في الثلاثينيات من القرن الماضي، لمع نجم هيدي لامار في سماء هوليوود لإتقانها دور المرأة التي تغوي الرجال للوقوع في حبها، ولم يكن يعرف إلا القليل من معاصريها أنها شغوفة بالاختراعات.
والتقت لامار جورج أنتايل، عازف البيانو والملحن والروائي المبدع، الذي كان يعشق الهندسة مثلها تماما. وعندما اكتشف الاثنان أن القوات المعادية تشوش على الإشارات اللاسلكية لقوات التحالف، اخترعا معا طريقة لإرسال الإشارات اللاسلكية بتقنية القفز الترددي التي تتيح التنقل بين قنوات تردد متعددة، وأطلق عليها اسم “ماركي” نسبة إلى اسم لامار بعد الزواج. ولا تزال هذه التقنية تستخدم في الكثير من الأجهزة اللاسلكية.
وبينما قد تبدو قصة ابتكار هذه التكنولوجيا الثورية عجيبة، إلا أنها خير مثال على عقول الأشخاص الذين يطلق عليهم اسم “الموسوعيين”. وكشف بحث حديث عن الخصال الشخصية التي تساعد البعض في التنقل بين مجالات عديدة بمهارة فائقة، وعن الفوائد التي تعود على المرء من إشباع الرغبة في تعلم أشياء متعددة، مثل تحسين الشعور بالرضا عن الحياة وزيادة الانتاجية في العمل والقدرة على الابتكار.
وأشار البحث إلى أن قضاء وقت أطول في دراسة شيء خارج مجال تخصصنا والتدرب عليه، سيعود علينا بفوائد عديدة، حتى لو لم نحقق نفس النجاح الذي حققته لامار وأنتايل.
يُعرف المثقف الموسوعي بأنه الشخص واسع المعرفة والاطلاع في مجالات متعددة، لكن أغلب الباحثين يرون أن الشخص لا يوصف بأنه موسوعي إلا إذا حصل على إشادة رسمية في مجالين على الأقل لا علاقة لهما ببعضهما.
وألف وقاص أحمد واحدا من أكثر الكتب إسهابا في هذا الموضوع، واستمد أحمد الفكرة من حياته الشخصية، إذ تعمق في مجالات عديدة خلال مشواره المهني. فقد حصل على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد، ثم درجة الماجستير في العلاقات الدولية والعلوم العصبية، ثم عمل صحفيا في الشؤون الدبلوماسية ومدربا شخصيا. والآن يوظف أحمد شغفه بالفنون في منصبه الجديد كمدير لأحد أكبر المعارض الفنية الخاصة.
ويقول أحمد إنه لم يتناول في كتابه إلا العلماء الموسوعيين الذين تركوا بصمات مميزة في ثلاثة مجالات على الأقل، مثل ليوناردو دافينشي، الفنان والمخترع والخبير بعلم التشريح، ويوهان فولفغانغ فون غوته، الكاتب الكبير الذي درس علم النبات والفيزياء وعلم المعادن، وفلورنس نايتنغيل، التي أسهمت في وضع أسس التمريض المعاصر وبرعت أيضا في علم الإحصاء وعلم اللاهوت.
واستعرض أحمد الخصائص والسمات التي تسمح لهؤلاء الموهوبين بأن يبرعوا في مجالات عديدة. وكان في مقدمتها بالطبع مستوى ذكاء أعلى من المتوسط، الذي يساعدهم في التعلم والتحصيل. ويقول أحمد إن رحابة الأفق والفضول ليسا أقل أهمية من الذكاء، لأن الاهتمام بالظاهرة سيدفعك للبحث والاستقصاء عنها إلى أبعد الحدود، حتى لو تعمقت في مجال لا تعرف عنه شيئا.
ويتصف العالم واسع الاطلاع بأنه مستقل ولا يعول على أحد، ولا يجد غضاضة في أن يعلم نفسه بنفسه، وتدفعه رغبة جارفة لتحقيق ذاته.
ويقول أحمد إن هذا الشخص واسع الاطلاع لا يكتفي بالتبحر في مجالات ومعارف متعددة، بل يبحث أيضا عن سبل لربط هذه المجالات ببعضها لفهم كل منها بطريقته الخاصة.
وكشأن جميع الخصال الشخصية، فإن هذه الخصائص لها جذور وراثية، لكن البيئة تلعب دورا في تشكيلها. ويشير أحمد إلى أن الكثير من الأطفال يهتمون بمجالات عديدة، لكن المدارس والجامعات والوظيفة كلها تدفعنا إلى التخصص في مجال واحد. وقد يكون هناك الكثير من الموهوبين الذين يمكنهم أن يبرعوا في مجالات عديدة إذا وجدوا من يشجعهم على خوض غمارها.
وأجرت أنجيلا كوتيلسا، الحاصلة على دكتوراة من جامعة جورج واشنطن، أبحاثا تضمنت لقاءات مع أشخاص تعمقوا في دراسة مجالات متعددة، واشرطت أن يكون المشاركون قد حققوا نجاحا ملموسا في مجالين مستقلين على الأقل، أحدهما فني والآخر علمي.
ولاحظت أن السمة الغالبة على هؤلاء المبدعين هي الفضول، بالإضافة إلى الإصرار الذي يدفعهم لإشباع شغفهم بالمعرفة والتعلم، دون اكتراث بمعايير وتوقعات المجتمع التي توجههم نحو التخصص في مجال واحد.
ثمة أسباب معقولة قد تمنعنا عن التعمق في مجالات متعددة، منها الخوف من تشتيت الموارد والطاقات بدلا من تركيزها في مجال واحد، وهذا يقودنا للفشل في كل المجالات، أو كما يقال: “صاحب الصنائع السبع لا يتقن أيا منها”.
لكن في الحقيقة، ثمة أدلة تؤكد أن التعمق في تخصصات ومعارف متعددة يشعل شرارة الإبداع والقدرة على الإنتاج، أي أن تنوع الاهتمامات قد يعزز نجاحك في مجالك الرئيسي.
وذكر ديفيد إيبستاين في كتابه الأخير أن أكثر العلماء المؤثرين لديهم اهتمامات متعددة خارج مجالهم البحثي. وكشفت دراسات عن أن العلماء الحاصلين على جوائز نوبل يميلون أكثر من غيرهم إلى ممارسة الرقص والغناء والتمثيل والرسم وكتابة الشعر وحتى العزف على الآلات الموسيقية.
ويقول أحمد إن التعمق في مجالات عديدة يعد بمثابة تلاقح علمي، فيستقي المرء ابتكاراته في أحد المجالات من الأفكار المستمدة من الآخر.
والدليل على ذلك أن أنتايل ولامار استمدا فكرة الجهاز المضاد للتشويش على الإشارات من آلية البيانولا، أو البيانو ذاتي العزف الذي كان يتدرب عليه أنتايل.
وقد لاحظ أحمد ذلك من مطالعة السير الذاتية للأشخاص الذي اشتهروا بسعة الاطلاع على المعارف المختلفة، مثل ليوناردو دافينشي، الذي ساعدته خبرته بالتشريح والرياضيات والهندسة في إتقان رسوماته، كما أثرى خياله البصري الخصب قدراته الإبداعية في الهندسة الميكانيكية.
إذا أردت أن توسع أفقك المعرفي والثقافي ينصح أحمد باستثمار الوقت بكفاءة لتتيح لنفسك الفرصة لمتابعة اهتماماتك المتعددة.
وأثبتت دراسات عديدة أن التركيز على موضوع أو مهمة معقدة واحدة يجهد العقل حتى يصل إلى نقطة التشبع التي ينخفض بعدها النشاط الذهني ويفتر الانتباه ومن ثم يذهب أي مجهود إضافي تضعه في هذه المهمة سدى. لكن إذا انشغلت بنشاط آخر لا يمت بصله للمهمة الأساسية، قد تستعيد تركيزك ونشاطك. لأن التنقل بين المهام المختلفة يسهم في تحفيز الأداء والإنتاجية.
وأيدت ذلك أبحاث أجريت على الطلاب في الجامعات والمدارس الرياضية والموسيقية، إذ أثبتت أن الطلاب يعجزون عن الاستيعاب بعد قضاء فترة معينة في التدرب أو الدراسة.
وقد يكون من الأفضل أن نستغل الوقت بالانتقال من حين لآخر من مهمة لأخرى. وينطبق الأمر نفسه على حل المسائل، فقد تتوصل إلى عدد أكبر من الحلول للمسألة إذا تركتها ثم عدت إليها بعد الانخراط في مهمة أخرى أو نشاط آخر لا يمت لها بصلة.
وينصح أحمد بالتوقف عن العمل في المهمة أو النشاط عند نقطة معينة، ومزاولة نشاط غيره لكي تعود إلى المهمة الأولى بذهن صاف. ويقول: “لولا أنني لدي اهتمامات أخرى غير الرسم، لما حققت هذا النجاح، لأن المردود ينخفض كلما طال الوقت الذي تقضيه في مهمة واحدة.”
وتبنى ألبرت أينشتاين هذه الطريقة. فبالإضافة إلى أنه عالم فيزياء فذ، كان أيضا عازف بيانو وكمان بارع. ويحكي ابنه وابنته أنه عندما كان يواجه معضلة رياضية عصية على الحل، كان يعزف الموسيقى وكثيرا ما كان الحل يقفز إلى ذهنه بعد الانتهاء من العزف. وهذه الطريقة أفضل من إهدار الساعات في محاولات التوصل إلى حلول للمشاكل الرياضية والفيزيائية دون جدوى.
كل هذه الأدلة تثبت أن القدرة على التعمق في مجالات متعددة ليست حكرا على نخبة من الناس كما كنا نظن، وثمة فوائد عديدة لتوسيع دائرة اهتماماتنا بدلا من الاكتفاء بتخصص واحد دون غيره.
وقد فتح لنا الإنترنت أفاقا جديدة للمطالعة والتثقيف، فبإمكاننا الانضمام إلى الدروات المجانية عبر الإنترنت في تخصصات مختلفة، وأصبح من السهل التتلمذ على يد معلم يبعد عنك آلاف الأميال عبر تطبيقات مثل “سكايب”.
ويشجع أحمد على استغلال هذه الفرص للتعلم، ويقول إن التحديات الملحة التي يواجهها المجتمع الآن مثل تغير المناخ تتطلب حلولا خلاقة عابرة للتخصصات.
ويقول أحمد إن الكثير من الناس يربطون المثقفين الموسوعيين بعصر النهضة، رغم أننا نحتاجهم الآن أكثر من أي وقت مضى.