-واقع ينبئ باستمرار الفوضى الخلاّقة مهيمنة على واقع لبنان، تقتات من استقراره وترميه في ما لا يريده لنفسه، وما لا يريده أبناؤه له.
-واقع التأليف الرازح تحت ضغوطات من هنا ومطالب من هناك، وهو يسير ويسري في منطقة عالية السقوف من التوترات الجهنميّة ومنطقة أخرى مطلّة على تسويات منهجيّة، يستوي لبنان الكيان بينهما وهو تحت نير الفوضى.
قبل الانغماس في القراءة، وكملاحظة خاصّة وبنّاءة يسوغ هنا التمييز بين الثورة والحراك.
بين ثورة ترنو بطبيعتها إلى ترسيخ الحقّ، حقّ المواطن في العيش الكريم وبناء دولة بريئة من الآثام والفساد، فالثورات من شأنها الإطاحة بفساد الثروات، والثورة بهذا المعنى، مباركة إذا سمت إلى تلك الرؤية المنجيّة من التلاشي المقيت، والتبعثر السحيق، ولا بدّ منها للتأكيد على المسرى الديمقراطيّ للكيان اللبنانيّن والتطلّع بالتأكيد نحو دولة المواطنة. بهذا المعنى، كلّ صرخة تمرّد إباء كما كتب المطران جورج خضر، والتمرّد هو على فساد السياسيين والمصرفيين والصرافين والقطاعات كافّة، الذين استهلكوا النظام والإنسان فيه وأثروا على حساب الفقراء والبسطاء، ورممّوا القصور الفخمة بمال الناس وتعبهم، التمرّد على كلّ من تلوّثت يداه بالدماء الزكيّة وبات شريكًا في الحكم، وأدخل إجرامه إلى النظام. الثورة الطالعة من جوف الأرض والرانية نحو الفجر المطلّ للبنان هي الرجاء المنتظر لإحداث التغيير والإصلاح، بالإلحاح الدائم باسترجاع الأموال المنهوبة ووضع من نهب الدولة في السجون إلى أن يعيد ما سرقه إلى خزينتها. هذه الثورة هي المباركة والحاوية لكلّ ضياء، أي للبدائل المصاغة من قبل مجموعة تسوس وتأتلف ضمن مجلس ناهض له صفة التنظيم والأدلجة وطرح البدائل، فلا ثورة بلا بدائل، والثورة لا تهدف فقط إلى البقاء في الشارع بل إلى التفاوض لإيجاد البدائل المطلوبة.
وبين حراك تبنيه الدول بمصالحها المتعالية، كما تفعل أميركا، تبنيه وتمسرحه بقوالب ومشاهد شتّى، ما بين العراق ولبنان، ضمن أهداف مرسومة سلفًا، تمّت التهيئة لها بكلّ التفاصيل اللوجستيّة والماليّة بهدف شلّ الدولة، ومعها شلّ البلد، وسحق النظام (على فساده) والولوج نحو فوضى خلاّقة مترامية الأطراف والأبعاد لا تطرح بدائل محدّدة وواضحة، فالفوضى ليس لديها أو من بعد عصفها بدائل، إنها الفوضى، وفي فهمنا إنها حرب أميركيّة بأدوات وأذرع محليّة تعمل على الإطاحة بالبلد والنظام، من بعد قذفه نحو المجهول وقد دخل نفقه المظلم، وهي وبكلّ بساطة تستهلك معظم العناوين الشائكة والجوهريّة لتضغط من خلالها. فهي لا تستهلك النظام السياسيّ وتدمره، بل هي تستهلك لبنان في حرب ضمن دائرة الإقليم، وتحاول إطباق الخناق على سوريا بالتحديد من لبنان والعراق كمحاولة لإحداث الخدوش والندوب فيها بعيد الإنجازات التي حققها الرئيس الأسد ومعه إيران والروس. ولقاء موسكو هو الإنجاز الأخير بين سوريا وتركيا.
وكختام لهذه الملاحظة فلا بدّ من الإقرار بأنّ البون شاسع جدًّا بين ثورة صارخة أرى نفسي منها وهي منّي، تسيل كلماتها ومفرداتها من قلمي ويتحول قلمي إلى صرخة حقّ، إلى ثورة تعيد لي كرامتي بكلّ أبعادها ومهانيها، لا أهداف مبطنّه فيها وغير مسيّسة، هدفها لبنان والإنسان فيه، ثورة مبنيّة على الفكر والإيمان بشخصيّات ظاهرة ومعلومة، ولا تختبئ في اللحظات الذورة أو يرمى بها على قارعات الطرق أو في الأقبية السوداء مع انتهاء المهمّات. فالثورة ليست ثورة مهمّات عابرة بل مبادئ راسخة. أمّا الحراك القائم والمستند إلى الأدبيات الأميركيّة (إقراوا أوراق جيفري فيلتمان ومايك بومبيو وكيلي كرافت وإليوت إنغل ودايفيد ساترفيلد في مراحل سابقة) فهو هدّام بكلّ ما للكلمة من معنى وبصيغته التدميريّة وفيه تعدّ واضح وفاضح وكبير على الأملاك والمتاجر والمصارف وتعطيل للمؤسسات وللحياة وعلى ضوئه وأساسه يصير التدحرج الماليّ والاقتصاديّ بل المتماهي معه فليس لي معه إئتلاف ووئام ووداد.
من هذه الزاوية نعود إلى منطق السباق في حمأة الواقع. كشفت بعض المعلومات، بأنّ انفجار الحراك بحجمه ليل الثلاثاء الأربعاء واتساعه نحو شارع الحمراء في رأس بيروت، المنطقة التي فيها تنوّع حزبيّ نوعي وفيها الجامعة الأميركيّة، موصول بحركتين، واحدة خارجيّة، وأخرى داخليّة.
في مقالنا أمس، شرحنا الأبعاد الخارجيّة لهذا الانفجار، وهي وبكلّ اسف ثابتة ودامغة وموثّقة، ومعظم المقرّبين من الإدارة الأميركيّة والبيت الأبيض على معرفة بالتماهي المطلق الهادف إلى تغيير وجه لبنان وتحويله إلى قاعدة أميركيّة (إذا قدروا)، ومنع امتداد موسكو بثقلها باتجاهه، والوسيلة عندهم كما أضحت ظاهرة إنهاء العهد بمحاولة دفع رئيسه نحو الاستقالة، أو محاولة إقصائه، فيسهل حينئذ القضاء على حزب الله مع منع موسكو من الانسياب إلى الداخل اللبنانيّ.
أما الحركة الداخليّة، فتتجمّع فيها بعض الروابط غير المبنيّة حتمًا على عناصر المفاجئة. فمن الواضح من هذه الناحية بأنّ انفجار الحراك أمس تماهى من دون شكّ مع عودة الرئيس سعد الحريري إلى لبنان، ليستكمل بعد ذلك بمنطق الضغط من بعض جوانبه عسى تنتعش الحريريّة السياسيّة من روحيّة بعض الحراكيين، وهذا حتمًا غير وارد لأنّ سعد الحريري عارف بقوّة أن إمكانية الإنعاش معدومة، وهو لم يعد محضونًا من الدول اللاعبة في قلب الحراك أو الراعية له، وعلاقته بالمملكة العربيّة السعوديّة لما تزل سيّئة. وفي الداخل لم يعد الرئيس نبيه برّي يملك قدرة الإحياء. الاجنب الآخر المقول في الحراك أو المنقول عنه، بأنّه يستهلك من بعض الأجهزة استهلاكًا ضاغطًا ومقودًا باتجاه الضغط على الرئيس المكلّف حسّان دياب للتسريع في التأليف ضمن النمط المشار إليه، اي أن تكون حكومته تكنوقراط. فياتي التأليف واردًا من قلب الضغط الحراكيّ والمطلبيّ، وفي ذروة تلاطم اللجج الماليّة بقوّة بفعل سلوك المصارف مع الناس وهذه وسيلة أخرى للضغط.
هنا لا بدّ من ملاحظة منتمية إلى جوهر السياق وقلبه، بأنّ الاتفاق على تأليف الحكومة بالصيغة التي يرتئيها الدكتور دياب ليصار بعد ذلك لإسقاطها في المجلس النيابيّ تدخل البلد في فتنة ستكون أمضى بكثير وأشدّ إيلامًا مما نحن عليه، وبالقيم الأخلاقيّة، فهذا الأمر معيب وغير مقبول. فإمّا الاتفاق معه ضمن صيغة واضحة تقوم على تركه يؤلّف حكومته ويكتب برنامجها وتكون له فترة سماح، فإمّا ينجح ضمن مهلة زمنيّة تعطى له فيرتاح لبنان من أزمته ويفكّ المجتمع الدوليّ الحصار الماليّ عليه كما رأى جبران باسيل في مؤتمره الصحافيّ امس، أو حينئذ فليتمّ الاتفاق معه من الآن على مجموعة صيغ واضحة وفاعلة في لحظة حبلى بتطورات قد تكون دراماتيكيّة في الإقليم من زاوية، ومن زاوية ثانية قد تذهب بالتسوية في سوريا نحو البعيد بُعَيد لقاء علي مملوك وحقّان فيدان في موسكو. فالمعلومات تشير بأنّ جبهة جديدة قد تظهر قوامها موسكو تركيا سوريا إيران، ستصير ضاغطة ما بين لبنان والعراق، وتجهد بقوّة لفكّ الحصار عن سوريا ولبنان والعراق.
لا يحتمل لبنان فتنة أخرى، البارحة كدنا نقع بها. الحكومة طريق نحو إنجاز قرارات جذريّة تريح لبنان، وتقطع طريق الفتن، وتمنع استبقائه تحت جريرة الفوضى. فليعطّ حسان دياب فرصته الذهبيّة ولا تسقطوه في وحولكم، علّنا معه ومع فخامة الرئيس نقيم البلد من كبوته إلى حياة جديدة تنسكب عليه من جديّة الأفعال وطهارة القلوب والعقول.