فتح كبير لروسيا ظهر في اللحظة الدمويّة الأميركيّة القاسية، مهّد السبل لبداءة تسويات سنشهدها تباعًا في الدائرة المشرقيّة، ولن يكون لبنان بمنأى عنها، وفقًا لاستشراف كثيرين على الرغم من الغيوم الداكنة المهيمنة في فضائه. لا يتميّز الفتح الروسيّ بانحصاره في الزيارة التي قام بها رئيس روسيا فلاديمير بوتين إلى سوريا ولقائه رئيسها بشار الأسد في القاعدة العسمريّة الروسيّة ومن ثمّ تجوله بصحبته في قلب دمشق وزيارته بعد ذلك للجامع الأمويّ والكاتدرائيّة المريميّة في دمشق واللقاء مع البطريرك يوحنّا العاشر. بل يتميّز في النتائج التي حصدها بزيارته لتركيا ولقائه رئيسها رجب طيّب أردوغان وافتتاح أنابيب الغاز من تركيا، وتحقيقه لهدنة في إدلب ومن ثمّ في ليبيا، إلى أن توّج ذلك باللقاء بين رئيس مكتب الأمن الوطنيّ السوريّ اللواء علي مملوك ورئيس الاستخبارات التركيّة حقّان فيدان في موسكو برعاية روسيّة.
لماذا استعمال مفردة "فتح"؟
لا تعبّر المفردة بدلالتها عن اقتحام فارغ، بل عن افتتاح مرحلة سياسيّة جديدة ضمن لحظة سطعت لتحدث فعليًّا حالة توازن في منطقة الشرق الأوسط بعد قتل الأميركيين لقاسم سليماني. فالاغتيال الأميركيّ العلنيّ، بدوره ينطلي على مجموعة اعتبارات واضحة تنتمي إلى المعنى بالهدف المعلن وغير المعلن ربّما. من هذه الاعتبارات المعلنة في العقل الأميركيّ أنّ اغتيالاً نوعيًّا وبهذا الحجم سيربك روسيا ويضع إيران في موقع الردود وبمستطاع إسرائيل، وتحت التاثير الأميركيّ، أن تندرج في عملية الردود فيتمّ أخذ الشرق الأوسط برمته إلى حالة مثقلة من الفوضى الأمنيّة الخلاّقة-الهدّامة، كتمهيد عندئذ لفرز قوى محدّدة ومعيّنة قادرة على الاندراج في صيغ تسووية جديدة وقابلة بالجلوس على طاولة التفاوض بعد انفجار النار وإراقة الدماء.
من الاعتبارات غير المعلنة، والتي يتمّ التداول بها، هنا وثمّة، بأنّ الإدارة العميقة في الولايات الأميركيّة المتحدة، بإقناعها دونالد ترامب ظنّت وبلا ريب على ما يبدو أنّ قضاءها على قاسم سليماني يماثل ويحاكي القضاء على أمير داعش. فيتمّ التساوي بين القضاء على أعمدة التطرّف الإسلامويّ السنيّ والقضاء وكما ظنّوا هم على عمود وعماد كبير للتطرّف الشيعيّ، وبهذا يقضى، وبمفهومهم، على جذوة كلّ تطرّف من دون تمييز ما بين الذين صنعوهم وأوجدوهم من رحم مخابرتهم والذي ولدوا من رحم النضال والأرض، فهم من صنعوا الجزائريّ كما صنعوا بن لادن والظواهري وساهم، في حين أنّ سليماني وليد النضال والأرض وهو بالتالي عدوّهم وعدوّ إسرائيل وهو قائد فيلق القدسّ، أي أن توقه وشوقه مشدودان نحو القدس.
في حمأة اختباط اللجج وارتفاع الأمواج والأنواء، دخل الروس بفتحهم الجليّ، ضمن مفهوم محاصرة التفلّت الأميركيّ الأعمى في العراق والممدود ضمنًا نحو سوريا. وعلى هذا، يتبيّن في بعض الأروقة هنا، بأنّ الروس مع الرئيس فلاديمير بوتين، يملكون التصميم على عدم السماح باندراج الأحداث بالتأثير المباشر وغير المباشر باتجاه سوريا، وبقراءتهم إنّ التفاهم السوريّ-التركيّ يملك القدرة على التفاعل إيجابًا في رسم خريطة جديدة مؤثّرة في المنطقة بأسرها لا سيّما تلك الملتصقة على الحدود السوريّة-التركيّة وصولاً إلى الحدود السوريّة-العراقيّة، والأكراد في هذا الإقليم هم القاسم المشترك. ومن هذه الناحية أيضًا، لن يكون التأثير أيضًا محدودًا فقط في هذا المدى، بل سينعكس حتمًا في الداخل اللبنانيّ، من حيث حشر الطائفة السنيّة على وجه التحديد ومحاولة نقلها إلى محطّة رؤيويّة جديدة.
لقد مهّد فلاديمير بوتين لتلك الحظة أيضًا بدفعه الإمارات العربيّة للانفتاح على الحاضرة الدمشقيّة فنجح وافتتحوا سفارتهم وكان الكلام واضحًا من القائم بالأعمال الإمارتيّ السفير عبد الحكيم إبراهيم النعيمي حين سمّى الرئيس السوريّ بالقائد الحكيم. وبالعودة إلى الحوار السوريّ-التركيّ، فهو ليس جديدًا والرئيس بشّار الأسد في خطاب له قال ما معناه بأنّه، ولمصلحة سوريا، على استعداد للقاء أيّ مسؤول تركيّ مع إضفاء حالة الاشمئزاز من أردوغان وأردف قائلاً، الشعبّ التركيّ جار للشعب السوريّ وثمّة حدود مشتركة. وبالمناسبة فإنّ الدخول الروسيّ المتجدّد وبحسب مصدر دبلوماسيّ روسيّ مخضرم لا يهدف إلى إبعاد إيران ولا يحوي هذا الهدف كما توهّم بعضهم. يل على العكس وبحسب ما أفاد، فإنّ روسيا وإيران حليفتان بالقوّة والقدرة، وإنّ روسيا ساعية بعلاقاتها لترسيخ أسس جديدة في محاولة ردم الهوّات بين عرب الخليج وإيران وإيجاد مساحات من التواصل، فهذا مفيد للإقليم الملتهب لكي تتوقّف المآسي فيه وينفتح على مراحل جديدة، كم روسيا تجهد لإحياء التفاوض السعوديّ-السوريّ وافتتاح السفارة السعوديّة، وروسيا وإيران واجهتا معًا القوى التكفيريّة في سوريا بحلف استراتيجيّ متين كان قاسم سليماني قد شكّل دعامة قويّة له.
كيف سينعكس التوثّب الروسيّ على المنطقة وبالتحديد على لبنان؟
كملاحظة أوّليّة، ثمّة استنتاج لا يمكن إغفاله، وهو أنّ التوثّب الروسيّ معدود من ضمن انبساط الحرب الباردة بين روسيا وأميركا. فقد بلغت أوجها لا سيّما مع التلاحم الاقتصاديّ الظاهر مع الصين كدزلة اقتصاديّة كبرى منافسة، والسياسيّ الأمنيّ مع إيران كقوّة إقليميّة في الشرق، ومحاولة إيجاد صيغ معقولة سياسيّة واقتصاديّة ومقبولة مع الأوروبيين، من دون نسيان بأنّ علاقة روسيا بإسرائيل لها مؤثراتها المديدة، لكون المؤسسين المعاصرين لدولة إسرائيل غالبيتهم من اليهود الروس.
القضيّة المحوريّة في الحرب الباردة بين روسيا وأميركا، مكنونة في من يتملّك أنابيب الغاز ويهيمن عليها. فالأميركيون وجدوا أنفسهم بسبب من القفزة الروسيّة خاليِي الوفاض، فسخطوا وغضبوا، واستهلكوا العراق ولبنان في التعبير عن السخط والغضب بغية تطويق روسيا في سوريا من البوابتين العراقيّة والإيرانيّة. وفي لحظة اغتيال سليماني وهي الذروة، ردّ بوتين بزيارة دمشق وأنقرة، وافتتاح أنابيب الغاز، فردّ عليه الأميركيون بإعادة إحياء الفوضى في لبنان بتحريض جماعة الحراك، لا سيّما اليسار المتأمرك ليضغطوا في لبنان من جديد.
منذ بداءة الحراك في لبنان، قرأنا وكتبنا هنا، بأنّ جوهر الحرب الأميركيّة على لبنان بتحفيز الأميركيين لهذا الحراك له ثلاثة أهداف:
1-تشديد العقوبات الماليّة على حزب الله من زاوية ضرب العصب الحيّ في لبنان وهو عملته. ودفع الشعب اللبنانيّ نحو انفجار كامل مترافق مع عمليات أمنيّة متصاعدة متزامنة مع الانفجار الشعبيّ.
2-تطويق العهد برئاسة العماد ميشال عون بسبب مواقفه الداعمة بقوّة للمقاومة وتشريع نضالها وتسويغه من على أعلى المنابر الدوليّة والعربيّة والإقليميّة، ووقوفه إلى جانب سوريا في الحرب عليها، والعمل على إعادة النازحين إليها وهو الرافض بالمطلق والفعل لمفهوم دمج النازحين الصادر عن الأمم المتنحدة.
3-تطويق روسيا في سوريا من البوابة اللبنانيّة بالإزاء مع محاولة تطويقها من البوابة العراقيّة. فالأميركيون غضبوا من الحكومة اللبنانيّة بسبب تلزيمها مضفاة طرابلس لشركة نوفاتيك الروسيّة كما تلزيمها الشركة عينها مع شركة توتال وشركة إيطاليّة أخرى في حفر المكعبين الرابع والتاسع. معركة أميركا مع روسيا في لبنان نفطيّة وغازيّة بلباس اجتماعي ووشاح ماليّ، ومعركتها مستمرّة مع إيران من خلال الضغط المتزايد على المقاومة بسبب الانتصارات التي حققتها على إسرائيل والقوى التكفيريّة في سوريا.
وتقول بعض المعلومات، بأنّ الأميركيين منذ أن ذهب بوتين من دمشق إلى أنقرة لتدشين أنابيب الغاز والدعوة للحوار السوريّ-التركيّ، حتّى دخلوا على خطّ لبنان من زاويتين:
-زاوية أولى تعويم الحراك الشعبيّ بالأدوات والأذرع التي لا تزال تحركها. ومنها حزب سبعة (الحزب اليساريّ المتأمرك) والقوات اللبنانيّة والحزب التقدميّ الاشتراكيّ وتيار المستقبل. فالحراك، وكما توضّح، ينتمي إلى مواجهة اللحظة الجديدة الروسيّة-السوريّة-التركيّة وافتتاح أنابيب الغاز في تركيا، بالتحريك الشعبيّ الضاغط في لبنان، واستكمال استعمال الحركة المصرفيّة والاتجاه بها نحو النهاية العبثيّة-العدميّة. وهذا كاف وبرأي مراقبين، للبلوغ نحو احتمال فوضى أمنية مستجدّة، فيتم تطويق الإنجازات السوريّة الميدانية الظافرة والانجازات الروسيّة الحوارية والنفطيّة الناجحة من الحدود اللبنانيّة. الجيو-بوليتيك هو العامل الأبرز في عمليّة التطويق، والأميركيون يعتبرون في الأصل لبنان قاعدتهم الخاصة بالمنظور الاستراتيجيّ.
-زاوية ثانية تعويم حكومة تصريف الأعمال برئاسة الرئيس الحريري، ومما يبدو بأنّ التعويم هذا بات مطلبًا أميركيًّا يحاكي به الظروف المستجدّة إلى حين وضوح ونضوج الأجوبة الواردة من الإقليم.
هل تدخل روسيا لبنان بحال بلوغه نحو التفلّت الفوضويّ؟
كختام لهذه القراءة، دخول روسيا بحال تمّ فسيكون ضمن أهداف واضحة عدى عن حماية أمنها ووجودها. فالرئيس ميشال عون الزعيم المسيحيّ المشرقيّ خطّ أحمر واستهادف عهده بالقراءة الروسيّة استهداف للدور المسيحيّ بكلّ مقاييسه ومعاييره، واستهداف للميثاق اللبنانيّ المسيحيّ-الإسلاميّ، وزيارة الرئيسين بوتين والأسد إلى البطريرك يوحنّا العاشر رسالة واضحة لكلّ من يريد استهداف المسيحيين بالرموز الحيّة والمتحركة، والرئيس ميشال عون على رأسها. كما أنّ الرئيس بوتين وبحسب المصدر عينه، متفاهم مع الرئيس السوريّ بشّار الأسد وأمين عام حزب الله حسن نصرالله بأنّ العهد برئاسة عون في لبنان خطّ أحمر. والتلاقي المستجدّ مع تركيا سيسمح بكثير من التلاحم الإيجابيّ في لبنان.
فمتى بلغ لبنان هذا التفلّت والتلاشي بالأهداف المرسومة والمذكورة، روسيا ستدخل لإنقاذ لبنان بكلّ مكوناته، ولنرى ماذا يمكن لأميركا أن تفعله.
المخاض موجع، وفترته قد لا تطول كثيرًا. وهو الطريق لعبور لبنان نحو ضفّة جديدة ليكون له وجه جديد منير.