تلعب الفنون على أنواعها دورا أساسيا في إرساء روح الانتفاضة لدى شريحة لا يستهان بها من اللبنانيين المشاركين في احتجاجات «لبنان ينتفض». فهم يعبرون من خلالها عن أفكار وآراء وأحلام تراودهم فيترجمونها من خلالها على طريقتهم.
وإذا ما قمت بجولة سريعة على ساحات التظاهرات المنتشرة في مختلف المناطق اللبنانية لا بد أن تلفتك فنون الرسم والنحت والغرافيتي والموسيقى. وتعد هذه الأخيرة من بين أبرز العناصر التي عمّت تلك الساحات منذ انطلاق الحراك المدني في 17 أكتوبر (تشرين الأول) حتى اليوم. فالبعض من هواة العزف على الكمان والبوق وغيرها من آلات الموسيقى توزعوا هنا وهناك ليقفوا في ركن من أركان هذه الساحة ويطلقون لعزفهم العنان تعبيرا عن مشاركتهم في هذه الاحتجاجات على طريقتهم. إلا أن هذه المشهدية المنوعة توجتها فنون موسيقية من نوع آخر تمثلت بهواة تنسيق الأغاني المعروفين بـ«دي جي» في عالم الموسيقى. فهم أخذوا على عاتقهم قيادة الساحات ومجموعات الناس الحاضرة من خلال خيارات موسيقية وغنائية حماسية تساهم بالترفيه عنهم من ناحية وإظهار توافقهم واتحادهم من ناحية ثانية.
فمع الـ«دي جي» الجميع يردد نفس الأغاني والمطالب. كما ينفذ كلّ الإشارات والحركات الاستعراضية المطلوبة منه. وعندما يصرخ منسق الأغاني عبر المذياع هتافًا معينًا يأتي رد المحتشدين عليه تلقائيا، وحين يطالبهم برفع أجهزتهم الخلوية بعد أضاءتها إلى الأعلى تتحول الساحة إلى مسرح استعراضي يشع بنورها. وكما في ساحتي رياض الصلح والشهداء في بيروت كذلك تألقت مهنة الـ«دي جي» في ساحتي «النور» في طرابلس و«إيليا» في صيدا.
ومنذ اليوم الأول لانطلاق الحراك المدني برز في طرابلس اسم منسق الأغاني مهدي كريمة الملقب بـالـ«دي جي» مادي. فإبداعه في عملية إدارة حشود المحتجين في الساحة من خلال الموسيقى لفتت أنظار العالم حوله وصار بين ليلة وضحاها ضيف الشرف في البرامج التلفزيونية. حتى أن بعضها طالبه بتقديم استعراضات مشابهة لما يقدمها في ساحة النور عبر شاشاتها للتعرف عن كثب على موهبته الفنية. وموهبته هذه انتشرت كعدوى لتطال مختلف ساحات التظاهرات.
«هي ظاهرة لم يسبق أن شاهدناها في لبنان وحتى في العالم». يقول منسق الأغاني الـ«دي جي» مادي ابن الـ29 ربيعا في حديث لـ«الشرق الأوسط». ويتابع: «الفكرة كانت عفوية بامتياز وبدأت أنسق الموسيقى في ساحة النور منذ اليوم الأول لاندلاع الاحتجاجات من على شرفة منزل يقع في الطابق الثالث من مبنى مطل على الساحة المذكورة لأنتقل بعدها إلى منصة ثبّتت وسط الساحة». وبحسب مادي كريمة فإنه لجأ إلى الموسيقى لأنه يعتبرها سلاحه الوحيد في الحياة ومن خلالها يستطيع أن يحرز النجاحات والانتصارات. «هي لغة السلام بحد ذاتها ولعل محبة الناس وتفاعلها معي على الساحة ساهمت في تحويل طرابلس إلى عروس الثورة». حاليا يتنقل مادي في مختلف الساحات اللبنانية التي تستقبله بحماس. «ألعب الموسيقى في تلك الساحات لوقت محدد فأكون بمثابة ضيف عليها. وعندما يشاهدني الناس فيها يهتفون «أهلا بطرابلس» فارتباط اسمي بمدينتي الأم لهو فخر أعتز به». وكان مادي قد لفت وسائل إعلام غربية بموهبته وإبداعه الموسيقي كالـ«سي إن إن» و«بي بي سي» و«سكاي نيوز» وغيرها من محطات التلفزة التي أجرت معه المقابلات. ويختم: «على منسق الأغاني أن يكون مبدعا في عمله والا جاء مروره فاهيا لا نكهة خاصة له ولا أثر يتركه على جمهوره». وكما في طرابلس كذلك في مدينة صيدا وبالتحديد في الساحة التي تتوسطها والمعروفة بـ«دوار إيليا». فهناك يقف أستاذ المدرسة محمد سعيد السن ليتخلى عن دفاتره وحصصه اليومية التي يتوجه بها إلى طلابه. ويخلع عنه مهنة التدريس ليتحول إلى منسق أغان وموسيقى «لبنان ينتفض». وعلى وقع هتافاته «يلا يا صيداوية» و«بحبك يا بلدي» و«وين اللبنانية» المرفقة بمقاطع موسيقى شعبية تبرز فيها نغمات الناي يشعل محمد الساحة الصيداوية المحتشدة بمئات المحتجين الآتين من نفس مدينة صيدا والبلدات والقرى المحيطة بها.
«الموسيقى لغة عالمية وهي برأيي تعبر عن السلام الذي تطمح له جميع الشعوب في العالم». يقول محمد في حديث لـ«الشرق الأوسط». ويضيف: «ارتأيت منذ اندلاع الحراك المساهمة في تشجيع الناس على ارتياد الساحة والتحدث عن هواجسهم ومطالبهم. وبعد تمديدات قمت بها على الساحة لأجهزة صوتية محترفة أمتلكها، بدأ مشواري مع أهل مدينتي. فأنا أهوى الموسيقى منذ صغري عندما كنت وأصدقائي نقيم حفلات وسهرات غنائية في المنازل ومحلات السهر. واليوم تتفتح هوايتي على إيقاع الاحتجاجات التي تعم الساحات. وتريني يوميا أقف وسط الساحة مع المحتجين مجتمعين تحت راية الموسيقى لنؤكد بأننا شعب مسالم لا يرغب في الحروب بل بالتحاور بواسطة الموسيقى التي أختارها».
وتتنوع خيارات محمد سعيد السن الموسيقية على الساحة لتطال أغاني قديمة لفيروز وزكي ناصيف وراغب علامة وغيرهم. ومع مقاطع موسيقية غربية يلعبها في إطار التغيير وتلبية أذواق الشباب الموجود في الحراك لتصدح ملونة بالهتافات. ويأتي بعضها كرد فعل على حدث سياسي أو اجتماعي معين، وأخرى ابتكرها المحتجون أنفسهم. «الجميل في الموضوع هو المشاركة الجماعية التي تطبع المحتجين في «دوار إيليا» وهم يؤكدون بذلك أن لا شيء يمكن أن يفرقهم وأن كل ما يريدونه ببساطة هو تحقيق مطالبهم والموسيقى تساعدهم على التعبير عنها».
أما في بيروت فمجموعة من شباب الـ«دي جي» يتوزعون على ساحتي الشهداء ورياض الصلح حيث استحدثت منصات ومسارح خاصة لإدارة تنسيق الأغاني من على خشبتها. ويعد الـ«دي جي» رودج أحد رواد هذا الفن في لبنان والذي استطاع في مناسبة احتفالات عيد الاستقلال (في 22 الجاري) تحريك شارع الاحتجاجات بموسيقاه الحماسية لساعات طويلة.
وتعمد مختلف المناطق اللبنانية التي تشهد تظاهرات المحتجين إلى استخدام الموسيقى والأغاني لترافق الحشود المتجمعة في ساحاتها. وكما في صور والنبطية وبعلبك كذلك في جونية والزوق وجبيل. فالموسيقى صارت لغة حوار من نوع آخر في الحراك المدني. ومعها يعيش الشباب اللبناني أحلامه على طريقته وتزود أفكاره بأجنحة ليحلق معها في سماء الحريات.