بجانب ذلك، تتبنى 31 دولة الدولار عملة رسمية، أو سمت عملاتها على اسمه. ويربط أكثر من 66 بلدا قيمة عملته المحلية بالدولار، الذي يُقبل التعامل به في مناطق نائية وغير متوقعة من العالم، مثل كوريا الشمالية وسيبيريا وكذلك محطات الأبحاث في القطب الشمالي.
ورغم هذا الانتشار الواسع، فإن المفارقة تتمثل في أنه من بين البقاع القليلة، التي لا يُسمح فيها بالتعامل بالدولار، بلدة تشيكية تحمل اسم ياخيموف، رغم أنها تشكل “مسقط رأس” هذه العملة قبل 500 عام، وتحديدا في كانون الثاني من عام 1520.
لذا زرت هذه البلدة، القابعة وسط جبال منطقة بوهيميا، وتوجهت إلى متحف “الدار الملكية لسك العملة”، وهو المكان الذي ظهر فيه “الجد الأقدم للدولار”. خلال وجودي في هذا المبنى الذي يعود للقرن السادس عشر، قوبلت بابتسامة من جانب أحد مُضيفيّ، حين أخرجت من حافظتي ورقة من فئة الدولار الواحد.
فسر لي الرجل ابتسامته بالقول: “لم أر أيا من هذه الدولارات منذ أمد بعيد”. واستطرد، وهو ينادي اثنين من زملائه لمشاهدة الدولار الذي بحوزتي، قائلا: “لا نقبل في ياخيموف، سوى التعامل بالكرونة التشيكية، واليورو وأحيانا بالروبل الروسي. أنت الأميركي الأول الذي يأتي إلى هنا، منذ أكثر من ثلاثة أعوام”.
لهذا السبب تبدو تلك البلدة الهادئة الواقعة قرب الحدود التشيكية الألمانية، والتي لا يزيد عدد سكانها على 2700 نسمة، مسقطا لرأس الدولار ومكانا لا توجد فيه هذه العملة فعليا في الوقت ذاته.
على أي حال، من المحتمل ألا تكون قد سمعت عن هذه البقعة من العالم من الأصل، أو عَلِمت أنها تشكل أحد أحدث المواقع التي أُدْرِجَت على قائمة منظمة اليونسكو للتراث العالمي. أكثر من ذلك، قد لا تشي جولتك في أنحاء البلدة، التي يوجد بها شارع واحد ولا تزال تعاني من تَبِعات انهيار الشيوعية ويزيد فيها عدد أماكن اللهو على مصارفها، بأنها المكان الذي نشأت فيه العملة التي تضخ القوة حاليا في شرايين ما يمكن أن يوصف بالعالم الحر.
فلا شيء هناك يبدو مرتبطا بالدولار، لا المباني العتيقة المُشيدة على طراز عصر النهضة أو الطراز القوطي، ولا القلعة التي تعود للقرن السادس عشر، ولا العدد الكبير من المنتجعات الموجودة في الوادي الواقع في ياخيموف.
ومن بين المندهشين لعلمي بتاريخ هذه البقعة، ميشال أوربان المسؤول عن إحدى المنظمات غير الهادفة للربح في البلدة، الذي قال لي متسائلا “كيف تمكنت من ذلك؟ ما من إشارة أو إعلان في أي مكان يكشف عن هذا الأمر، وغالبية من يعيشون هنا لا يعرفون” شيئا عن ارتباط بلدتهم بتاريخ الدولار الأميركي.
وأضاف، وهو يقودني عبر درج مظلم إلى قبو المتحف: “ليس لبلدة أخرى في العالم من تلك التي يعمل أهلها في التعدين، تأثير كبير مثل ذاك الذي لياخيموف، لكننا نسينا تاريخنا”.
وقد بدأت قصة البلدة مع التعدين حتى قبل نشأتها بشكلها الحديث، وذلك بفعل اكتشاف كميات كبيرة من الفضة في أراضيها عام 1516. وقتذاك أطلق نبيل محلي ذو روح مقدامة، يُدعى الكونت هيرونيموس شليك، على المنطقة اسم يواخيمستال، وهي كلمة تعني بالإنجليزية “وادي يواخيم”، وذلك على اسم يواقيم، والد السيدة مريم العذراء وجد السيد المسيح، الذي يعتبره عمال المناجم في المنطقة القديس الراعي لهم.
في تلك الفترة كانت أوروبا تتألف – كما يقول المؤرخ ياروسلاف أوخيكس – من عدد مما يُعرف بـ “الدول المدينة” التي يقودها “حكام محليون يتنافسون على السلطة”. ويوضح أوخيكس بالقول: “في ظل عدم وجود عملة نقدية موحدة يجري التعامل بها (في المناطق التي يسيطر عليها) هؤلاء الحكام، كان سك أحدهم عملة خاصة به، يشكل أحد أكثر الطرق فاعلية، التي يمكن له من خلالها تأكيد سيطرته، وذلك ما فعله شليك”.
حملت الإصدارات الأولى من عملة الـ “تالار” صورة ليواقيم أو يواخيم على أحد وجهيها، ولأسد من أسود منطقة بوهيميا على الوجه الآخر، بينما وُضِعَت على إصداراتها اللاحقة صور للملوك الذين حكموا المنطقة
ففي التاسع من كانون الثاني 1520، منح المجلس التشريعي لمنطقة بوهيميا الكونت شليك تصريحا رسميا بسك عملات فضية خاصة به. في البداية، سمى الرجل عملته الجديدة اسم “يواخيم ستالارس”، وقرر أن يُوضع على أحد وجهيها صورة يواقيم، مع وضع صورة أسد من أسود بوهيميا على الوجه الآخر. لكن سرعان ما اخْتُصِرَ الاسم إلى “تالار”.
وفي عصر كان المُحدد الوحيد فيه لقيمة أي عملة، يتمثل في كمية المعدن التي تحتوي عليها، قام شليك بأمرين ذكيين لضمان انتشار عملته وبقائها، أولهما جعل وزنها وقُطرها مماثليْن لوزن وقطر عملة فضية كانت تُستخدم وقتذاك في غالبية أنحاء أوروبا الوسطى، وهو ما جعل قبول الممالك الأخرى المجاورة لتداول الـ “تالار” في أراضيها أكثر سهولة. الأهم من ذلك، أنه سك من عملته هذه، عددا أكبر مما كان العالم قد شهده من أي عملة أخرى في ذلك الوقت.
وخلال أقل من 10 سنوات، تحولت يواخيمستال من قرية صغيرة يقطنها نحو 1050 شخصا إلى أكبر مركز للتعدين في أوروبا الوسطى، وأصبحت بقعة صاخبة بالحركة، يصل عدد سكانها إلى 18 ألف نسمة وتضم ألف منجم للفضة، يعمل فيها 8000 شخص.
وبحلول عام 1533، أصبحت يواخيمستال ثاني أكبر مدن بوهيميا بعد براغ. ولم يكد منتصف القرن السادس عشر يحل، حتى كان عدد عملات الـ “تالار” – التي انتشرت في مختلف أنحاء أوروبا بعدما تم سكها من الفضة المستخرجة من مناجم هذه البلدة – قد ناهز ما يُقدر بـ 12 مليون عملة، حسبما يقول ميشال أوربان. ويعني ذلك أن عدد ما سُكَ منها كان أكثر مما تم سكه من أي عملة أخرى شهدتها القارة حينذاك.
ولم تلبث مخزونات الفضة القابعة تحت ثرى يواخيمستال أن نضبت، لكن عملة الـ “تالار” كانت قد باتت معروفة جيدا في أرجاء أوروبا كافة بحلول عام 1566، إلى حد أنها كانت العملة التي وقع عليها اختيار الإمبراطورية الرومانية، عندما سعت لتحديد حجم معين ووزن بعينه من الفضة، لكل العملات المعدنية المختلفة، التي كانت متداولة وقتذاك في الأراضي الخاضعة لسيطرتها.
وأضاف أوربان في هذا السياق: “ولنحو 300 عام مقبلة، صممت الكثير من الدول في مختلف أنحاء العالم عملاتها على غرار الـ `تالار`. وسرعان ما بدأت هذه العملة، في أن تكون لها حياتها الخاصة بعيدا عن هنا”. قال لي الرجل هذه الكلمات، وهو يحدق عبر الأسطح المعدنية الصدئة لبيوت ياخيموف باتجاه قلعة شليك وكذلك صوب البئر الضخم أبيض اللون لأقدم منجم لا يزال يعمل بانتظام في أوروبا بأسرها، وهما المَعْلَمان اللذان لا يزالان يطلان على البلدة حتى اليوم.
ولم يكتف الملوك والحكام بتصميم عملاتهم الخاصة، على غرار تصميم الـ “تالار”، بل اختاروا أن تكون أسماؤها أيضا عبارة عن ترجمة لاسم هذه العملة باللغات السائدة في ممالكهم. وهكذا تحول الـ “تالار” في الدنمارك والنرويج والسويد إلى الـ “دالير”، وأصبح الـ “دالِر” في أيسلندا، وفي إيطاليا الـ “داللرو”، وفي بولندا الـ “دالار”، وفي اليونان الـ”تاليرو”، وأخيرا الـ”تالير” في المجر.
وقد وصل الـ “تالار” بعد ذلك إلى أفريقيا، حيث تم تداوله في إثيوبيا وكينيا وموزمبيق وتنزانيا، كما شملت المناطق التي اسْتُخدِمَ فيها غالبية أنحاء شبه الجزيرة العربية والهند، ذلك البلد الذي ظلت هذه العملة متداولة فيه على مدار القرن العشرين.
وحتى عام 2007، ظلت العملة الرسمية في سلوفينيا تُدعى “تولار”، فيما لا تزال عملة دولة ساموا تحمل اسم “تالا”. وفي الوقت نفسه، تعني اسماء عملات كل من رومانيا وبلغاريا ومولدوفا – الـ “ليو” والـ “ليف” والـ “ليو” على الترتيب – كلمة أسد، وذلك في إشارة إلى الأسد الذي طُبِعَ على أحد وجهيْ الـ “تالار” قبل 500 عام.
لكن الأصل المباشر لاسم العملة الأميركية اسْتُمِدَ من العملة الهولندية، التي كان تُدعى “لوي دالار” أو (دولار الأسد) وتُختصر إلى “دالار”، إذ أن هذه المفردة الهولندية لا تختلف كثيرا في نطقها عن نطق كلمة “دولار” بالإنجليزية.
ففي القرن السابع عشر، وبعد وصول أولى موجات الهجرة القادمة من هولندا إلى مستعمرة هولندية في أميركا كانت تحمل اسم “نيو أمستردام”، انتشرت عملة الـ “دالار” في ما كان يُعرف وقتذاك بـ “المستعمرات الثلاث عشرة”، وهي التي شكلت بعد ذلك الولايات المتحدة. وبدأ المستوطنون الناطقون بالإنجليزية، في إطلاق اسم دولار على هذه العملة، وكل العملات الفضية الأخرى ذات الوزن نفسه، بما في ذلك عملة إسبانية كانت متداولة على نطاق واسع حينذاك، وكان يُطلق عليها اسم “قطعة الثمانية”.
وفي عام 1792، أصبح الدولار عملة رسمية للولايات المتحدة، وهو ما لا يزال قائما حتى الآن. وواصلت تلك العملة المستوحاة من الـ “تالار”، مسيرتها عبر كوكبنا، لتصل إلى بقاع مثل استراليا وناميبيا وسنغافورة وفيجي.
لكنني عندما خرجت مع مُضيفيّ من القبو القابع تحت متحف “الدار الملكية لسك العملة”، وتوجهت إلى برج مراقبة عسكري قريب يحيطه سياج من الأسلاك الشائكة، عَلِمَت أنه ربما يكون لمناجم هذه البلدة، تاريخ أكثر قتامة.
يُكرّم مسار “جحيم ياخيموف”، الذي يمتد لمسافة 8.5 كيلومترا، ذكرى من فقدوا حياتهم بعد الزج بهم في معسكر اعتقال سوفيتي أُقيم في البلدة
فبعد تقلص مخزونات هذه البلدة التشيكية من الفضة، بدأ عمال المناجم في العثور عَرَضا على مادة غامضة شديدة السواد، قادت إلى حدوث زيادة مثيرة للقلق، في حالات الإصابة بأمراض الرئة المميتة. وأُطْلِق على هذه المادة اسم “بيشبلينده”، وهي كلمة مؤلفة من جزئين، يعني أحدهما “الحظ العاثر” باللغة الألمانية.
وفي عام 1898، اكتشفت العالمة الفيزيائية ماري كوري – خلال فحصها لمناجم البلدة – أن المادة الخام التي سُكت منها “الدولارات الأولى” في العالم، تحتوي على عنصرين إشعاعيين جديدين، هما الراديوم والبلونيوم. أدى هذا الاكتشاف إلى تشويه يديْ كوري، وقاد في نهاية المطاف إلى وفاتها، وجعلها في الوقت نفسه أول امرأة تفوز بجائزة نوبل. كما أفضى ذلك، إلى أن تشهد البلدة ثاني حدث غير متوقع يقع في أراضيها، عندما تحولت المناجم التي وفرت المادة الخام لأشهر عملة في العالم، إلى مصدر يمد سباق التسلح النووي، بالوقود اللازم لاستمراره.
فعلى مدار العقود التالية لذلك، أصبحت مناجم الفضة في ياخيموف، التي أُعيد افتتاحها حينذاك بعدما كانت قد أُغلقت إثر نضوب الفضة، المصدر الأول للراديوم في العالم بأسره. وقام النازيون بتجارب على إقامة مفاعل نووي في تلك البلدة، بل ودوّن “أبو القنبلة النووية” جيه روبرت .أوبنهايمر أطروحته بشأن مناجم يواخيمستال الغنية باليورانيوم.
وبعد أن استعادت تشيكوسلوفاكيا – التي انقسمت بعد ذلك بعقود إلى تشيكيا وسلوفاكيا – السيطرة على هذه المنطقة من ألمانيا إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، أطلقت عليها اسم ياخيموف، وطردت السكان الناطقين بالألمانية منها – ممن عاشوا فيها لقرون – وأحلت سكانا تشيك محلهم. كما وقعت الحكومة آنذاك اتفاقية سرية مع الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين، تحولت بموجبها البلدة إلى أحد معسكرات العمل الروسية، التي كان الواحد منها يُعرف بـ “الغولاغ “.
ويقول ميشال أوربان في هذا الشأن: “أدى ذلك لبدء فترة موصومة بسوء الطالع في تاريخنا”. وقادني الرجل عبر الغابات، على طول المسار الذي دُشِن حديثا بطول 8.5 كيلومترا تحت اسم “جحيم ياخيموف، وذلك يقتفي أثر مراحل تحويل مناجم الفضة القابعة في وادي هذه البلدة التشيكية، إلى معسكر عمل سوفيتي. وخلال الجولة، استطرد أوربان قائلا: “قبل الحرب، كان المقيمون هنا فخورين للغاية باختراعهم للدولار. لكن عندما تغير السكان، ضاعت الذكريات الخاصة بهذا الأمر، واسْتُغِلَت المناجم لمساعدة روسيا على تطوير قنبلة نووية”.
فبعدما أدت قنبلة أوبنهايمر – من الوجهة الفعلية – إلى إسدال الستار على الحرب العالمية الثانية، أُرْسِلَ قرابة 50 ألفا من السجناء السياسيين السوفيت إلى ياخيموف في الفترة بين عامي 1949 و1964، وذلك لاستخراج اليورانيوم وسحقه وتحميله للنقل إلى الاتحاد السوفيتي السابق، وذلك لتزويد الترسانة النووية لهذا البلد به. ولذا يمكن القول إن أقوى رمزيْن يرتبطان بالسلطة والقوة في العالم، وهما الدولار والقنبلة النووية، قد جاءا من هذه البلدة الغريبة والشهيرة بالتعدين، والتي تقبع في أحضان تلال منطقة بوهيميا.
وفي الوقت الحاضر، لا تزال بلدة ياخيموف تتصارع مع ماضيها الصاخب والمضطرب. فالأشجار دائمة الخضرة بدأت تحل محل ذاك الكم الهائل من النفايات الناجمة عن العمل في المناجم، الذي كان يشوه صورة واديها في السابق. أما المنازل، التي شُيّدت في القرن التاسع عشر وغُطيت نوافذها وأبوابها بألواح خشبية لأغراض الحماية واحتوت على رواسب سامة من اليورانيوم، فيُعاد إليها ببطء بهاؤها السابق.
وفي الوقت نفسه، يضخ سوفورنوست – وهو أخر مناجم ياخيموف التي لا تزال قيد التشغيل، والذي وفر قديما كميات الفضة اللازمة لسك العملة التي تعد بمثابة “الجد” الأكبر للدولار- فيضخ الآن المياه التي تحتوي على عناصر مشعة، إلى ثلاثة من المنتجعات الباذخة والغريبة في آن واحد، والتي تعلن عن توفير “علاج بالمياه المحتوية على غاز الرادون”.
ورغم أن هذه البلدة التشيكية لا تزال تخلو من أي إشارة، تؤكد مطالبتها المُحقة بأن يُعترف بها مهدا للدولار، فإنك إذا زرت متحف “الدار الملكية لسك العملة”، وسألت القائمين عليه عن جديدهم لإحياء الذكرى الخمسمئة لهذا الحدث، فسيعرضون عليك بفخر ورقة جديدة من فئة الدولار، تحمل صورة جورج واشنطن.