علا سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله إلى أعلى قمّة في اللحظات الجلّى التي يمرّ بها لبنان، وكشف للبنانيين سرّ الأزمة بل سرّ المؤامرة على هذا البلد الصغير، الذي قال عنه رجل الدولة النمساويّ كليمنس فون ميترنيش (15 مايو 1773-11 يونيو 1859) بأنّه يشغل العالم كلّه. إنّها المؤامرة الأميركيّة بامتياز. لم يكن وزير خارجيّة أميركا كاذبًا حين غرّد بأنّه يعمل على تحرير لبنان والعراق من الهيمنة الإيرانيّة، بل كان شفّافًا بصدقه وواضحًا بمأربه، ومن عمل على قراءة المشهد ضمن منظومة الإقليم المتوتّر تحسّس لهذا الربط المحكم بواسطة "أصدقاء" لهم، حاول أحدهم التبرير فلم يفلح. ذلك أن بومبيو بقدر ما أفصح عن مكنوناته بمقصده وبإشارة من إصبعه إلى من سينعم من دعمه، كان في الوقت عينه، وكما زعمنا في مقالنا السابق في هذا الموقع، يوقّع مضبطة اتهام أمام الرأي العام اللبنانيّ، ويعلن سلفًا بأن هؤلاء معدّون للبيع والشراء، أي لبيعهم والشراء بهم أو على حسابهم.
من يعلو إلى رأس القمّة ليس كمن يجلس في قعر الوادي، وقد يكون وادي ظلال الموت وظلّه كما قال أشعياء النبيّ، أو وادي البكاء في جحيم دانتي. السيّد حسن نصرالله ارتقى إلى حيث يجب أن يقفـ، ورسم للجميع خريطة طريق لتفعيل قيم المواجهة مع الأميركيين. في بقينه وفكره، آن الوقت ليدرك اللبنانيون بطوائفهم ومذاهبهم، بأحزابهم وأطيافهم، بان أميركا لا تنظر إلى البلد الصغير كوطن له حقّه الكامل في التكوّن والوجود. كلام روبرت فورد السفير الأميركيّ السابق في دمشق ليس محصورًا بالأكراد، حين دعاهم إلى عدم تصديق الإدارة الأميركيّة، لأنّها فاقدة الأخلاق، بل معمّم على كلّ من لم يرَ بأمّ عينه احتقار الأميركيين للدول التي تعتبرها حديثة العهد وغير قابلة للحياة. فالتاريخ اللبنانيّ حافل بمكرهم، فهم من باعوا لبنان سنة 1973 ليكون تحت الوصاية السوريّة بغية ضرب الفلسطينيين وتحويله إلى ساحة احتراب استوطنها الجحيم. كانوا يعلنون أنهم مع سيادته واستقلاله، وهم من مهدوا لدخول إسرائيل سنة 1978 ومن ثمّ سنة 1982، ولم ينفذّوا القرارات الدوليّة المتعلّقة بلبنان ومنها بنوع خاصّ القراران 425 و426 لمنع انسحاب إسرائيل من الجنوب، وهم في اتفاق الطائف منعادوا وباعوا لبنان إلى وصايتين في اتفاق الطائف سوريّة-سعوديّة أنتجت طبقة سياسيّة استبدّت بالفساد، وسلبت اللبنانيين تعبهم وأموالهم وحياتهم، وجعلت القرار 1559 المدخل الحيويّ ليس لانسحاب الجيش السوريّ من لبنان، بل غمسته بدم رفيق الحريري ليكون المدخل الحقيقيّ للفوضى الخلاّقة المرادة أن يدخل لبنان جوفها من سنة 2006 لتبلغ ذروتها الآن. من دون أن ننسى أنّها وقفت ضدّ أن يصير لبنان مركزًا دوليًّا لأكاديمية الإنسان والحوار كرمى لإسرائيل الرافضة للتنوّع بآحاديّتها العدائيّة الصارمة.
نعود لكلام سماحة السيّد، فهو أظهر لنا حلاًّ يفترض بالحكومة اللبنانيّة العتيدة أن تلجه إذا شاءت خلاصًا للبنان. السؤال الذي يفترض بالسياسيين طرحه إذا راموا فهم الرؤية: ماذا قدّمت أميركا للبنان غير الازدراء به وضرب موقعه والتعاطي معه من منظور المتسثمر لا من منظور التفاعل الخلاّق مع دولته؟ معظم من يعرف تقنيًّا بالأسلحة باحوا بأنّ الأميركيين يبيعون الجيش اللبنانيّ سلاحًا ليس بالمستوى المطلوب، ويمنعون عليه أن يكون من الجيوش المتقدّمة. علاقة أميركا بالسياسيين في لبنان علاقة زبائنيّة وفوقيّة لكونها ترتضي أن يكون هؤلاء عملاء وليسوا حلفاء أو على الأقلّ أصدقاء. ميزة العراق، أنّه في لحظة وكما وصف السيّد حسن قرّر أن يؤمّن لنفسه قرارات سياديّة تتيح له أن يكون سيّدًا على نفسه، ومنها فتح معبر البو-كمال مع سوريا، وفتح سوق الصين على الداخل العراقيّ فجاءت الثورة في الداخل رسالة أميركيّة لقمع حريّة العراق في الانتقاء والقرار، وهو مندرج من ضمن سياق الصراع الإيرانيّ-الأميركيّ. لا تريد الولايات الأميركيّة أيّ موقع للصين أو روسيا في المشرق كلّه لا سيّما في مجال الاسثتمارات القائمة ما بين سوريا والعراق ولبنان، من النفط إلى الإعمار إلى الصناعة والتجارة. إنّه الصراع الحامي مع إيران ولكنّه البارد بدوره مع الصين وروسيا.
السيّد حسن على حقّ في ثلاثة أمور استراتيجيّة:
1-أن تعيد الحكومة العتيدة الاعتبار إلى العلاقة اللبنانيّة-السوريّة، لكونها المتنفّس الموضوعيّ والجغرافيّ للبنان. هذا هو الجيو-بوليتيك حيث لا يمكن الفرار منه. انتظام العلاقة مع سوريا يتيح للبنان فتح سوقه نحو العراق، وتصدير منتوجاته إلى العراق ومعظم العالم العربيّ، كما يبيح له المشاركة الفعّالة بإعمار سوريا.
2-أن تفكّر الحكومة العتيدة موضوعيًّا بمكافحة العدوان الأميركيّ الاقتصاديّ والماليّ على لبنان، واستغلالها لمطالب الناس المحقّة في سبيل تبرير عدوانها. والمكافحة كما وصّفها سماحته، بان ينفتح لبنان كما انفتحت سوريا على السوق الصينيّة والإيرانيّة والروسيّة.
3-أن تكون الحكومة العتيدة سياديّة بامتياز، وليست حكومة تكنوقراط. الحكومة السياديّة تملك القدرة باستجماعها لأوراق القوّة حتى يستطيع لبنان أن ينحت رؤاه بهدوء وسيادة حقيقيّة وبعيدًا عن الإملاءات والتهويلات المفتعلة.
كلّ ذلك يدلّ وبواقعيّة حقيقيّة، إلى أنّ الحراك في شكله وجوهره، بلا آفاق ولا رؤى. لم يطرح أحد من أهل الحراك بدائل على الأقلّ للتحاور حولها. يشي الشكل بالمعنى، والمعنى بأنّ إسقاط النظام السياسيّ حلقة من مجموعة حلقات أميركيّة تتجسّد في لبنان والمنطقة بهدف تكوين أنظمة جديدة بدل أنظمة حاليّة. لقد أسقطوا حسني مبارك، وصدام حسين، ومعمر القذافي، وأتوا ببدائل بعضها لا تزال تدور في فلكهم، وبعضها الآخر انقلب كما في العراق، وليبيا اتجهت نحو حرب اهليّة. في السودان خلعوا عمر البشير لأنه تقرّب من دمشق، ولكنّهم أدنوا هذا البلد بدوره إلى حرب أهلية بل فوضى خلاّقة.
هدف الفوضى الخلاّقة في لبنان لا تهدف حصرًا إلى ضرب العهد بتطويقه لأنّه متبنّ للمقاومة، والعقوبات على حزب الله، ليست الهدف الأبرز، وفخامة الرئيس كما سماحة السيد مدركان لهذه الرؤية. ضرب العهد والمقاومة وسيلة لإسقاط النظام السيالسيّ المهترئ بالمنظور الأميركيّ والشروع نحو مؤتمر تأسيسيّ جديد بهدف تكوين نظام سياسيّ جديد للبنان، وهو مشروع استراتيجيّ معدّ للبنان منذ سنة 2007 وربما أقلّ، وقد سمعه المغفور له الوزير السابق فؤاد بطرس من دبلوماسيين أميركيين مخضرمين سنة 2007، وقد طلب من صديق مشترك بينه وبين السيد حسن نصرالله نقل ما سمعه من الأميركيين إليه.
المفاجأة الكبرى التي لم يتوقعها الأميركيون في عهد باراك أوباما دخول روسيا إلى سوريا، أي إلى جوهر المشرق العربيّ، وتحوّلها إلى قوّة لاعبة وفاعلة، بل فائقة في فعاليّتها. وما يبدو بأنّ دونالد ترامب ومايك بومبيو يتعاملان مع هذا المعطى المباغِت بعقل المستثمر والمقايِض. القضيّة التي أثارها السيد بأنّ أميركا ترنو إلى إبقاء المشرق العربيّ في قبضتها لتمنع التواصل والترابط بين الصين وروسيا وإيران. ذلك أن الترابط الثلاثيّ يصبح قادرًا على فرض شروطه ومنع الآحاديّة الأميركيّة من التوسّع بهيمنتها وسيطرتها. وقد أظهر السفير الروسيّ في بيروت ألكسندر زاسبكين وهو أوّل من حذّر من أخذ لبنان إلى فوضى أميركيّة خلاّقة، بأن روسيا لن تسمح بأن يكون لبنان شوكة أميركيّة في خاصرة سوريا، والحلف مع إيران وحزب الله متين للغاية.
يفهم من كلّ ذلك، بأنّ هذا الحراك قد أمسى جزءًا من المؤامرة الأميركيّة على لبنان. لا يعني ذلك بأنّ مطالب المتظاهرين الاجتماعية والاقتصاديّة لا تعنينا. إنّه لخطأ فادح، أن ننعت التظاهرة بكليتها على أنّها اندراج في هذه المؤامرة، فهم لبنانيون أقحاح يتوسلون النهضة للبنان والحياة الرغيدة والهانئة فيه. لكنّ استهلاكه واستعماله أخذنا على حين غرّة نحو هذا التوصيف بأنّه بات جزءًا من المؤامرة الأميركيّة، المستهدفة للبنان بحجة تغيير نظامه وبحجة ثانية وهي منعه من الاندراج في الترابط الروسيّ-الإيرانيّ-الصينيّ، عن طريق سوريا والعراق.
العقوبات على حزب الله، وضرب العهد، ليس هدفًا بل الوسيلة الخطيرة لنقل لبنان من ضفّة لم تزل معلومة ومعيشة، إلى ضفّة ستكون مجهولة. وأخطر ما في هذه المؤامرة استهلاك الليرة اللبنانيّة فيها والمصارف لتأليب اللبنانيين وقيادتهم نحو هذه الفوضى، وحسنًا فعل رياض سلامة بأن خرج عن صمته وقال كلمته ومشى.
ألا وقى الله لبنان الانفجار وأعاده إلى التوازن والسلام.