شهدت الفترة التي أعقبت الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابوليون بونابرت (1798-1801) شغفا ملحوظا بكتابة تاريخ تلك الفترة القصيرة والمثيرة للجدل، على الصعيدين الفرنسي والمصري، دفع معاصرين لها إلى تسجيل شهادات كتبوها في مذكرات ويوميات حملت صبغة التاريخ والتوثيق للفترة، لكنها انطلقت بدوافع شخصية تجاه قائدهم.
تأثرت تلك الكتابات، لاسيما في النصف الأول من القرن التاسع عشر، بحالة انقسام في الرأي بين شهود العيان من القادة الفرنسيين أنفسهم، بحسب اتجاهاتهم الفكرية ودرجة ولائهم لقائدالحملة بونابرت، فخرجت كتاباتهم متباينة من حيث واقع السرد التاريخي وتفسيره.
جاءت هذه المذكرات، التي كتبها بعض القادة والضباط والجنود البسطاء أحيانا، متوافقة مع أهواء بونابرت الراغب في تعظيم مجده بالتعتيم على إخفاقات عسكرية في مصر، في حين جاءت أخرى فاضحة لوقائع شكلت خطورة على مستقبل القائد الشاب ومجده وانتصاراته السياسية والعسكرية في أوروبا تحت لواء الثورة الفرنسية.
يرصد مؤرخون ثلاثة اتجاهات فكرية سادت المجتمع الفرنسي خلال القرن التاسع عشر، ونهضت بدور في كتابة تاريخ الحملة الفرنسية على مصر عموما، وبونابرت على وجه الخصوص :
اتجاه انطلق في شخص بونابرت “الإمبراطور”، جعله موضوعا لسرد وقائع حملته، ركز على تمجيده كقائد بارز، متسترا أو مبررا لإخفاقاته أمام المجتمع الفرنسي والرأي العام الأوروبي.
اتجاه أعقب سقوط حكم بونابرت في عام 1815، وهو اتجاه دعمته الملكية الفرنسية العائدة في أسرة بوربون (1815-1830)، ركز على فضح دعاية بونابرت وتقليل شأنه، واعتبار حملة مصر أولى حملاته الفاشلة وبداية هزائم فرنسا بقيادته.
اتجاه وُصف بالقومي، حافظ أنصاره على مكتسبات الثورة الفرنسية كإرث لا يمكن قصره على شخص واحد مهما عظمت مكانته، ركز على اعتبار حملة مصر واحدة من حروب الثورة “المتميزة” لنشر مبادئها خارج الحدود الفرنسية.
تحديات “نابوليونية”
اتخذت السلطة الفرنسية، المتمثلة في شخص بونابرت وقتها، موقفا شديد العداء تجاه كل ما يُكتب سلبا في مذكرات قادة عسكريين شاركوا في حملته على مصر، وبرزت صرامته في رد فعله تجاه مذكرات الجنرال رينيه، أحد أبرز قادته، والتي نشرها في باريس عام 1802، بعد عام واحد من عودة الجيش إلى فرنسا، تحت عنوان “مصر بعد معركة هيليوبولس”.
كشف رينيه في مذكراته حالة تخبط واضطراب الجيش الفرنسي في مصر، وتكبد بلاده، ممثلة في حكومة “الديركتوار (الإدارة)” وقتها، خسائر بشرية ومادية فادحة، الأمر الذي دفع بونابرت إلى إصدار قرار يحظر تداول مذكرات رينيه وملاحقتها في المكتبات ومصادرة نسخها.
أدرك بونابرت مدى خطورة نشر حقائق ومعلومات حساسة عن حملة مصر، وأن ذلك قد يفقده بريقه العسكري والسياسي، لكونها تفتح المجال أمام خصوم يتحينون فرصة الإطاحة به، ومحاسبته على إخفاقه في تحقيق أهداف روج لها، ومن ثم تنحيته عن المشهد الفرنسي.
بيد أن إنكلترا، عدو فرنسا التاريخي، نجحت في الحصول على نسخة من مذكرات رينيه وترجمتها إلى اللغة الإنجليزية ونشرتها في العام نفسه تحت نفس العنوان، وقدمتها إلى أوروبا بإشادة ناشرها الذي وصف رينيه بحياديته في نقل معلوماته.
عززت مذكرات رينيه رغبة بونابرت في محاولة التخلص من وثائق وتقارير قد تدينه، محفوظة في دور الأرشيف الفرنسية، وتقول مصادر تاريخية إنه أرسل سكرتيره الخاص لوي دو بورين في 17 حزيران عام 1802 إلى مسؤول عن دور الأرشيف وطالبه بتسليم كل ما بحوزته من أوراق ووثائق تتعلق بمصر.
بدأ بونابرت يتعقب كل ما ينشر عنه في سياق حملته المصرية، لاسيما بعد صدور مذكرات أخرى كتبها جندي فرنسي شارك في الحملة يدعى جاك ميو بعنوان “مذكرات تاريخ الحملات على مصر وسوريا خلال السنوات السادسة والسابعة والثامنة للجمهورية الفرنسية”، فضح فيها تردي أوضاع جنود وجيش الحملة، فأمر بونابرت بتشكيل لجنة معنية بمراجعة الكتب قبل نشرها وتنقيح ما يرد فيها، وشمل الإجراء كل ما يُكتب عن حملة مصر تحديدا و حروب الثورة الفرنسية عموما.
ويقول المؤرخ الفرنسي فليكس بونتاي في دراسته “نابليون الأول ونظام السلطة في فرنسا” إن توطيد حكم نابوليون “جعله يحكم رقابته على نشر مذكرات رجاله العسكريين الذين شاركوه في حملته على مصر، وأعطى صلاحيات واسعة لمجلس الدولة وصلت إلى حد تحديد عدد نسخ الكتاب وحذف معلومات يعتبرها المجلس غير مناسبة، وأحيانا فرض غرامات مالية على الكاتب أو إصدار قرارات اعتقال ومصادرة ممتلكاته، فالمجلس هو جهة ترعى حماية مصالح فرنسا المتمثلة في دولة الإمبراطور بونابرت”.
أسهم القرار في عزوف عسكريين بالفعل عن كتابة شهادات ومذكرات خشية الإجراءات الجديدة، حتى وإن كانوا من أنصار بونابرت في الجيش، مثل الضابط هوويه، الذي كتب في مقدمة مذكراته بعنوان “حملة مصر: مذكرات ضابط في الجيش الفرنسي”، المحفوظة في دار الوثائق القومية بالقاهرة، أنه كان يخدم في فرقة الجنرال رينيه.
أكد هوويه أن “كتابته لتاريخ العمليات العسكرية في مصر وسوريا هي بمثابة رد على كل من يحاول الإساءة لحملة نابوليون في مصر” والاتهامات الموجهة إليه بأنه كبد الجيش والدولة خسائر كبيرة، فجعل هوويه الحملة الفرنسية وقائدها في كتابة مذكراته جزءا أساسيا من التاريخ القومي لفرنسا.
حذر هوويه من تقديم صورة “قاتمة ومشوهة” عن حملة مصر وقائدها، لأن هذا الاتجاه “سيؤدي إلى طمس كل النتائج العظيمة والمبهرة التي صنعها جيشنا الباسل”، والتي رأى هوويه أنها “جديرة بالإشادة لتكون محل فخر الأجيال المتعاقبة في فرنسا”.
اتبع هوويه أسلوبا خطابيا أخرج نصا موجها بجدارة للقاريء الفرنسي لتاريخ الحملة على مصر على المستويين الحضاري والعسكري، مستخدما صيغا لغوية ترفع من شأن مؤسسته العسكرية وقائدها.
كما حاول هوويه تهميش صورة المقاومة المصرية لبونابرت، وصوّر المصريين على أنهم مجتمع “مستسلم بلا إرادة”، حتى أنه لم يتحدث عن ثورة القاهرة الأولى ضد بونابرت إلا في جزء من صفحة واحدة، بل حاول التقليل من أهميتها ووصفها نصا بأنها “تمرد عام وانتفاضة شعبية”، على الرغم من أنه يضع لها عنوانا فرعيا في هامش مذكراته باسم “ثورة القاهرة والأقاليم في 22 إلى 26 تشرين الاول (1798)”.
جعل هوويه أسباب الثورة مجرد اعتراض مصريين على الإدارة الجديدة للبلاد التي وضعها بونابرت، وألقى باللائمة على المماليك كمحرك لها دفاعا عن مصالحهم الشخصية، لإعلاء مجد قائده أمام القارئ الفرنسي والتعتيم على بعض الإخفاقات.
طاردت حملة مصر بونابرت حتى نفيه في جزيرة سانت هيلانة عام 1815، وهو ما يتضح في حرصه على تقديم تصورات وتفسيرات، بإيجاز أثناء سرد وقائع تاريخ حروبه في مذكراته المعروفة باسم “الميموريال”، والتي أملاها على الكونت لاكاز، وبالتفصيل في مذكرات أخرى أملاها على الجنرال برتران بعنوان “حملات مصر وسوريا 1798-1799 مذكرات تاريخ نابوليون كما أملاها بنفسه في سانت هيلانة”، ونُشرت عام 1847.
شهدت ساحة نشر مذكرات العسكريين نشاطا كبيرا بعد سقوط بونابرت عام 1815 وعودة الملكية لفرنسا في أسرة بوربون (1815-1830)، التي استفادت من حالة الاستياء من الرقابة على حركة النشر وتكميم الأفواه، لذا أطلقت الملكية الجديدة العنان لمذكرات ضباط الحملة، المعارضين لبونابرت، وهو ما يتضح من إشارة عرفان كتبها ناشر يدعى موريسو عام 1818 في مقدمة مذكرات بعنوان “مذكرات عن حملة مصر”، كتبها جوزيف ماري مواريه، أحد الضباط المشاركين في الحملة.
يؤكد الناشر في مقدمة مذكرات مواريه أنه “أصبح من الممكن الآن كشف الحقيقة، ولا يوجد سبب للصمت، ولم نعد نخشى سطوة الرقباء”.
أتاح نشر مذكرات مواريه فرصة اغتنمها الضابط لانتقاد بونابرت علنا في أكثر من موضع، لاسيما عند حديثه عن واقعة تسليم سلطة القيادة العامة للجيش لخليفته الجنرال كليبر، وهروب بونابرت سرا إلى فرنسا، إذ لجأ مواريه إلى حيلة المقارنة النصية للمفاضلة بين أبرز قائدين للحملة.
يقول مواريه: “لم يكن بونابرت يعمل إلا لمصلحته الشخصية، ولم يضع أمام عينيه سوى رفعة شأنه. أما الجنرال (كليبر)، الذي لم يفكر في نفسه، لم يكن ينتظر من رفعة إلا ما يستحقه بالفعل دون أن يسعى إلى ذلك. ولو أن الأول (بونابرت) لم ير أملا في إمكانية الاستحواذ على السلطة العليا في وطنه (فرنسا) لبقي في مصر، ليقيم لنفسه دولة مستقلة ثمنها دماؤنا جميعا”.
ويضيف: “إنه (بونابرت) مثل قيصر، يرى من الأفضل أن يكون الرجل الأول في القاهرة، بدلا من الرجل الثاني في باريس”.
اتخذت الملكية الجديدة إجراء مغايرا لموقف بونابرت وإن كان مماثلا له من حيث الهدف، إذ فرضت رقابة أيضا على نشر مذكرات أو كتابات عسكرية تبرز بونابرت بطلا أو تفتح طريقا أمام أنصاره الجمهوريين لرد اعتباره، وهو ما أكده هوويه في مقدمة مذكراته، مشيرا إلى أن الملكية “أجبرت الصحف على الحط من قدر الأمجاد العسكرية لتلك الفترة”.
تحولات وضغوط
لم تسلم موسوعة وصف مصر العلمية من الإجراءات الجديدة، إذ يشير العالم شامبليون-فيجاك في دراسته “فورييه ونابليون: مصر ومئة يوم” الصادرة في باريس عام 1844 إلى أن “الرقابة الملكية طالت مجلدات موسوعة (وصف مصر) نفسها وبدأت تراجع كل صغيرة وكبيرة، لا لشيء سوى أنها المشروع الثقافي الضخم الذي يُنسب إلى بونابرت وحملته”، بغية حذف كل ما يشير بوضوح إلى شخص قائدها.
أحكمت سلطة البوربون قبضتها على كتابة مذكرات وشهادات العسكريين الموالين لبونابرت، واتهمتهم بالولاء له ولفترة حكمه، فسادت حالة صمت جديدة في انتظار الفرصة السياسية المواتية لسرد شهادات تتسم باستقلالية الرأي، ربما تصحح المسار، بحسب وجهة نظر كتّابها، بعيدا عن ضغوط أنظمة حاكمة.
ويقول الكولونيل شالبران في مذكراته “الفرنسيون في مصر أو ذكريات حملتي مصر وسوريا”، المنشورة في باريس عام 1855، إن تلك الضغوط “دفعت جيل العسكريين المتقاعدين من الخدمة العسكرية الموالين لبونابرت إلى عقد لقاءات (سرية على الأرجح) لمناقشة كل ما ينشر عن حملتهم ومراجعة ما لديهم من وثائق للشروع في كتابة مذكرات تخدم تصحيح مسار تلك التفسيرات التي اعتبروها شوهت حملتهم وقائدهم”.
ويصف هوويه في مذكراته أن حملة مصر “عانت من تشويه وتزييف الحقائق على مدار 30 عاما من عودة جيش الشرق (جيش الحملة) إلى البلاد”، ويوصم تلك الكتابات بـ “منتج يتسم بالغباء”، في حين وصفها الجنرال بورين، وزير الخارجية في عهد بونابرت، في مذكراته بأنها كتابات “محتالين” أضفوا عليها “الطابع التاريخي”.
خرج بعض القادة عن صمتهم مغتنمين الاستياء السائد وقتها في المجتمع اعتراضا على الأوضاع التي آلت إليها فرنسا بعد انهيار “إمبراطورية بونابرت”، فضلا عن تأجج الغضب المجتمعي بسبب أساليب القمع التي لجأت إليها الملكية، الأمر الذي أفضى إلى ثورة أطاحت بأسرة البوربون في عام 1830، وفقا للمؤرخ محمد فؤاد شكري في دراسته “الصراع بين البرجوازية والإقطاع 1789-1848”.
لم تفرز الثورة والإطاحة بأسرة البوربون نظاما جمهوريا جديدا، بل يشير شكري في دراسته، إلى أن أوروبا “كانت تخشى من قيام نظام جمهوري حربي في فرنسا على غرار ما أعقب الثورة الفرنسية عام 1789، وكان من البديهي أن تواصل أسرة أورليان الحاكمة الجديدة (1830-1848) نوعا من الرقابة للبقاء في السلطة، فسادت من جديد حالة حذر وحيطة من نشر مذكرات تعلي من شأن بونابرت والنظام الجمهوري”.
ويمكن رصد أمثلة مثل شهادة الضابط شارل ريشاردو ومذكراته بعنوان “مذكرات جديدة عن حملة الجيش الفرنسي على مصر وسوريا”، التي باتت تتحين فرصة سقوط الملكية وإعلان الجمهورية الفرنسية الثانية عام 1848، كذلك الجنرال بارون ديفيرنوا، الذي شارك في معظم الحروب الفرنسية وعزوفه عن نشر مذكراته بعنوان “مع بونابرت في إيطاليا ومصر”، بسبب “سخطه على النظام الملكي في فرنسا” كما يشير فيها.
وإن كانت الرقابة على نشر مذكرات العسكريين باختلاف اتجاهاتهم الفكرية والسياسية قد أسهمت في تفاوت ملامح الصورة عن تلك الفترة وبونابرت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، فإن حالة انفراجة برزت مع بداية القرن العشرين، وهيأت فرصة نشر وثائق بطريقة أكثر استقلالية، حسبما أشار الفرنسي لاجونكيير في دراسته “حملة مصر”، المؤلفة من خمسة مجلدات نشرها بين عامي 1897 و 1906.
ويقول لاجونكيير: “أعاقت الظروف الحرجة لفرنسا في تلك الفترة نشر الحقائق، والآن وبعد مرور قرن على الحملة، فقد الجدل بشأنها جدواه، وتراجعت الأسطورة، وأصبح التاريخ الموضوعي المحايد كتابا مفتوحا”.
عكست كتابة تاريخ حملة بونابرت على مصر تخبطا تاريخيا على الصعيدين العسكري والسياسي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، فإن كان الاتجاه الثوري في كتابة تاريخ تلك الحملة قد تراجعت قوته مع عودة الملكية لفرنسا، إلا أن النصف الثاني من نفس القرن شهد إنطلاقة جديدة لهذا الاتجاه في الكتابة، لاسيما في أعقاب ثورة 1871 وتأسيس الجمهورية الفرنسية الثالثة عام 1880.
وتقول ليلى عنان، أستاذ الحضارة الفرنسية بجامعة القاهرة، في دراستها “الحملة الفرنسية تنوير أم تزوير؟” إن أسباب الحملة الفرنسية على مصر كأي حدث، تاريخي أو غير تاريخي، تتشعب أسبابها وتعود جذورها إلى ماض سحيق.
وتضيف عنان: “البعض يراها آخر الحروب الصليبية، ويرى البعض الآخر أنها أول موجات الغزو الاستعماري الأوروبي الكاسح في القرن التاسع عشر، لكن بعض المؤرخين يتعاملون معها كحدث ثانوي، ويمرون عليها مرور الكرام وهم يسردون تاريخ فرنسا، والبعض الآخر يتعامل معها منفصلة عما سبقها أو لحقها من أحداث، كأنها ثمرة أتت من فراغ، دون شجرة تحملها، اللهم إلا بعلاقتها بقائدها الشهير (بونابرت) الذي أصبح إمبراطورا غيّر مجرى الأحداث في أوروبا كلها”.