حبيب البستاني*
أسئلة كبيرة يطرحها اللبنانيون هذه الأيام، فمنذ حوالي أيام قليلة كان اتهام رئيس الجمهورية بأنه يقوم بتأخير الاستشارات النيابية في خطوة اعتبرها البعض مخالفة واضحة لدستور الطائف من جهة، وضرباً لموقع الرئاسة الثالثة التابعة للطائفة السنية الكريمة من جهة ثانية، وتنادى رؤساء الحكومات السابقون وأصدروا البيانات والتصريحات المنددة بذلك حتى أن بعضهم ذهب إلى حد اعتبارهذه الممارسات أقرب إلى النظام الرئاسي منها إلى النظام البرلماني، فأين الحقيقة من كل ذلك؟
طيلة الأسابيع الماضية كانت ممارسة فخامة الرئيس بالنسبة للدعوة لاستشارات نيابية ممارسة قانونية دستورية مئة في المئة، ولعل الدليل الأكبر على ذلك كان دعوته لاستشارات نيابية ينتج عنها تكليف رئيس الحكومة العتيد، وكان دور فخامته دوراً جامعاً موحداً بحيث تأتي الاستشارات ليتبعها التكليف وتكون كل المصاعب والألغام قد أزيلت من أمام تشكيل الحكومة العتيدة، مما يتيح عملية الولادة في فترة زمنية قصيرة بالنسبة لولادة الحكومات في لبنان.
لكن ما حصل ربما اثار حفيظة البعض من ناحية أن كل الاتصالات كانت قد بدأت تعطي ثمارها بحيث أعطي لسمير الخطيب ما لم يعطى لغيره من تنازلات وتسهيلات من هنا وهناك لا سيما من قبل الفريق المحسوب على رئيس الجمهورية. وهذا إن دل على شيء إنما يدل أن تسمية الخطيب كانت مناورة سياسية لا أكثر ولا أقل، وبالتالي فإن الذي أذكى تسميته كان يضع في مخيلته حتمية فشله البعيدة كل البعد عن احتمالات نجاحه، مما حدى بهذا الفريق السياسي لاستعمال كل الأسلحة المشروعة والغير مشروعة لتفشيله، وهنا وقع الخطأ الكبيرأو الخطيئة الكبرى حيث تم استغلال الموقع الديني الأول للطائفة، لإصدار ما يسمى ب " التكليف الشرعي " قضى بتحريم أي شخص من إمكانية تبؤ منصب رئيس حكومة إلا رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري.
إستشارات أو بدون استشارات الحريري رئيس مكلف
وهكذا أصبح البلد أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الخضوع لاتفاق الطائف وإلزامية حصول التكليف كنتيجة لاستشارات نيابية ملزمة، أو الرضوخ لمشيئة المرجعية الدينية الأولى الذي ينتمي إليها رئيس الحكومة؟ وبصريح العبارة نحن أمام واقعين دستوريين متناقضين بالشكل والمضمون، الأول يدعو لاحترام الأصول الديمقراطية وإجراء استشارات نيابية ملزمة أياً تكن نتائجها، وهذا يشكل احتراما للممارسة الديمقراطية والأصول البرلمانية، وإما الذهاب نحو ولاية " فقيه " ولكن هذه المرة من مذهب آخر، أي بما معناه هنالك صراع حقيقي بين الجنوح إلى الدولة الدينية وبين إمكانية الانطلاق إلى الدولة المدنية.
سيناريو فاشل
بغض النظر عن راي هذا الفريق أو ذاك من مسألة تسمية رئيس الحكومة من قبل المرجعية الدينية وبغض النظر عن التمثيل الكبير للحريري، فإن هنالك إجماعاً أن السيناريو الذي تمت فيه التسمية كان فاشلاً، وأنه كان بالإمكان الوصول إلى نفس النتيجة لو كلف رئيس حكومة تصريف الأعمال نفسه بإبلاغ الخطيب عن سحب الدعم عنه، أما لماذا لم يقم الحريري بذلك ولماذا أحجم عن سحب الدعم ؟ اسئلة وجيهة سنحاول الإجابة عليها بما ىتيسر من معلومات وتحليلات.
عند اختيار الحريري للخطيب لم يقم بتسميته إلا بصورة شفهية وليس كما كان قد طلب منه الثنائي الشيعي أن يتم ذلك كتابة، سيما وأن تسمية الخطيب جاءت بعد تسمية شخصيات سنية أخرى جرت عملية إقصائها وتفشيلها بصورة ممنهجة الواحدة تلو الأخرى، من هنا فإن رئيس حكومة تصريف الأعمال لم يكن في نيته وليس هو في وارد التنازل عن رئاسة الحكومة وأنه يمارس في ذلك القول الصيداوي الشائع " تفوه عليها ما أحلاها " أي أنه يريدها على مزاجه وليس كما هي، فهو يريد الوردة ولكن بدون الشوك وهذا ما لا يمكن الحصول عليه، فجنة الحكم مملؤة بالمسؤوليات والمطبات والمصاعب، وأن التنعم بها يتطلب أحياناً دفع أثمان باهظة ليس أقلها مطالب شعبية محقة لا قدرة للحاكم أن يتجاوب معها ويحققها، ولو كان بالإمكان تحقيق كل أحلام الناس لوجب علينا تسمية رئيس الحكومة بصانع الأحلام ولكن أحلام اليقظة تتبدد على أرض الواقع.
الدولة المدنية
بغض النظر عن المخارج والحلول وهي لا بد آتية وعلى الطريقة اللبنانية المتبعة ب " لا غالب ولا مغلوب " هذا الشعار الذي رفعه الرئيس صائب سلام بعيد أحداث ١٩٥٨ والذي لم يزل معمولاً به حتى يومنا هذا، والذي يتقنه جيداً رئيس المجلس النيابي من طريق تدوير الزوايا، إلا ان المطلوب بات أكبر بكثير مما تقدم وأنه آن الاوان لوضع طريقة عمل وأسلوب جديد ودستور جديد يعمل به بدون خضات ومطبات، فما هو الحل؟
لقد بات اللبنانيون كل اللبنانيين مقتنعون أن كل الأزمات السياسية وحتى الاقتصادية تعود إلى عدم تلاؤم دستور ١٩٢٦ المعدل باتفاق الطائف مع ما يقتضيه العصر، من ممارسة شفافة وأطر حديثة للمحاسبة ومكافحة الفساد وتطبيق النظم الديمقراطية، وأنه لا بد لنا من وضع اسس الدولة المدنية موضع التنفيذ بكل مندرجاتها، من فصل الدين عن الدولة، ووضع قانون موحد للأحوال الشخصية، إلى الزواج المدني الإلزامي، وصولاً إلى وضع قانون جديد للأحزاب يضع في أولوياته ضرورة أن تكون الأحزاب متعددة الألوان الطائفية والمذهبية، إن الدولة المدنية باتت مطلباً ملحاً اليوم قبل الغد، لأن مشاكل البلد أصبحت أكبر من أن نجد لها الحلول، إلا من ضمن المحاسبة والمراقبة بعيداً عن منطق المحاصصة والمحسوبيات الطائفية والحزبية والمناطقية.
كاتب سياسي*