ودّعنا السنة 2019 واستقبلنا السنة 2020 بمزيد من الرجاء وكثير من الدعاء وفيض من التمنيات لتكون السنة الجديدة جديدة بالخير والحقّ، وتكون بالفعل وليس بالقول، سنة نهاية الأزمات عندنا ومن حولنا، لتستقيم حياتنا ويستقرّ وجودنا وتنبلج شمسنا بما أوتينا من نعم وأنوار نبلورها ونترجمها بإبداعات مضيئة تظهر لبنان جديدًا بإنسان جديد.
هذا الإنسان التائق نحو جدّته مصلوب على خشبة المصارف كما على خشبة الفاقة والعوز. كثيرون لم يستطيعوا تناول العشاء ليلتيّ عيديّ الميلاد ورأس السنة، ولم يستطيعوا شراء الهدايا لأولادهم. كان البرد قارسًا، والوجود باليًا، على هؤلاء. لقد تحوّلوا إلى مجموعة متسوّلين واقفين على أعتاب المصارف، يتسوّلون حقّهم العادل وهو جنى تعبهم وعمرهم، ويتوسّلون مالاً من أثمارهم لكي يستطيعوا متابعة حياتهم.
حقيقة الأمر أن المصارف وبعيد انفجار الحراك في السابع عشر من تشرين الأوّل سنة 2019 بدأت تمارس احتلالاً قابضًا بشراسة ووحشيّة على اموال المودعين اللبنانيين كبارهم وصغارهم زاعمة بأنّها فارغة من الأموال وبدات تشرف على الإفلاس. وفي المعلومات الدقيقة، بأنّ جزءًا من الأموال تمّ تهريبها إلى الخارج باتفاق جليّ مع الأميركيين للشروع في حرب ماليّة قذرة على لبنان تتمّ من خلالها محاصرة العهد والمقاومة، وتطويقها بضغط الناس النفسيّ لتلج نحو الاحتقان ومن ثمّ الكفر والانفجار.
هذا شقّ الأوّل من الحرب الماليّة وقد تحوّل الدولار إلى شبح يخترق الحجب ويرعب الناس بدلاً من أن يكون دم وعصب حياتهم الطبيعيّة فأمسى عدوًّا يحارِب (بكسر الراء) ويحارَب (بفتح الراء) في آن واحد.
أمّا الشقّ الثاني من الحرب الماليّة الشرسة بطبيعتها وجوهرها، فقد تمثّلت بتحالف متين تمّ بين المصارف والصرافين، أيضًا برعاية أميركيّة ظهرت طلائعها خلال شهر تموز الفائت، استهلك فيها عنصر الإرهاب النفسيّ عن طريق بثّ الإشاعات بانّ سعر صرف الدولار الأميركيّ سيبلغ نحو ال3000 ليرة لبنانيّة. بدأ الناس يتساءلون بخشية فائقة حول جديّة ما يشاع، بعضهم هرع إلى المصارف وحوّل أمواله إلى الدولار الأميركيّ، ليعلق في شباك المصارف بفعل الإجراءات القاسية التي بدت تحت عنوان ما يسمى بالCapital control، فلا يحقّ له سحب أكثر من 400 دولار أميركيّ من حسابه أسبوعيًّا في بعض المصارف، ومن ترك حساباته بالليرة اللبنانيّة فرض عليه سحب مليون ليرة لبنانيّة مباشرة وعبر الATM 500000 ليرة لبنانيّة. فيما سعر صرف الدولار الأميركيّ بلغ عند الصرافين والتجار والباعة 2200 ليرة لبنانيّة فيما سعره في المصارف لا يزال 1515 ليرة لبنانيّة.
لقد علق المواطن اللبنانيّ في شباك حرب شرسة أبطالها مصرف لبنان وجمعيّة المصارف والصرافين، تضاف إليه في المرتبة الثانية القطاعات الأخرى التي دخلت في لعبة الضغط المقيت والابتزاز الكريه، من قطاع الاستشفاء إلى قطاع النفط إلى قطاع الأفران إلى قطاع المطاحن إلى التجار إلى مستوردي الأدوية... لكنّ الثالوث الأسود المؤلّف من مصرف لبنان وجمعية المصارف وقاطع الصرافين هو مصدر الفوض الماليّة الخلاّقة، وإن لم يكن مصدرها فهو منفّذ طوعيّ لها. خطورة ما حدث أنّ مرحلة ما قبل زيارة السفير ديفيد هيل إلى لبنان كشفت بلا زيف بأنّ الحرب الأميركيّة وسببها الجوهريّ نفطيّ تضاف إليها العقوبات على حزب الله، شاءت بمدلولاتها محاولة نقل لبنان إلى ضفّة شرق أوسط جديد أجوف من مضامين واضحة، وأن "لبنان الجديد"، وهو مصطلح أميركيّ، مأخوذ إلى محطّة تكوينيّة تتماهى مع الرؤية الأميركيّة المنطلقة منذ سنة 2006، وقد تبيّن السعي الأميركيّ نحوها منذ سنة 2007، والمحطّة التكوينيّة المشار إليها بدورها خالية من مضمون أو محتوى.
في هذه المرحلة بالذات، كان لا بدّ من شلّ قدرة لبنان بعهده وحكومته وقد استقالت، وبمؤسساته ونظامه. منطق الشلّ تمحور بخلق مناخات فتنويّة كتبنا عنها وتكلمنا عليها وأشرنا إليها غير مرّة في موقع التيار الإلكترونيّ أو في احاديث عديدة، كاد لبنان أن يغرق بوحولها المتحركة عن طريق إباحة الشغب المتواصل في مناطق عديدة بنيت على طرقها عمارات فتنويّة بطوابقها الثلاثة الطائفيّة والمذهبيّة والبنيويّة. إلى الآن لم تنجح الفتن بالتمدّد، ويبدو أنها وئدت بفضل حكمة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون وسماحة أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله وفطنة قائد الجيش العماد جوزيف عون، فتمّت مواجهة الفتنة بالفطنة والفوضى بالحكمة. وبما أنّ المناخات الفتنويّة لم تنجح، فقد تشرّشت الفوضى الخلاّقة في القطاع الماليّ بكافة مؤسساته وعلاقة هذا القطاع بالمودعين اللبنانيين. المخيف في الأمر بأنّ المصارف وبطرائق مخالفة للنظام الاقتصاديّ الحرّ والقوانين المرعيّة الإجراء وبغطاء دوليّ، وضعت قبضتها على جنى العمر والتعب، "فاحتلّته" واختلسته وهرّبته إلى الخارج. لقد تبيّن بفعل التدقيق والمشاهدة، بأنّ المصارف تحوي عملات أجنبيّة ولا سيّما الدولار الأميركيّ، وتبيّن أيضًا بأنّها تقنّنه وتقطّره بل تكاد تحجبه على المودعين الذين لديهم حسابات بالدولار الأميركيّ، حين يطلبون حاجاتهم من حساباتهم بالدولار الأميركيّ. ثمّ قامت المصارف منذ اللحظات الأولى للأزمة ببيع كميات كبرى من الدولار الأميركيّ للصرّافين بسعر يتراوح ما بين 1500 و1515 ليرة لبنانيّة فيما الصرافون بيبعونه بسعر 2100 ويشترونه بسعر 2000 ليرة لبنانيّة.
هذه العلاقة بين القطاعين الأساسيين أوصلت إلى غلاء فاحش طال عددًا من المواد الغذائيّة والأدوية مما أربك المستهلكين. إنّه إرهاب ماليّ واستهلاكيّ يمارس على اللبنانيين قاطبة وفي الوقت عينه إنه احتلال ماليّ لأموالهم يجعلهم تحت جريرة المحتلّين تحت ستار أنّ المصارف خالية من الأموال، أو تحت حجة أخرى بأنّه ما إن يفتح الباب حتى يحتشد المواطنون في المصارف ليسحبوا أموالهم، وهذه حجة واهية لأن لا مصلحة لأحد بانهيار القطاع المصرفيّ إلى النهاية، فلبنان بلا قطاع مصرفيّ ينتهي. من هنا، إنّ تحرّك النيابة العامة مفيد وضروريّ ومجد ومجيد. غير ان ثمّة إجراءات سريعة يفترض بالدولة اللبنانيّة أن تأخذها وتنجزها حفاظًا على حقوق الناس. من هذه الإجراءات، دعوة النيابة العامة لاستدعاء أصحاب المصارف وليس فقط المدراء، والتحقيق حول طريقة إخراج ودائع الناس إلى الخارج والأسباب الموجبة لهذا الإخراج غير المبرّر، وإلزام المصارف بإعادة الأموال إل اللبنانيين، فهذا حقهم وليس حقّ المصارف تطبيق ما يسمّ بالCapital control بهذه الطريقة الزجريّة والفوقيّة الفاقعة. وبواقعية مطلقة هذا يسمّى احتلالاً مباشرًا من المصارف للودائع الماليّة. الأمر الثاني، يفترض بالنياية العامّة وضع يدها على طبيعة العلاقة بين أصحاب المصارف والصرافين ونوعيّة التحالف بينهما. كيف تبيع المصارف الصرافين الدولار ب1500 و1515 ثمّ يقومون ببيعه ب2000 و2100 أو أحيانًا ب2200 ليرة لبنانيّة. لم نعد هنا أمام سوق حرّة مسؤولة، ذلك أن الحريّة مسؤوليّة وهي بدورها مسؤولة أمام نفسها وأمام المواطنين وأمام الله، بل نحن أمام سوق شديدة التفلّت لا قيود قانونيّة ولا ضوابط أخلاقيّة رادعة. هذا عينًا يتطلّب من حاكميّة مصرف لبنان وبغطاء قانونيّ أن تصدر سعرًا موحّدًا لسعر صرف الدولار، ويكون ملزمًا بالضرورة لقطاع المصارف والصيارفة والسوق على كافة أنواعها، ومن يخالف يقع تحت العقاب القانونيّ إمّا بغرامة باهظة أو بالحبس.
قمع المؤامرة بات لزامًا وضروريًّا، إنهاء احتلال المصارف لأموال المودعين يفترض أن ينتهي، إعادة سعر صرف الدولار إلى طبيعته واستقراره أكثر من إلزاميّ. إن تشكلت الحكومة وولدت خلال ساعات برئاسة الشخصيّة العالمة والنزيهة والراقية الدكتور حسان دياب، فهي حتمًا ستجاهد لتعيد الاستقرار إلى حياتنا المالية والاقتصادية بتوازن واتزان محكمين، وإن لم تتألّف وهي ستبلغ نحو التأليف فالدولة قادرة على وضع يدها على هذا الملف بقوة وانضباط.
مع بداءة السنة الجديدة لبنان بكلّ قواه أمام هذا التحدّي الكبير، وغالبًا انه سيجتازه بنجاح باهر من أجل بنيان الإنسان واستقرار النظام وانتظامهما وخيرهما.