لن يحجب مشهد الشغب في وسط بيروت المعاني العميقة واللغة الهادئة الصادرة من حديث سماحة السيّد حسن نصرالله أمين عام حزب الله إلى الناس. ميزة الحديث في الشكل والمضمون أنّه حمل طاقات اللطف في لحظات العنف. مدّ يده إلى الأفرقاء السياسيين مسيّلاً الجمود ومسهّلاً الطرائق ومفكّكًا القيود قدر المستطاع، لتكون للبنان حكومة إنقاذيّة وإصلاحيّة. ذلك أنّ الإنقاذ هو البداءة، والبلد يعيش أزمة وجوديّة بالمطلق ضمن حرب ماليّة عنيفة تستبدّ به بلا هوادة بمجموعة مخاطر مكشوفة تعلو شيئًا فشيئًا لتبدو أكبر من النظام وأعتى من الكيان.
لن نتوقّف عند حدود النصّ نظرًا لوضوحه الشديد.غير أنّ اللافت فيه بأنّ سماحته تشدّد كثيرًا في معنى التوازن المطلوب داخليًّا على مستوى الاصطفاف السياسيّ بالإزاء مع الاصطفاف الحراكيّ. فقد رجا (وحرف قد للتأكيد والتوكيد) بأن تتمثّل في الحكومة معظم الشرائح من دون استثناءات تذكر. الصفة الإنقاديّة والإصلاحيّة تضع الجميع أمام مسؤولياتهم التاريخيّة في المراحل التغييريّة القصوى، والمسؤوليات ليست معصومة عن الأطر المستوردة والآفاق المتشنّجة، ويفترض من هذه الزاوية أن تكون موصولة وبفهم كبير مع ما يحدث في المحيط لا سيّما في الساحات والأقاليم المتوتّرة والمقبلة بدورها نحو تسويات لا شكّ أنّها ستعبّر عمّا هو جديد.
ميزة الكلام بفحواه أنّه جاء متلازمًا مع ما رمى إليه جبران باسيل ورنا. وقد تبيّن بانّه انطلق من بعد لقاء طويل جمع بينهما. في مقال البارحة بيّنا بأنّ جبران لم يوصد الأبواب أمام الحلول الممكنة ومنها تأليف حكومة يشارك فيها التيار الوطنيّ الحرّ ولا تكون بالضرورة برئاسة سعد الحريري بل برئاسة من يمكن للرئيس الحريري أن يسميه بصفته ممثّلاً عن الوجدان السنيّ باكثريّته المطلقة، وقد وضعه سماحته في الاحتمال الرابع المطروح للنقاش. تمايز سماحته عن جبران باسيل بأنّه لم يرفض التشارك مع تيار المستقبل وهو مدّ يده باتجاهه على الرغم من كلّ خلاف جذريّ، كما في الوقت عينه شدّد على ضرورة مشاركة التيار الوطنيّ الحرّ، لتكون الحكومة إنقاذيّة بكلّ ما للكلمة من معنى.
بين كلام السيّد وانتظار الاستشارات، حدث ما يشبه العصيان بغية الضغط على موقع الاستشارات وواقعها ومنطلقاتها. لم يكن العصيان المنفجر مفاجئًا للمتابعين، بل هو منتظر في كلّ حين. عدم التفاجئ ناتج من حديث ديفيد شينكر لجريدة النهار مع هشام ملحم. يبدو للمتابعين بأنّ شينكر الذي استبق زيارة ديفيد هيل للبنان قرّر تحديد المواصفات كحالة استباق لتلك الزيارة من ناحية، ومن ناحية ثانية كحالة استقراء تقريريّ مواكب للاستشارات التي وقعت بدورها في فخّ العصيان. مسلّمات طرحها شينكر في حديثه اعتبرت كإشارات جوهريّة ومتحرّكة على الأرض اللبنانيّة وبالتحديد في وسط العاصمة بيروت ومنها،
1-حكومة تطبّق الإصلاح الحقيقيّ، واشترط شينكر هذه الحكومة كشرط ثابت لتكون للبنان مساعدات من المجتمع الدوليّ. وبتقدير المتابعين، إنّ الإصلاح بالمنظور الأميركيّ مختلف تمامًا عن الإصلاح المرجوّ بالعمق اللبنانيّ.
2-إشتداد الضغط الماليّ بالمنظور "الشينكريّ"، بقوله حرفيًّا إنّ التوقعات للبنان رهيبة، وإذا لم تتوافر العملات الأجنبيّة سوف يكون من الصعب للبنان أن يشتري الأدوية من الغرب، وكلامه المنكشف يؤيّد ويؤكّد ما كتبناه في هذا الموقع عن الدور الأميركيّ من خلال ديفيد ساترفيلد وصولاً إلى ديفيد شينكر بتعليب أصحاب المصارف والصرّافين وتوجيههم ليكونوا جزءًا من عمليّة تطويق العهد والحرب على لبنان. إنّ شينكر يستثمر الشحّ الماليّ في ميكانيزم الضغط، والانشداد باتجاه اسوداد الوضع.
3-تركيز شينكر على الحراك الشعبيّ كوسيلة كبرى للضغط، وقد قال: "نحن نقبل ما يريده الشارع. المتظاهرون عبّروا بواقعيّة وحكمة عمّا يريدونه (وما تريده دولته كإسقاط). وهم يعرفون ما هي الحكومة القادرة على الإصلاح ومكافحة الفساد،" وأردف قائلاً: "المتظاهرون يعرفون من هم الأفراد القادرون والمؤهّلون للقيام بالإصلاح ويعرفون من هم السياسيون غير المقبولين لتأليف الحكومة". ويتبيّن بفعل ذلك بأن شينكر أعطى الإشارة بواسطة الخيمة الموضوعة في وسط بيروت مع لقمان الحكيم وفضلو خوري للشغب الذي انفجر في وسط بيروت وهو الأقوى والأقسى منذ السابع عشر من تشرين الأوّل الفائت.
4-محاولة زجّه الجيش والقوى الأمنيّة في حمأة مواجهة العصاة بقوله بأنّها تتعرّض لضغوط كبيرة للتعامل بقسوة مع المتظاهرين، مؤكّدًا بأنّ المسؤولين الأميركيين من واشنطن إلى السفارة في بيروت على اتصال بقيادة الجيش اللبنانيّ. فما يبدو خلف كلامه بأنّه يحاول بشكلّ أو بآخر تحريض الجيش على القيادة السياسيّة وكأنه يدعوها إلى عدم تنفيذ الأوامر المعطاة له لتنفيذ القانون.
ديفيد شينكر وهو تلميد جون بولتون ومن خلفه خلف تحريك الشبح باتجاه لبنان، ليبدو هذا الشبح وبتدعيم واضح أقوى من العهد والنظام والحكم والحكومة والأفرقاء والأحزاب وأقوى من اللبنانيين، فيصعب بالتالي اصطياده ليبدو وكأنه هو يصطاد لبنان بكيانه ووجوده ودوره ووظيفته. لقد أكّد شينكر في الحديث عينه بأنّ المنى من كلّ ذلك: "أن يكون لبنان كما العراق ودول المنطقة ذا سيادة حقيقيّة. لا نريده أن يتعرّض لما يتعرّض له العراق الآن، حيث نرى (قائد فيلق القدس في الحرس الثوريّ الإيرانيّ الجنرال قاسم سليماني يشارك في عمليّة اختيار رئيس الحكومة العراقية المقبل. ونحن لا نريد أن تملي إيران الحرب المقبلة مع إسرائيل (عبر حزب الله) كي تدافع عن مصالخها. هذا غير مقبول". ويرمي كلامه بالتحديد إلى استهلاك لبنان كساحة حقيقيّة بحرب ماليّة شرسة بوجه إيران.
إنّها الفوضى الخلاّقة أو غير الخلاّقة بالكليّة، لقد اجتاحت بيروت بعد خطاب هادئ ومسالم للسيد حسن نصرالله. وعلى الرغم من ذلك فالدخان المتصاعد من وسط بيروت لن يحجب هدوئيّة التوجّه المعبّر عن مصالحة مع الذات ومصالحة مع الأفرقاء السياسيين. لكنّ السؤال المطروح هل يدخل لبنان فتنة مذهبيّة تمّ الإعداد لها؟ هل سيتحرّك حزب الله إلى جانب الجيش اللبنانيّ لمواجهة من أتوا من طرابلس وعكار (كما ظهروا على الشاشات) ومناطق أحرى لمواجهتهم وفرض حالة جديدة، بمعنى هل سيتخلّى الحزب عن الحكمة والتبصّر وتحويلها نحو المواجهة الفعّالة؟ نحن أمام أسئلة خطيرة تكتنف وجودنا وتجتاح حياتنا، ولذلك هل من فريق في لبنان يملك أوراق القوّة للاتجاه نحو الحسم؟
المشهد الظاهر أمامنا يشي بمزيد من التدحرج ضمن لحظة استراتيجية أميركيّة تحاول الهيمنة على لبنان من وسط بيروت، كامتداد لمحاولة هيمنتها على العراق. لم يعد بالإمكان الفصل بين ما يحدث في بيروت ومشيئة الإدارة الأميركيّة بتظهير الحدث. لقد دخلوا في المواجهة الشرسة، وهم ماضون إلى الأخير بها. ومن الواضح أنّهم وإن حرّكوا سعد الحريري وجعلوه على رأس المواجهة، كما فعلوا بالأكراد في سوريا، فهم غير مقتنعين بفعاليّته وجدواه على مدى طويل، وما فعلوه بالأكراد سيفعلونه به، وهم أيضًا غير مقتنعين بالعهد ولا بالمجلس النيابيّ ولا بالأحزاب السياسيّة ولا حتّى بمواليهم في لبنان سواء وليد جنبلاط أو سمير جعجع. إنّهم يحرقون الأرض بواسطة شبحهم الماليّ ومجموعة أشباح أخرى تتحرّك بالإزائيّة ضمن منهج واحد وجديد بدأوا باتباعه يقوم على ترميد النظام اللبنانيّ الحاليّ وبناء أو تكوين نظام جديد مندرج في مفهوم الشرق الأوسط الجديد. ويخشى في هذا الإطار أن تكون اللعبة قد سلكت مسلكًا قد يصعب على القوى الداخليّة مواجهته إىّ ضمن خيارات قد تكون ببعض نواحيها متاحة، وبدأ جبران باسيل ينتهجها ومنها زيارته إلى قطر وقد تكون سببًا من اسباب تسريع الحراك في بيروت لتطويق أيّة مساعدة ماليّة قطريّة ممكنة، والخيار الآخر أن يتحرّك جبران باسيل أو رئيس الجمهوريّة باتجاه دمشق ومنها باتجاه العراق بغية تمتين تحالف متين مع سوريا والعراق وروسيا وإيران بوجه التحالف الأميركيّ-السعوديّ-الإسرائيليّ، المذلّ كثيرًا للبنان واللبنانيين، وباعتقاد كثيرين إنّ هذه النوعية من التحالف مطلوبة عند الروس، وهم في قلب المواجهة الناعمة مع أميركا في لبنان، وتشجّع بعض الدول الأوروبيّة عليها، فلا يمكن للبنان أن يستسلم لقدر مجهول أو شبح متوحّش بدأ يظهر بقيم مرعبة ومخيفة ويهيمن على مفاصل الدولة والنظام ويخطف لبنان نحو تكوين قد يكون غريبًا عنه.
خطّ دمشق بغداد بعمقه الاستراتيجيّ، وبفعله الاقتصاديّ الماليّ، بالإضافة إلى التعاون مع القطريين ومدعومًا من روسيا وقد ضاقوا ذرعًا من الهيمنة الأميركيّة بآحاديتها المجنونة بإمكانه أن يكتب خلاصًا للبنان، ويخرجه من النفق المظلم إلى ضياء ساطع وأكيد.
طريق المشرق فجر خلاصنا فاسلكوه.