أحد الآباء القديسين قال: "تتمثّل الخطيئة بقلّة الإحساس"، وكأنّه يقول بتخشّبه وتصخّره. جزء كبير من الأزمة الماليّة والاقتصاديّة المتدحرجة بنا سببها غياب الإحساس السياسيّ والوطنيّ عند مجموعة قطاعات تقتات من تعب الناس ورزقهم فترميهم في أقبية الخوف من المجهول وعلى قارعات الطرق تحت أجنحة الظلام.
بات واجبًا القول والاعتراف بأنّ الأزمة بتفاصيلها وتداعياتها تخطّت العهد والنظام لتبدو وجوديّة بالكامل باكتمال عناصرها. الإنسان مصدر الوجود، وكرامته التي هي مدى للكرامة الإلهيّة توطيد لمعنى الوجود وهويته. لم يحدث في تاريخ لبنان، المعاصر والحديث، لا سيّما في خضم الأحداث المفصليّة الكبرى أن بلغ الوضع مبلغًا كارثيًّا كهذا الذي بتنا فيه. لقد أمسى الوضع كارثيًّا بكلّ ما للكلمة من معنى لا سيّما حين يهتك جنى العمر من قبل المصارف، أو حين يمسّ الأمن الماليّ بكليّته من قبل الصيارفة وبتنسيق تام مع المصارف، ومن قبل جهات أميركيّة تستهلك الوضع الماليّ وتضغط لاستبقاء مقولة الفوضى الخلاّقة دائمة الهيمنة على حياتنا.
السؤال المطروح اليوم، هل بلوغ سعر صرف الدولار نحو ال2200 ل.ل تعبير عابر، أو أنه يمثّل تصاعدًا استراتيجيًّا بغية إسقاط لبنان مع إسقاط مقوّمات العيش الكريم فيه؟ الأمر الآخر لو سلّمنا جدلاً بأنّ بعض الجهات الأميركيّة تضغط باتجاه تطويع لبنان وتطويق عهده وتفريغه من معانيه الأصيلة لأهداف نفطيّة واضحة، أو للانتقام من حزب الله ومن احتضان العهد للحزب، ما هي مقوّمات صمودنا وثباتنا، ولماذا "تطوّع" بعضهم لكسر استقرارنا الماليّ على وجه التحديد وهو لم يعطب مرّة واحدة، منذ سنة 1993 حتى 17 تشرين الأوّل 2019؟ وبالتالي، من هم "المتطوّعون" لعطب بنية نظامنا الاقتصاديّ والماليّ، وجذبه نحو الفراع بل نحو الحالة العبثيّة اليائسة والبائسة؟
لا بدّ من الإشارة ونحن في هذا السياق، بأنّ المقوّمات لم تكن وليدة لحظتها، بل هيّئ لها بإحكام كبير من قبل معظم القطاعات، ضمن خطّة ثبت ضلوع دايفيد ساترفيلد بها ليرثها من بعده ديفيد شينكر، وبتوجيه واضح من جيفري فيلتمان. دايفيد شينكر تعرّف على الواقع اللبنانيّ، وهو لم يكن بعيدًا عنه بالمطلق لكونه ضليعًا بالاستشراق، ويعرف الشرق الأوسط جيّدًا وخصائص شعوبه. بدأت عمليّة التأليب برعاية واضحة من ساترفيلد تعاونه إليزابيت ريتشارد السفيرة الأميركية في لبنان، حيث كان يجتمع بمعظم القطاعات المالية والنفطيّة والاقتصاديّة، ثمّ ستلم شينكر وكان يخاطب من اجتمع بهم بصلف واحتقار كبيرين ويتصرّف في المجتمعات وكأنه مندوب سام. الجوهر عنده مصبوب باتجاه تشديد العقوبات على حزب الله وعلى الرئيس ميشال عون كعهد متكامل الأوجه. لقد قام بعمليّة تحريض واضحة، وبصورة مباشرة للمصارف وما إليها تعاونه بتشدّد وتطرّف واضحين أليزابثيت ريتشارد. كان الهمّ عنده إحداث فوضى ماليّة، فما كان من أصحاب البنوك، وهذا ما كان يحدث أبدًا، سوى أن أخرجوا أموال المودعين من لبنان إلى الخارج والبالغة سبعة مليار دولار أميركيّ، وتركوا للصيارفة بنتيجة ذلك اعلبث بسعر صرف الدولار حيث بلغ اليوم حدود ال2200 ل.ل.
لم يحدث أبدًا بأن تعمد المصارف حتّى في لحظات الشدّة إلى تهريب أموال المودعين. هذا حدث منذ أن دخلنا أزمة الحراك وتجلّى ذلك أكثر عند تقديم الرئيس سعد الحريري استقالته. يشير هذا بالفعل لا بالقول، بأنّ أرباب المصارف والصيارفة تآمروا ليس على العهد بل على البلد ككلّ، والطامة الكبرى بأنّ حاكم مصرف لبنان صمت عن غيّهم فيما هو قادر على ضخّ المزيد من السيولة لإنعاش الوضع وتفادي وصوله نحو الأسوأ كما كان يحدث في مرّات سابقة. كيف يعقل وبأي حقّ يتمّ هذا، بأن المواطنين يحرمون من سحب حاجاتهم من المال لتأمين حياتهم؟ ماذا نفعل بالمرضى المحتاجين إلى علاجات خارجة عن نطاق الضمان والتأمين، أو المحتاجين لأدوية غالية الثمن،هل يحق للمصرف بأن يمنعهم من سحب ما يحتاجونه من مال للعلاج؟ وإذا قررنا الاتجاه نحو الليرة اللبنانيّة وهذا شرف وواجب فهل تحتسب على أساس سعر صرف الدولار أو تحتسب ككيان مستقلّ؟
نحن أمام كارثة لم نبلغها يومًا منذ الدخول الأميركيّ إلى العراق مرورًا باغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط سنة 2005 وحرب إسرائيل على لبنان في 4 تموز سنة 2006 وأحداث سنتيّ 2007 و2008، حتى انفجر الخريف العربيّ سنة 2011 وكانت الحرب على سوريا ذروته القصوى، وتعرّض المنطقة للإرهاب التكفيريّ، إلى أن وصلنا في نهاية المطاق إلى دخول روسيا إلى سوريا سنة 2013، إلى أن انتخب العماد ميشال عون في 31 تشرين الأوّل سنة 2016، فبدأت الحرب تشنّ عليه بسبب مواقفه تجاه سوريا وحزب الله. فتمّ تفجير الكارثة في بنيتنا بخطورتها الماليّة القصوى، هل هذا من قبيل الصدفة أو هو من باب التخطيط؟
يشي كلّ ذلك بأنّنا امام مخطّط متعدّد التوجهات والآفاق، قمته التدحرج الماليّ الذي بلغناه، والذي أبطاله رئيس الحكومة سعد الحريري، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أصحاب المصارف والصيارفة، القطاعات الأساسيّة، كما أبطاله الآخرون سياسيون فاسدون عاثوا فسادًا وإفسادًا في لبنان، ومجرمون فاسقون تلوّثت أياديهم بالدماء وأمسوا جزءًا من حياتنا السياسيّة. لقد تمثّل غيّهم بالعبث الأمنيّ من جهة، أي بقطع الطرق على المواطنين من قبل عناصر ميليشياوية معروفة لخنق لبنان أدّت إلى سقوط ثلاث شهداء، ومن جهة ثانية العبث بسعر صرف الدولار وإذلال الناس في المصارف بمحاولة حرمانهم من سحب ما يحتاجونه من حساباتهم وإيداعاتهم. العبث بأمن الناس وأموالهم أخطر ما يمكن بلوغه ويعني هذا نهاية للنظام الليبرالي الذي امتاز به لبنان، أي نهاية لبنان.
ولكون الصيارفة قرروا إضرابًا لهم، لا بدّ من هذا القول:
أيها الصرّافون، كان الأجدى بكم بدلاً من الهروب إلى الأمام، وتستروا ما فعلتموه ببيان تبريريّ ترشح منه دموع التماسيح، أن تعترفوا بإثمكم أمام الناس البسطاء وتقلعوا عن الاندراج في جوف الخطّة اللعينة المستهدفة للبنان بوجوده وشعبه ومؤسساته.
لقد أمسيتم جزءًا من الحرب على لبنان. دليلي على ذلك أنكم "وبكلّ سرور" أطلقتم الشائعات أمام الناس بأنّ الدولار سيرتفع سعر صرفه، وكان ذلك قبل انفجار الحراك في الشارع، وما أن انفجر حتى حولتم الشائعة إلى فعل متعاونين مع أصحاب المصارف الذين هرّبوا أموال المودعين إلى الخارج والبالغة ٧ مليار دولار أميركيّ، فيما أنتم بدوركم خزّنتم الدولار في حوزتكم كورقة ضغط.
وتأتون الآن وبكل وقاحة وصفاقة لتعلنوا إضرابًا؟ أنتم مصيركم المحاكمة بسبب ما اقترفت أياديكم من مآثم بحقّ الناس، أنتم وأصحاب المصارف التي هربت أموال المودعين إلى الخارج لا تستحقون سوى المحاكمة والسجن لأنكم تحجبون الحقّ العادل عن الناس.
تعلنون أنكم مكتوون بالأزمة الاقتصادية... إذا كان ذلك صحيحًا فمن يملك إذًا القدرة على التصرّف بسعر صرف الدولار سواكم وسوى أصحاب المصارف؟ طيلة الارتجاجات الخطيرة التي مرّ بها لبنان، وقد ذكرناها، ظلّ سعر صرف الدولار ١٥٠٠ل.ل، فكيف بلغ سعر صرف الدولار ٢٢٠٠ل.ل ولماذا في عهد الرئيس عون وقد بنينا عليه آمالاً طيبة يحدث كلّ هذا ضمن لحظة واحدة، أليس لأنكم متورّطون مع من تورّط في الأزمة وعلى رأسكم المصرف المركزيّ بشخص حاكمه رياض سلامة الذي أباح لكم بهذا التفلّت لدواع سياسيّة غير خافية على أحد؟
نعم أنتم لا تحتاجون إلى إضراب بل إلى محاكمة عادلة حتى ترتدعوا، وأتمنى على دولة الرئيس نبيه برّي الذي دعا المصارف إلى استعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج أن يساهم إلى جانب فخامة الرئيس العماد ميشال عون لكي يتحرّك المدّعي العام الماليّ لاستدعاء أصحاب المصارف والصيارفة والتحقيق معهم ووضع حدّ لبطرهم وجنوحهم، ووضع مهلة لاستعادة الأموال إلى الداخل وإلاّ فمصيرهم السجن.
فرصتكم الوحيدة أن تحرروا الدولار من قبضتكم ويعمد أصحاب المصارف إلى إعادة الأموال من الخارج إلى الداخل. هذه فرصتكم الوحيدة فانتبهوا وارتدعوا.