أثار فيلم The Irishman ضجَّة كبيرة فور الإعلان عنه، ثمّ عرضه على شبكة Netflix يوم 27 تشرين الثاني، ليس فقط لأن ميزانيته 140 مليون دولاراً، وإنّما لأنّ الفيلم من إخراج المبدع مارتن سكورسيزي، وبطولة روبرت دي نيرو، وآل بتشينو، وجو بيسكي.
لكنّ السبب الآخر وراء هذه الضجة هو أنَّ الفيلم يحكي قصَّة حقيقية عن المافيا، كتبها الرجل الأيرلندي بنفسه قبل وفاته، كما أنَّ أحد عوامل النقاش الكثير حول الفيلم هو أنَّ مدَّة عرضه 3 ساعات ونصف الساعة. في هذا الموضوع المترجم عن صحيفة New York Times الأميركية نستعرض معكم بعضَ التفاصيل حول القصّة الحقيقيّة وراء هذا الفيلم المثير للجدل، وبالطبع عليكم أن تعرفوا أن هذا الموضوع يحتوي حرقاً لبعض مشاهد وأحداث الفيلم.
اللقاء الأوّل بين جيمي هوفا و The Irishman
الرجل الأيرلندي هو بطل هذا الفيلم، وهو رجلٌ كان له دور كبير في المافيا في أمريكا في الستينات والسبعينات. يدعى ذلك الرجل «فرانك شيران»، وهو تاجرٌ مُتنقل، وقاتلٌ بالأجرة لصالح العصابات. أمّا الرجل الذي على الطرف الآخر «جيمي»، كما يدعى في الفيلم، فهو جيمس ريدل هوفا، رئيس «نقابة سائقي الشاحنات»، الذي لم يُحَلّ حتّى الآن لُغز اختفائه عام 1975.
فيلم The Irishman
قصّة الفيلم تدور من خلال كتاب أملاه فرانك شيران «الرجل الأيرلندي» قبل موته، على المُحامي والمُدّعي العام السابق تشارلز براندت، خلال لقاءاتٍ جمعتهما قبل موت فرانك، ونُشر عقب وفاته عام 2004 بعنوان: «I Heard You Paint Houses»، والتي ترجمتُها هي: «سمعت أنّك تطلي المنازل»، وهي كلمة السرّ التي يبدأ بها الفيلم، فما المقصود بالطلاء في هذه الجملة التي قالها «جيمي» لـ «فرانك» في أوّل لقاءٍ جمعهما؟
كان فرانك قاتلاً مأجوراً، يعمل لدى أحد رؤساء المافيا، والمقصود بطلاء المنازل هو لون الدمّ، إذ عندما يقتل فرانك برصاصتين في الرأس يطلي أرضيّات منازل ضحاياه بلون الدمّ، وعندما بدأ فرانك التعاون مع جيمي قال له جيمي: سمعتُ أنّك تطلي المنازل، في إشارة معناها أنّه سيستخدم مهارته في القتل لصالح «النقابة».
والآن لنحاول الإجابة عن السؤال الذي طرحه فرانك على نفسه في الفيلم:
كيف بدأ كل ذلك بحق الجحيم؟
إنَّ رواية الكتاب عن موت جيمي تعرَّضت للتشكيك كثيراً من جانب الخبراء في شؤون العلاقات بين العصابات وهوفا، ومن جانب الصحفيين الذين كتبوا عن القضية أيضاً. وخمَّن البعض أنَّ فرانك قد ضخَّم دورَه في الأحداث، بغرض منح مزيدٍ من الأرباح لعائلته -من عائدات كتابه- قبل رحيله، رغم أنَّ الغالبية يتفقون على أنَّ تسلسل الأحداث الذي رواه فرانك حتى الوصول إلى ذروته كان رائعاً ومتماسكاً.
يُؤدِّي روبرت دي نيرو دور فرانك، وهو أحد قُدامى مُحاربي الحرب العالمية الثانية الذي يعمل سائق شاحنة في الستينيات، مع وظيفةٍ جانبية يُحوّل فيها اللحم البقري والدجاج الذي يُفترض به توصيله لحسابه الخاص ويبيعه مباشرةً إلى المطاعم.
وهنا تحدث الصدفة، حين تتعطَّل شاحنته في محطة بنزين بولاية بنسلفانيا، ويتقرّب منه رجلٌ غريبٌ يُدعى راسل بوفالينو (يقوم بدوره جو بيسكي)، الذي يعرف ما يكفي لإصلاح المُحرّك وتشغيله من جديد، كان هذا عندما بدأ كلُّ شيء.
راسل بوفالينو.. الأب الروحي لفرانك
حافظ راسل بوفالينو الحقيقي، المولود في صقليّة، على اختفائه عن الأنظار داخل مدينة كينغستون بولاية بنسلفانيا. ورغم اتّهامه بالجرائم في أكثر من مناسبة فإنه لم تثبُت إدانته بأيّ شيء سوى المخالفات المرورية، بحسب مقالٍ صدر عام 1973 في أعقاب القبض عليه. وجرى ترحيله ذات مرة، لكن بلده الأم إيطاليا رفضت تسلمه، لذا سُمِحَ له بالبقاء داخل الولايات المتحدة.
ربما اشتهر راسل أيضاً بأنّه مُنظّم مؤتمر أبالاشين عام 1975، حيث اجتمع زعماء العديد من عائلات المافيا داخل منزلٍ ريفيّ بشمال نيويورك لرأب الخلافات. فداهمت قوات الولاية المنزل، بعد أن اشتبهوا في نشاطٍ مُفاجئ بالمنطقة.
مثّلت الحادثة ضربةً كُبرى للعصابات، إذ وُضعت المافيا على رادار قوات إنفاذ القانون، ومُدير مكتب التحقيقات الفيدرالي حينها جي إدغار هوفر. لكنّ راسل، كما يظهر في الفيلم، واصل صعوده خلال السنوات التالية.
وكان يُعرف عن العاملين في عالم الجريمة المُنظمة بفيلادلفيا أنَّهم يقضون أوقاتهم في حانة Friendly Lounge، التي وُصِفَت خلال السنوات التالية بأنّها أشبه بـ «كليةٍ لشباب العصابات».
ويُعرف مالكها باسم «سكيني ريزور» (الذي أدَّى دوره بوبي كانافال في الفيلم)، وكان أشبه بمُعلِّمٍ لرجال العصابات الصاعدين والواعدين، بحسب ما كتبه الصحفيون عنه لاحقاً.
وكان أنجيلو برونو (هارفي كيتل في الفيلم) أحد الوجوه المألوفة أيضاً في الحي، وهو زعيمٌ نافذ في عائلةٍ إجرامية ببنسلفانيا وجنوب نيوجيرسي. وبرونو الذي أدّى دوره كيتل، يُعرف على أرض الواقع باسم «الدون المُطيع- Docile Don» بسبب طبيعته الهادئة، ولم يحظَ بالكثير من المشاهد في الفيلم.
في أوج لمعانه -وكما ظهر تماماً في الفيلم- كان جيمي هوفا (آل باتشينو) قائداً غير عادي لنقابة أخوية سائقي الحافلات العالمية، وكانت أقوى نقابات البلاد التي لها علاقاتٌ بأكبر عائلات وزعماء المافيا.
خلال تلك السنوات في منتصف القرن الماضي، كانت نقابة سائقي الحافلات وغيرها من النقابات تُنفّذ التفجيرات والاغتيالات والحرائق المُتعمّدة وكافة أشكال الجريمة العنيفة للحفاظ على سلطتها ونمائها المالي. وتبنّى جيمي هوفا فرانك (الأيرلندي) تحت ذراعه، على غرار تبنّي راسل له، وبدأ في تحريكه.
قدَّمت علاقة فرانك مع أستاذيه راسل وجيمي في الفيلم عدداً من الشخصيات المُساعدة التي لا تُنسى، وكلّها مُستقاةٌ من الحياة الواقعية.
فهناك فينسينت غالو، المعروف باسم «جو المجنون- Crazy Joe»، وهو واحدٌ من رجال المافيا في مدينة نيويورك، ويُعرَف بدوائره الاجتماعية رفيعة المُستوى. إذ صادق الفنان جيري أورباش بعد أن أدّى دوراً مبنياً على شخصية غالو في فيلم The Gang That Couldn’t Shoot Straight. وكان غالو عضواً فيما باتت تُعرف لاحقاً باسم «عائلة كولومبو الإجرامية».
عَقِبَ نزاعٍ داخل العائلة عام 1972، كان غالو يحتفل بعيد ميلادٍ مع العائلة والأصدقاء داخل مطعم Umberto’s Clam House بشارع مولبيري، في حي ليتيل إيتالي بمانهاتن. وتعالت أصوات إطلاق النار في الخارج، فخرج غالو مُتعثِّراً إلى الرصيف، ثم مات.
وصف الشهود مُسلّحاً واحداً قام بعملية الاغتيال (كما بالفيلم)، بينما قالت الشرطة إنَّ عملية الاغتيال نفَّذها ثلاثة مُسلّحين أو أكثر، لكنَّ بعض رجال الشرطة قالوا إنَّ تصريحات الشرطة كانت حيلةً لكشف الاعترافات الكاذبة والمعلومات المُضلِّلة، وإنَّ القاتل كان واحداً فقط. وفي حين دارت الشُّبهات حول تنفيذ رجالٍ آخرين لهذا الهجوم، فإن فرانك قال في كتابه إنَّه قتل غالو بمفرده، كما جاءت رواية الفيلم.
يلتقي شيران أيضاً بأنثوني بروفنزانو «توني المُحترف- Tony Pro»، الذي وُصِفَ في تغطية صحيفة New York Times بأنَّه «رجلٌ قصير ومُمتلئ وثقيل الحركة، ويحمل ندبات أيام الشباب حين كان مُلاكماً هاوياً».
وكان بروفنزانو وهوفا أصدقاءً فيما مضى، لكنّهما انقلبا على بعضهما البعض أثناء قضائهما عقوبة داخل نفس السجن.
تشمل أحداث القصة أيضاً أنثوني ساليرنو «توني السمين- Fat Tony»، زعيم بروفنزانو، الذي حافظ على قاعدةٍ محلية في شرق هارلم، وكان من أتباع المدرسة القديمة بكل تأكّيد.
ونصَّ ما كتبته صحيفة New York Times عام 1992 عن وفاة ساليرنو على التالي: «كان ساليرنو يُمثّل أخلاقيات العصابات قديمة الطراز، التي تكره الشهرة اللافتة للانتباه، بعكس زعماء المافيا الشباب مثل جون غوتي».
وقد أُدين بمحاولة الرشوة والتلاعب في أكثر من قضية عام 1964، وحُكِمَ عليه بالسجن كما حدث مع جيمي هوفا، ليُسلّم زعامة نقابة سائقي الشاحنات إلى فرانك فيتز (غاري باسارابا) المُوالي له.
وحين أُطلِق سراح جيمي هوفا مُبكِّراً عام 1971، كان الأمر مشروطاً بعدم عودته لقيادة النقابة. ورغم ذلك، أوضح بكل وضوحٍ -وبطريقته المُتعجرفة- أنَّه يرغب في استعادة وظيفته القديمة. وبدأ الإعداد لتأمين الأصوات في الانتخابات المُقبلة.
مثّلت رغبة جيمي هوفا لاستعادة رئاسة نقابته خطراً على أموال واستثمارات المافيا، ويعتقد الكثيرون أنَّ دوافعه التي لا تهدأ في هذا الصدد، إلى جانب تهديده للوضع القائم بين العصابات والنقابة هي ما أدّت إلى قتله، وهو ما قدَّمه الفيلم بالضبط.
الحدث الذي تغيَّر بعده كلُّ شيء!
شهد حدثٌ واحد تجمُّع العديد من الشخصيات الرئيسيّة داخل نفس الغرفة، وسط مشهدٍ ملحمي في الفيلم: ليلة تقدير فرانك (الرجل الأيرلندي) في حفل عشاءٍ فاخر أُقيم تكريماً له في نادي Latin Casino الليلي خارج فيلادلفيا عام 1974.
كان الحفل يضُم مقاعد لكبار الزوار، وامتلأت الغرفة بأعضاء نقابة سائقي الشاحنات ورجال العصابات، إلى جانب المُطرب جيري فايل والفتيات الراقصات. يتذكّر فرانك هذا الحدث قائلاً: «كان جيمي هوفا هو المُتحدِّث الرسمي في تلك الليلة، وقدّم لي ساعةً ذهبية مُرصَّعةً بالألماس تقديراً لي».
لكنّ المشهد الجانبي كان ينطوي على إحباطٍ من رفض جيمي هوفا التنحي. وقع ذلك المشهد خلال العشاء في الفيلم، لكنَّ رواية فرانك نصَّت على إجراء المحادثة الأساسية في الليلة السابقة للعشاء خلال تجمُّعٍ في فندقٍ قريب، حيث تَشارك راسل وجيمي هوفا وفرانك وبرونو وجبة العشاء، لكن اللقاء لم يجرِ على ما يُرام. وبعد مرور عدة شهور تلقَّى فرانك الأوامر في النهاية لقتل جيمي هوفا، على حدّ روايته في الكتاب، التي تبنَّاها الفيلم أيضاً.
كان زعماء العصابات ونقابة سائقي الشاحنات مُجتمعين في ديترويت عام 1975، من أجل زفاف ابنة ويليام بوفالينو (راي رومانو)، ابن عمّ راسل ومُحامي جيمي هوفا. وحدث الزفاف بالفعل، على غرار الكثير من الأحداث الرئيسية في فيلم The Irishman. إذ تحقّقت الكثير من الحقائق الصعبة التي ظهرت في رواية فرانك غير المؤكدة على أرض الواقع. وقال في روايته إنَّه قاد السيارة مع راسل بوفالينو إلى الزفاف، ومعهما زوجتاهما، لبضعة أيام.
كان جيمي هوفا هناك بالفعل لحضور اجتماعٍ ما، وانتظرهم حيث شُوهِد آخر مرة في مطعم Machus Red Fox ببلدية بلومفيد في ميتشيغان، خارج ديترويت، في الـ30 من يوليو/تموز عام 1975. وصل إليه فرانك، الذي كان يُعتبر شخصاً مُثيراً للاهتمام في أحداث ذلك اليوم، أولاً من أجل لقاءٍ أخيرٍ قاتم بحسب روايته.
وقال في الكتاب: «لقد اتُّخِذ القرار بطلاء المنزل، وهذا كل شيء»، وبالفعل «طَلى» الرجل الأيرلندي المنزل بدماء أستاذه جيمي هوفا!.