومات تعابير خارجة من مجموعة أفواه تكلمت، وقد خرجت كلماتها من عقول اتفقت فإتلفت فتجلّت. ميزة هذه الحكومة عن الحكومات السابقة، أنّها وبالمعطى القائم، لن تكون على صورة الحكومات السابقة، بل لا يفترض أن تكون صورة طبق الأصل عنها، وإن كان الاتفاق السياسيّ قد جاء بها، وكان رئيس الحكومة الجديد حسّان دياب قد باح بالتواصلية السياسيّة بهدوء وواقعيّة. فالبلد سياسيّ حتى العظم والخطاب السياسيّ سائل في الدماء وسائر في العروق، بغير انفصال بل بشدّة اتصال. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ الحكومة إذا أطلّت على الناس صورة عن سابقاتها، فإنّها حتمًا ستكون ساقطة، والسقوط يكشفه التمزّق الكبير في بنيتها وارتباط البنية بالخطاب السياسيّ المتوتّر والمتوسّع من لبنان نحو الإقليم.
لا يعفي الحكومة من تقديم خطاب سياسيّ للبنانيين بفعل عدم انفصالها عن السياق السياسيّ-الحزبيّ على وجه التحديد. فهو جزء من حياتها وبعض يسير من حيويتها. ذك أنها جزء من حركة سياسيّة مشدودة ما بين الداخل والخارج. وبطبيعة الأحوال ستنطلق بهذا الشقّ بمحاكاة الواقع والتماشي معه واستخراج عناصره في مماشاة لمبدأ وجوهر التغييرات الحاصلة كنتائج ظاهرة أمامنا بدءًا من سوريا على وجه التحديد. بمعنى واضح، هذه الحكومة الجديدة، على الرغم من ارتفاع منسوب النقد حول بعض وزرائها وليس كلّهم، وحول منهجيّة التوزير، لن ترث شيئًا من الحريريّة السياسيّة، من بعدما ماتت وأمست ركامًا وحطامًا، بل على العكس تمامًا سيرسّخ حسّان دياب شخصيًّا وبالتعاون مع رئيس الجمهوريّة العماد ميشل عون منهجيّة جديدة مليئة بالوصال المتوازن مع الخارج. لقد بات واضحًا، بأنّ الشقّ السياسيّ مكنون فعليًّا بالثنائيّة الجديدة عون-دياب، وبتغطيّة متكاملة من التيار الوطنيّ الحرّ حزب الله وحركة أمل، ضمن الحركة الجديدة المتوازنة التي لن تكون بمنأى عن بداءات بدأنا نتلمسها في المنطقة من بعد انتصار سوريا ميدانيًّا، لا سيّما الحوار السوريّ-التركيّ الذي ظهر علنًا في موسكو بين اللواء علي مملوك وفيدان حقّان، والحوار السوريّ-السعوديّ، وقد بدأت طلائعه تظهر في نيويورك بفعل تلبية السفير السوريّ بشّار الجعفريّ دعوة نظيره السعودي عبدالله بن يحيى المعلّمي على شرف وزير الدولة السعوديّ فهد بن عبدالله المبارك وبمناسبة تولّي الرياض رئاسة مجموعة العشرين، وقد لاقى الجعفريّ ترحيبًا لافتًا وطيبًا من نظيره السعوديّ، وكانت السفارة الإماراتيّة قد أقامت احتفالاً في مقرّها في دمشق بمناسبة عيدها الوطنيّ، أشاد فيه القائم بالأعمال الإماراتيّ عبدالله النعيمي بالرئيس بشار الأسد، بمعنى أن عرب الخليج بدأوا بالتسليم الفعليّ بانتصار الرئيس الأسد، ويبدون الاستعداد للحوار مع الشام والانفتاح عليها، وعلى هذا فإنّ حكومة الرئيس حسان دياب لن تكون بمنأى عن هذه الحركة الجديدة المنكشفة في المنطقة.
وبواقعيّة مطلقة، فإنّ الخريطة السياسيّة للتأليف الحكوميّ بعمقه السياسيّ، والتي أفرزت الحكومة بشكلها الحاليّ ومضمونها المنتظر، عبّرت في اللحظات التكوينيّة الأولى عن مكنونها السياسيّ ومضمونها الاقتصاديّ سلفًا، بل تكوّنت بهذا المكنون كقراءة استشرافيّة واستقرائيّة للحالة التواصلية الجديدة المبثوثة ما بين دمشق وموسكو ونيويورك، وهي وكما أظهر عدد من المراقبين جاءت تعبيرًا أو إفصاحًا عن مضمون تسوويّ صغير ظهر بطرائق غير مباشرة بين أميركا وإيران من ناحية، ومن ناحية ثانية بين أميركا وروسيّا ضمن حدود التأليف. هذه الحكومة ضمن خريطتها السياسيّة، تبدو محفوفة بما يحدث في الشارع وتحديدًافي العاصمة بيروت. وتفيد معلومات بأنّ الحراك بعنوانه الصداميّ الواضح، ينتمي بدوره إلى صراع نفوذ ضمن الدائرة السنيّة بين تركيا وقطر من جهة والسعوديّة والإمارات من جهة ثانية. القضيّة الكامنة خلف الحراك الصداميّ عنوانه من يرث الحريرية السياسيّة، من ضمن المنظومة الحريرية الواسعة التي أسسها الرئيس رفيق الحريري رحمه الله. والحراك بحدّ ذاته، بظهوره المتعدّد وتشعباته المختلفة أميركيّ يغذّي في لبنان الفوض الخلاّقة.
ما هو لافت أنّ الحكومة الجديدة نالت رضى فرنسا، بل رضى الاتحاد الأوروبيّ، وفي معلومات مؤكّدة بأنّ الفرنسيين على وجه التحديد، ساهموا مساهمة فعّالة بسطوع تلك الحكومة وولادتها، وقد ظهر ذلك من خلال أحاديثهم من أفرقاء سياسيين وشخصيات أكاديميّة، حيث حذّروا من انزلاق الوضع أكثر مما هو عليه، وقال السفير الفرنسيّ برنار فوشيه لشخصيّة زارته "لا تهدروا الوقت، فإن لن تتشكّل الحكومة فسفقدون دعم الأوروبيين لكم، وتخسرون مؤتمر سيدر." وأردف قائلاً: "أميركا تضغط في المال وعلى الأرض بالحراك، والوضع الاقتصاديّ يعيش حصارًا خطيرًا، ألّفوا الحكومة والفرنسيون لا يهمهم الأشخاص بل تهمهم سلّة الإصلاحات المنشودة والمطلوبة"، وأبلغ السفير الفرنسيّ حزب الله بالضرورة الضغط باتجاه إنهاء التأليف. في مقابل ذلك، دخلت سوريا على الخطّ، وهي إلى جانب روسيا تخشى التفلّت الخطير الحاصل في بيروت ورأت بانّ طرابلس وبعض البقاع رحم كبير لتلك الفوضى، فسعت بدورها مع حزب الله لإنهاء ملفّ التأليف ليتسنّى للحكومة معالجة هذا الخلل الأمنيّ الخطير في وسط العاصمة بيروت.
وممّا يبدو بأنّ الحراك بشقّه الصداميّ لن يتوقّف إلاّ حين تحسم الحكومة قرارها بضبط الأمن بصورة جذريّة وزجريّة في العاصمة بيروت ومعظم المناطق اللبنانيّة. مقابل ذلك يفترض بالحكومة أن تجري عمليّة جراحيّة للنظام الماليّ والاقتصاديّ بسلّة إجراءات تتخذها بحيث تفرض على المصرف المركزيّ وعلى المصارف إعادة الأموال المهرّبة ومن ثمّ المنهوبة. لكن، تخشى بعض الأوساط من أن تقع الحكومة من جديد تحت عبء الفساد، إذا سلمنا جدلاً بأن انكباب أحد الأحزاب السياسيّة على بعض الوزارات هدفه ترتيب العلاقة بالناخبين في المناطق التي يتواجد فيها عن طريق الرشوات الانتخابيّة، والاستفادة من التمويل المعطى للمشاريع، كما حدث وكان يحدث سابقًا، وهذا وحده أحد العناوين الكبرى للفساد، فيعطى هذا الأمر ذريعة لاستمرار الفوضى داخل المدى السياسيّ. من هنا تنصح جهات سياسيّة رئيس الحكومة الانتباه إلى هذه الناحية ووضع منهجية صارمة بحيث يكون كل وزير في هذه الوزارة بخدمة لبنان وليس بخدمة مناطقه في لبنان.
ختامًا لهذه العجالة، إستغربت بعض النخب الأرثوذكسيّة أمام تعيين ثلاث وزراء لهم من دون أيّة استشارة للمراجع الأرثوذكسيّة الزمنية منها والروحيّة. وفي بيان وتبيين أظهرت تلك النخب بأن الوزراء الموارنة سمتهم أحزابهم كما أن السنّة سمتهم مراجعهم والشيعة والدروز أيضًا. وحدهم الروم الكاثوليك وقفوا إلى جانب بطريركهم وقفة واحدة فأنصفوا، فما معنى إبقاء الأرثوذكس مستولدين في كنف المذاهب المسيحيّة الأخرى؟ أهكذا تكافء الطائفة التي أظهرت التنوّع الفكريّ ببهائه وساهمت بتكوين لبنان ضمن مبدأ الانفتاح؟ لماذا تهمّش المراجع الأرثوذكسيّة في كلّ مرّة ولا يتعاطى معها أسوة بشقيقاتها؟ وتقول أوساط أرثوذكسيّة في هذا المجال، بأنّ الأرثوذكس المنتمين إلى أحزاب سياسيّة مسيحيّة يفترض بهم أن يشكلوا وعاء مانعًا من استمرار محق طائفتهم بهذا الشكل المهين، فيتحوّل الوعاء هذا إلى شبكة أمان حامية ومطالية ضمن الأحزاب بالحقّ العادل.
الحكومة أمام مجموعة امتحانات خطيرة ووجوديّة. ما يرجى أن يأتي البيان الحكوميّ هذه المرّة على مستوى ما يعانيه لبنان ويقدّم للبنانيين الحلول الناجعة الفعليّة والعمليّة، ويوضح علاقة لبنان بمحيطه العربيّ بدءًا من سوريا رئته الحيّة والمحيية في آن.
ألا وفّق الله هذه الحكومة في سعيها إلى الانقاذ والبناء، وكما يقول دولة الرئيس حسان دياب، وهو من أجمل ما يختم فيه بياناته: "على الله نتوكّل وهو وليّ التوفيق".