تجلّى بيان "الجبرانيّ-التياريّ" أمس على كثير من التوازن الموضوعيّ البنّاء في إطلالته على مسألة المشاركة في التكليف والتأليف أو عدمها أي المقاطعة والاعتكاف والاتجاه كما قال نحو المعارضة القويّة البنّاءة للسياسات المالية المتبّعة منذ أكثر من ثلاثين سنة. ففي بيان وتبيين، لم يوصد جبران الأبواب على الإطلاق أمام إمكانيّة استيلاد حكومة إنقاذيّة فعّالة بمسؤوليتها ونضجها، وعميقة بمضمونها وسياقها. فالحكومة المرجوّة منه، "حكومة اخصائيين رئيسها واعضاؤها من اصحاب الكفاءة والجدارة والكف النظيف، وزراء من الاخصائيين الجديرين والقادرين على استعادة ثقة الناس وعلى معالجة الملفات، على ان يكونوا مدعومين من القوى السياسية والكتل البرلمانية"، بمعنى أنّها حكومة مصالحة بين الناس المنتشرين والمتظاهرين في الساحات والدولة، وحكومة إصلاح يرتقي بصلاح مناهجها واستقامة وزرائها ورفعة رئيسها، وتحديد المسؤوليات فيها، وسموّ بيانها، وحداثة رؤيتها، والانفتاح على الواقع الجديد في المنطقة بلا آحاديات تفرض على المنتمين والمنضووين إليها.
من سمع أو قرأ البيان بحصافته وتوازنه وغاص في أعماقه، أدرك المنى الجبرانيّ بصراحته. لم يتغلّف جبران بغموض لفظيّ، ولم يسجن ذاته بضباب لغويّ، ليظهر ما لا يضمر. فجبران لم عرفه عن كثب يأبى التقيّة، ولم يجهد لكي يضع رجلاً في البور وأخرى في الفلاحة. لا يعني التوازن أن تكون ضبابيًّا، بل يعني أن تكون شفّافًا فيما تطلب لنفسك ولسواك. تلك مسالك يعرفها من جعل من التعب وسادة له في يومياته ومعاركه، والشفافيّة قادته أو ربما تقوده بحال اشتدّت العواصف على لبنان لينكر نفسه لكي يخلص لبنان. فالإنكار بهذا المعنى لن يكون خسارة كما توهّم بعضهم بل ربحًا لوطن لا يمكن أن يبقى أسير حرب أشباح عليه إلى ما لا نهاية، شريطة أن يبقى لبنان بجوهره متوازنًا مع نفسه وبنفسه أي بمكوّناته التي باجتماعها الميثاقيّ أضحت وجهه وأمست نفسه وغدت هويته وصارت جوهره. المسألة عند جبران وسواه بأنّ المسّ بالميثاقيّة إنهاء للبنان كمشروع فريد ومضيء لجواره، أو كمشروع تخاطب الإنسانيّة نفسها على أرضه، أو يخاطب الله نفسه على أرضه، بلا تمزّق أو انفجار ضمن أكاديميّة دوليّة للإنسان والحوار ارتضيناها مساحة لقاء ومدى رجاء.
الطامة الكبرى الظاهرة في قلب البيان والطائفة فوق أرض لبنان، تلك الحرب الماليّة القاسيّة بل البالغة القساوة التي تشنّ على لبنان، وقد تبدو في المظهر وليس بالضرورة في الجوهر، أقوى من العهد والنظام والحكم والحكومة، ذلك أنها إذا غدت مستوية في باطن الجوهر يكون لبنان قد انتهى ككيان ووطن ودولة ونظام، عندئذ نكون قد بلغنا نحو تكوين جديد غير محصور بكيانيّته المحدودة بمساحته، بل المتسعة نحو المشرق العربيّ، باستنادها على البواية العراقيّة أيضًا. فلبنان والعراق إذا رمنا نحو التوصيف الدقيق منصتان واقعيتان لتثبيت ذلك التكوين المنعكس حتمًا على بنية البلدين واستطرادًا على سوريا والأردن من بعدما هوّدت القدس وباتت إسرائيل وطنًا يهوديًّا نهائيًّا ليهود العالم بأسره. كان الرئيس الراحل كميل شمعون خلال الحرب اللبنانيّة يعلم لمن كان يلتقيهم: خلّي عينك على العراق". لن تعود الأعين، وفي ظلّ الاصطفاف الحاليّ وبحدّته مسمّرة فقط على العراق بل على لبنان، كمنصّة لفرض نظام جديد، أو قل لفرض شرق أوسط جديد يولد، وبالنظرة الأميركيّة، من رحم الفوضى الخلاّقة القاتلة بحروبها الماليّة والاقتصاديّة والأمنيّة والسياسيّة والحضاريّة.
الصراع المتفشّي في لبنان، يدور بين تظريتين واضحتين:
1-النظريّة الأولى: تطويق لبنان، بالحرب الماليّة عليه، أو حرب شبح الدولار عليه. فهي تسفك دمه بالمعيشة ونظام الحياة، وتشلّ قدراته وإمكانيات وجوده بهذا العصب، أي الفولس والعملة، لكونها العصب الذي عليه يبنى نظام الحياة البشريّ كأفراد وشعوب، ويحيا جسد الدولة بمؤسساتها وهيكليّتها. متى شلّ الجسد بطلت الحركة. حركة الدولة بأسرها مشلولة بالكامل، لكون هذا "الشبح" فرض نفسه على المعادلات بل جعل نفسه أقوى منها في المدى المنظور القريب. والواضح، تمام الوضوح، بأن التطويق دوليّ وعربيّ-سياسيّ، ولكنه مستند إلى الأنظومة الماليّة بتشدّد بارز وكبير، ليقينه بأن التشدّد يقوّض ويجوّف الدولة والعهد، ويتيح المجال ويبيح الإمكانيات لمزيد من التمرّد على كونه إباءً، والإكثار في الحراك المتدفّق في الشوارع والساحات، ولكنّ الإباء يصير جفاءً، أو جفافًا، إذا استهلك نحو القتل والإرهاب. عندئذ تتكامل عنصر التطويق والتجويف ليبلغ لبنان نحو نهاية عدميّة غير منتظرة.
2-النظريّة الثانية: تطويق مشروع تطويق لبنان. قد لا يكون التطويق يسيرًا ولكنّه بالمطلق ليس عسيرًا، إذا اتفق اللبنانيون على انتهاج مرحلة جديدة في الخطاب السياسيّ والداخليّ والتوجهات الاقتصاديّة الناجعة. في البيان الجبرانيّ، ثمّة آليات، يمكن استشرافها واستلهامها في مسريي التكليف والتأليف. بداءة التطويق إبطال نظريّة "أنا أو لا أحد" المقيتة، والتي بسببها تمّ إحراق أسماء شخصيّات مرموقة ومنظورة ضمن الدائرة السنيّة. ذلك أنّ تلك النظريّة مستولدة في كنف "الفوضى الخلاّقة"، وهي مستهلِكة للرئيس سعد الحريري ضمن مدى محدود ومحدود جدًّا. وينساب التطويق المضاد نحو معايير جديدة وجديّة في تأليف الحكومة المنتظرة فلا تستسلم لترف الانقسامات العموديّة الحادّة، وتلفظ خارجًا كلّ فساد يحرّك وزراءها نحو السرقة واللصوصيّة، وتعمد على استرداد الأموال المنهوبة أي المسروقة لخزينة الدولة بواسطة القضاء القويّ والنزيه والمستقلّ، والذي بدوره يستدعي أصحاب المصارف الكبرى، وهو قادر الآن على استدعائهم، ليفرض عليهم استعادة أموال المودعين المهرّبة إلى الخارج، وتحريرها من استرهانها من دائرة الحرب الماليّة على لبنان، فمعظم أصحاب المصارف والصرافين أدوات في الحرب الماليّة على لبنان، وهم موحّدو الإرادة والهدف بقيادة الرئيس سعد الحريري وإشراف الرئيس فؤاد السنيورة. كما لا تستسلم الحكومة الجديدة، ومن ضمن منظومة المعايير الجديدة، لأيّ تفلّت أمنيّ يقتات منه المشاغبون والإرهابيون، بل تعمد على تعزيز دور السلطات العسكريّة والأمنيّة بكلّ الوسائل المطلوبة وبالدعم السياسيّ المطلق، وتحدّد موقع لبنان سياسيًّا في الداخل والخارج، فتبيّن بأن إسرائيل عدوة باستمرار اغتصابها للحقوق العربيّة، ولبنان بمضمونه جزء من المديين المشرقيّ والعربيّ، ولكنه ليس فريقًا في محور بوجه محور آخر، فيترجم بصياغة علاقات طيبة وراقية بينه وبين سوريا وهي الجارة الأقرب إليه، وبينه وبين دول الخليج العربيّ بمناهج جديدة فيكون لبنان جسر خير ومحبة بين الجميع.
تبقى مسألة شديدة في دقّتها. وهي موقف السيّد حسن نصرالله أمين عام حزب الله. كلّ هذه الحرب على لبنان بثقلها الماليّ وحراكها الشعبيّ، تستهدف حزب الله، كما في الوقت عينه تستهدف الترابط العضويّ الكبير بين حزب الله والتيار الوطنيّ الحرّ، وبين العهد والمقاومة. موقف جبران باسيل لم يكن صادرًا عنه خلوًّا من تنسيق منهجيّ وواضح مع السيد نصرالله، على الرغم من إشارته في متن البيان إلى أن الحلفاء أحرار بالمشاركة في الحكومة برئاسة سعد الحريري. ومن الواضح بأنّ السيد نصرالله، المتشدّد بتحالفه المتين مع التيار الوطنيّ الحرّ، ورئيسه جبران باسيل، والأكثر تشدّدًا بتعاطفه وتعاضده مع فخامة الرئيس العماد ميشال عون، سيقول كلمة الحقّ والفصل. فالمعادلة المقبلة، تتمحور على النحو التالي: إمّا حكومة إنقاذيّة وشموليّة بضمّها مروحة واسعة من التمثيل السياسيّ إلى جانب اختصاصيين وحراكيين برئاسة شخصيّة سنيّة يختارها سعد الحريري، وإمّا فليتحمّل بنفسه حكومة آحاديّة الوهج والنهج والوجه، لن تنال رضى أحد من هنا أو هناك.
يوم الإثنين القادم، سيكون مفصليًّا في تاريخ الأزمة المتدحرجة وفي تاريخ لبنان. الرئيس الحريري مزكّى حصرًا من طائفته واللاعبين معه وبه، والتزكية غير ميثاقيّة وإنّ عبّرت عن حالة تمثيليّة، إذا لم ينفتح الرئيس الحريري على رئيس الجمهوريّة والتيار الوطنيّ الحرّ وحزب الله أو أذا لم ينفتح الجميع على بعضهم بمشروع حلّ متوازن ومتكامل وشامل ينقذ لبنان من براثن "الشبح" ومخالبه وينهي الأزمة فيه نتيجة الحرب الماليّة والشرسة عليه.
ألا أعطانا الله أن نجوز الأسبوع المقبل بخير لتكون لنا وبنا أعياد مباركة، فيتبارك وطننا بميلاد المحبّة وانبلاجها بالمسيح يسوع المتحرّك في جوهر الحضارات والثقافات والأديان.