بقلم جورج عبيد -
من بركات الحراك على لبنان تعريته للطبقة السياسيّة الفاسدة والمفسدة في آن. كان يجب على المواطنين الأقحاح في الحقّ، أن ينزلوا إلى الساحات ويطلقوا صرخة الكرامة الواحدة. جميعنا في لبنان واحد في الكرامة التي تغتصب من أفواه المافقين والفاسدين واللصوص وجيوبهم. لبنان عزيز بمن نزل إلى الساحة وكبير بحقّهم، "الأشياء العتيقة قد مضت، ها كلّ شيء قد صار جديدًا".الجدّة المبغاة يلدها الحقّ، حقّ لبنان المؤلّف من حقّ المسيحيّ والمسلم معًا في العيش الكريم، الكرم والكرامة واحد في هذا الحقّ، وهو يعلو ولا يعلى عليه.
لقد ظنّ الفاسدون والفاسقون، أنّ الدولة والوطن لهم، وبإمكانهم أن يتقاسموه ساعة يشاؤون. وفي هذا خسئوا. ذلك أنّ المواطنين المتحرّرين من المآرب والأهواءن قالوا الكلام الجوهريّ. ليس من مشكلة بين الرئاسة والتيار الوطنيّ الحر والمتحرّكين والمعتصمين في الشارع. فالمطالب واحدة، من ضرب الفساد وقمعه، ومحاكمة الفاسدين، وإعادة الأموال المنهوبة والموهوبة أو المسروقة. في هذا الأمر ليس من بون، ولا يفترض أن يظهر أيّ بون. الإشكاليّة والإشكال بين الرئاسة والرئيس وبين التيار الوطنيّ الحرّ وبين من استغلّ ويستغلّ الحراك للتصويب على العهد بغية إسقاطه وحده إلى جانب الحكومة. لقد انكشف ذلك جهارًا عبر قطع الطرق من الشمال إلى الجنوب ومن البقاع إلى بيروت مرورًا بالجبل، وتبيّن بفعل التحقيقات تورّط الأحزاب كالقوات اللبنانيّة والحزب التقدميّ الاشتراكيّ والجماعة الإسلاميّة، في عمليّة الطويق إنطلاقًا من منهج التجويف المعتمد في التصويب السياسيّ والماليّ.
تقول بعض المعلومات أنّ الذين اعتقلوا في منطقة زوق مصبح وزوق مكايل واقتيدوا للتحقيق، كشفوا هويّتهم. لم ينتمِ هؤلاء يومًا إلى سياق الحراك، بل هم من المجموعة التي تحرّكت بأمر مباشر من رئيس القوات اللبنانيّة سمير جعجع، كما هو ووليد جنبلاط وأشرف ريفي والجماعة الإسلاميّة وفؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي يتحرّكون بالتنسيق مع الإدارة الأميركيّة ومع السعوديين. لم ينسَ كثيرون بأنّ فؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام تحرّكوا نحو السعوديّة في إطار تطويق العهد تحت عنوان واحد وواضح، وهو إعادة الاعتبار إلى الطائف وصلاحيّة رئيس الحكومة، وجاءت تلك الزيارة في ذروة أحداث قبرشمون الدامية، حيث تبيّن ومن دون التباس وبوضوح تامّ بأنّ المستهدف في العمليّة وضمن أقصى ذروتها، هو جبران باسيل، وهذا موجود في التحقيقات. هذه المجموعة، التي قامت بقطع الطرق، حاولت بقياداتها احتواء التظاهرات ببركاتها الطيّبة، والادّعاء بأنّها جزء منها بهدف الالتفاف على أهدافها ومن ثمّ القيام بتشويهها ليصار بفعليّ الالتفاف و التشويه، إلى حرفها عن أهدافها المنشودة الطالعة من أفواه نضرة لتتجسّد ونتغرس في أرض عطشى للحقّ. إنّ تلك القيادات بإجرام بعضها وفساد بعضها الآخر، تتلطّى خلف المتظاهرين، وتحتجب بمطالهم، فتوهمهم بأنّها متبنيّة لها من دون نقاش وشروط، فتحمي أنفسها من المحاسبة، ومواقعها من الانهيار، ودورها من النهاية. فهي أضحت يفعل ذلك، مكشوفة الرؤوس والوجوه. من هنا، جاءت المطالبة في هذا الموقع أو سواه، لكي يطرد المتظاهرون هؤلاء من بيئتهم وينطلقوا حتمًا إلى محاسبتهم على الدماء التي سفكوها والأموال التي نهبوها، والفساد الذي زرعوه والخراب الذي أحدثوه، والتهجير الذي افتعلوه، والموت الذي سكبوه، فيبدوا الحراك شموليًّا بمضمونه، راقيًا بنقاوته، هادفًا بمطالبه، رائعًا ببهائه، متينًا بعمقه، حصيفًا برؤيته. فلا ينظر إليه كمشبوه أو حالة مشتبه بها، مأخودة بحلوليّة من هنا أو مندرجة بتعبئة صادرة من سياسة قصيّة قد تبدو عصيّة في مآربها الأخرويّة ، وهذا ما يبيح الانكشاف والافتضاح.
إنّ دعوة فخامة الرئيس العماد ميشال عون الصادقة للمتظاهرين حماية لهم من هؤلاء المندسين على حفافي حراكهم وضفافه، وقد كشفت في الوقت عينه عمالة بعض القيادات البغيضة وعمولتهم الرخيصة، في عدم الاتجاه لبلورة الرؤى بالمطالب والاتجاه نحو التفاوض من أجل الوصول إلى مساحة جامعة. وتقول مصادر رفيعة المستوى بأنّ فريقًا واحدًا من هؤلاء بقيادة رامي علّيق استجابوا لدعوة الرئيس واتجهوا نحو بعبدا للتحاور، وكان الحوار صريحًا وممتازًا للغاية، حيث ظهر رامي علّيق واضحًا في المطالب والرئيس بدوره أظهر حرصه لهم، بتبيان الحقائق التي يجب السير باتجاهها. وما إن علم بعض أهل الحراك بمبادرة رامي حتى صبّوا جام غضبهم عليه وعلى من معه، معتبرينه كافرًا ومارقًا، ممّا يدل على أنّ بعضًا أهل الحراك ليسوا على وحدة في التوجّه والعمل. لو كان بعضهم جديين في إخلاصهم لمعاني الحراك ووفائهم لأبعاده، لكانوا تبنّوا الكلمة الرائعة التي ألقاها فخامة الرئيس في مناسبة انقضاء النصف الأوّل من ولايته والإقبال نحو النصف الثاني، وجعلوها ركيزة أساسيّة من ركائز الحراك من أجل بناء دولة جديدة بل نظام جديد.
إنّ القلّة العزيزة المكتوية من الفساد والغلاء ونحن منها، مدعوّة للمزيد من التبحّر في تغريدة وزير الخارجية الأميركيّة مايك بومبيو وقبله بيان وزارة الخارجية الأميركيّة. لقد قال بومبيو بأنّ الهدف مما يحدث في العراق ولبنان تحرير البلدين من الهيمنة الإيرانيّة. أي وبشيء من التفسير الرصين، تحرير العراق من الحشد الشعبيّ، وتحرير لبنان من حزب الله، وهما بالمفهوم الأميركيّ ذراعا إيران القويّتان. إنّ المشهد بات هنا، في هذا الجوهر والخواص الأميركيّ المتحرّك ما بين العراق ولبنان، وقد بيّنا هذا الترابط غير مرّة، هنا وثمّة، وكشفنا بأنّ الهدف تطويق التسوية في سوريا من البوابتين العراقيّة والسوريّة، ليكون للأميركيين كلمة فيها. ظاهر الخطاب الأميركيّ يعبّر عنه بما كشفه بومبيو في الشكل، ويصلح، بالتالي، ليتحوّل مضبطة اتهام وإدانة واضحة وجليّة وفصيحة، بوجه من تحرّكوا ويتحركون في الداخل ضدّ العهد على وجه التحديد، منذ قضيّة قبرشمون وسواها، وقد كان لديفيد ساترفيلد اليد الطولى بتفجيرها لإدخال لبنان في فوضى أمنية تؤول إلى احتراب كبير، بأدوات متفاعلة ومطيعة ومتحرّكة بهذا الوضع من وليد جنبلاط إلى سمير جعجع، إلى فؤاد السنيورة الرجل الموثوق به من الإدارة الأميركيّة إلى أشرف ريفي إلى الخلايا التكفيريّة النائمة...أي بأدوات قاتلة وفاسدة هم زرعوها منذ اتفاق الطائف إلى الآن. كلام مايك بومبيو مضبطة اتهام في القول والفعل لكلّ هؤلاءن وكأنّه بطريقة وبأخرى، كنب صكّ بيعهم في لبنان لمصلحة نجاح التسوية في سوريا مقابل أن يسمح الروس الذين لن يتخلّوا عن لبنان ومكوّنات لبنان للأميركيين بالاستثمار بالنفط.
وحده ضمنًا وليد جنبلاط كان على حقّ بالتقاطه لعملية بيع الأكراد لمصلحة الرئيس بشّار الأسد، وفهمه للمعنى الكبير خلفها. السياسة الأميركيّة مرتكزة على الاستثمار في النفط والإعمار وليس في دعم من احتسبوا على خانتهم. إنّ كلام مايك بومبيو في مآربه واضح ولا يحتاج لتأويل. إنّه ممن قراوا تحيّة الرئيس بشار الأسد لرئيسه دونالد ترامب، وقد وصفه "بالخصم الضفّاف"، وليس بالعدوّ اللدود، وهو معنيّ (أي بومبيو) بجواب جوزيف بادين القائل بأنّ سوريا أظهرت قوّتها وتقدّمها بالقوّة في الشرق... والأميركيون منطلقون لحوار فعليّ مع إيران سيبدأ قبل عيد الميلاد أو بأبعد تقدير بعد الأعياد، وفي الوقت عينه لم تجفّ الينابيع بين الإدارة الأميركيّة وحزب الله من خلال حوار غير مباشر أي عبر وسطاء... بهذا المعنى كلام مايك بومبيو بدوره مشبوه في الخصوصيّة اللبنانيّة وانضمام تلك الخصوصيّة إلى الآفاق التسووية الظاهرة في المنطقة. فهو لا يقصد التحرير بمعناه الحقيقيّ، بل يؤهّل المعنيين في لبنان لهذه التسوية المنتظرة وهي بعنوان واضح دعونا نستثمر في النفط ونحن على استعداد لبقاء حزب الله ونزع العقوبات عليه، وإنعاش لبنان طويلاً. أي أنّ مايك بومبيو عرض صكّ بيع من ساروا معه لحساب اللاستثمار في النفط.
أهل الحراك الأصليون والأصيلون مدعوون لفهم هذه الناحية الدقيقة للغاية، وطرد من استغلّوا حراكهم في سبيل التأجيج الأعمى كرمى للأميركيين وعدد من دول الخليج، ومحاسبتهم لكونهم أهل فساد وقتل وتدمير وقد سطوا على السلطة بفعل الاتفاقات والتسوييات الأخروية على حسابنا.
الدعوة للتحرّر واستكمال الانتفاضة على الفاسدين. لقد تعّروا بفضلكم وتبهدلوا وساروا نحو التحقيق بطأطاة رأس. لكنّ الأهم ان انطلقوا بحوار مع فخامة الرئيس حتى تكون لنا حكومة جديدة تكونون فيها عصبًا جديدًا وتشيرون بالإصبع إلى مكامن الفساد حتى يتنقّى لبنان.
لكن احذروا ولا تأخذورا بالشعارات. العهد والمقاومة خطّان أحمران. فالعهد ضمانة لكي تستكملوا مشروع ضرب الفساد ومحاسبة الفاسدين وتقوية السلطة القضائيّة وتحقيق استقلالها، والمقاومة لها الفضل الكبير في ردع إسرائيل ومكافحة التكفيريين، وهي جزء منّا وأهلها أهلنا. المهم أن تقراوا علامات الأزمنة وتبدأوا الحوار لنكون جميعنا في سلام ويولد لنا وطن جديد مكلّل بالضياء.