لم يكن قطع الطرق في لبنان صنع المتظاهرين الحقيقيين الباحثين عن الكرامة البشريّة وكرم العطاء، إنّها لتجربة مختلفة رصفناها ورصفها كثيرون في إطار الضغط والحصار السياسيين المعبّر عنه بأطر مختلفة ومعايير متنوّعة، وقد جاءت من صنع أحزاب وشخصيات، طابت لها لعبة الشارع، وحلا لها الإيغال في خيارات عبثيّة كادت أن تقود لبنان نحو فلتان مبحر في بحر الفوضى الخلاّقة، لتتمّ الكلمة المكتوبة عند حزقيال النبيّ: "إفتح بابك يا لبنان فياكل النار أرزك". لعبة النار خي الهدف والمبتغى، من أجل تطويق التسوية المنتظرة في سوريا من البوابة اللبنانيّة كما من البوابة اللبنانيّة.
لقد تبلورت الرؤى، منذ أكثر من شهرين، بمقدمّات ضغرى، غاصت في العناوين الاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة، معلنة رزوح لبنان في أزمة اقتصاديّة حقيقيّة. غير أنّه اتضح، بأنّ الأزمة ليست على الإطلاق ماليّة فقط بقدر ما هي سياسيّة بامتياز وأمنية، انكشفت بعنوانين واضحين احتشدت العناوين الأخرى حولهما بهدف الضغط وهما:
-احتضان العهد والتيار الوطنيّ الحرّ لحزب الله والمقاومة كحزب لبنانيّ، يمثّل الوجدان الشيعيّ بأكثريّته المطلقة.
-العلاقة اللبنانيّة-السوريّة بطبقاتها الثلاث:
1-عودة النازحين السوريين، وهذا هدف لبنانيّ سامٍ لا يعتريه فكر عنصريّ.
2-عودة الحياة التجاريّة بين لبنان وسوريا، واستطرادًا نحو العالم العربيّ من بوابتيّ البو-كمال والنصيب.
3-المساهمة في إعمار سوريا، فيكون لبنان منصّة لشركات لبنانيّة مساهمة، وشركات عربيّة ترنو للدخول في جنّة الإعمار.
من الواضح إذًا، أنّ هذين العنوانين الجوهريين بالنسبة لفلسفة العهد ورؤيته، شكّلا قلقًا واضحًا وهاجسًا كبيرًا، عند حزبيّ القوات اللبنانيّة والتقدميّ الاشتراكيّ وعند جزء من تيار المستقبل وسواهم، بل أيضًا عند السعوديين المميوّلين بقوّة لهذا الحراك ببعض فروعه المتماهية مع بعض الأحزاب التقليديّة ومنها بالضرورة حزب الكتائب اللبنانيّة، كحزب سبعة وطلعت ريحتكن وغير ذلك، ولوسائل إعلاميّة كانت تقود حركة الشارع بمدى زمنيّ يربو على الخمس عشرة ساعة يوميًّا، وبعضها كتلفزيون الجديد على سبيل المثال لا الحصر، حين حاول إظهار الجيش اللبنانيّ بطل فجر الجرود صبيحة الحادي عشر من هذا الشهر على أنّه المعتدي والجلاّد، فيما قاطعو الطرق ظهروا بمفهومهم كضحايا أبرياء، وهم أنفسهم من جلدوا البارحة معظم المواطنين على الطرق، لا سيما على أوتوستراد جل الديب، وبعض الشبّان كان يحتسي الكأس الريان غير آبه بوجع الناس وآلامهم وطول انتظارهم. كما شكّل هذا الأمر هاجسًا عند الأميركيين الذين فرضوا عقوباتهم على المقاومة، ورأوا لبنان والعراق ساحتيّ نزال من ناحية، وتفاوض من ناحية أخرى بينهم وبين الإيرانيين والروس من جهة أخرى. وقد كان لبنان، ولبرهة، وبسبب ذلك على مسافة واضحة وجديّة من الأنموذج السوريّ سنة 2011.
وممّا لا شكّ فيه أيضًا، بأنّ أميركا بإدارتها العميقة من جهة ومع رئيسها دونالد ترامب من جهة ثانية، انطلقت في هذا الحراك، بغية استهداف العهد برئاسة العماد ميشال عون أكثر من استهدافها لرئيسيّ المجلس النيابيّ نبيه برّي ورئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري. والأخير، ايّ الحريري، كان على علم بالمكنونات الأميركيّة، المكتوم منها والمعلوم. وللأمانة، فإنّ الاستهداف الأميركيّ لسيّد العهد شخصيّ بسبب من دعم أميركا المطلق لإسرائيل من ناحية، ومن ناحية ثانية لأن رئيس الجمهوريّة مؤمن بأنّ سلاح المقاومة ردعيّ بوجه إسرائيل، وهو عينه من كسر أنياب الوحش التكفيريّ في سوريا، بتحفيز رئاسيّ، وغطاء مسيحيّ مشرقيّ، لأجل بقاء لبنان فريدًا بفلسفته الميثاقيّة الراقية بين الأمم. وللتدليل على ذلك، فإنّ أميركا صوّتت وإسرائيل في الأمم المتحدة ضدّ أن يكون لبنان مقرًّا دوليًّا لأكاديميّة الإنسان والحوار، أي الحوار بين الحضارات والثقافات والأديان، فيما أميركا دعمت يهوديّة القدس ويهوديّة الدولة الإسرائيليّة، وأنكرت حقّ الفلسطينيين بأن تكون لهم دولة حقيقيّة، و"أهدت" الجولان لإسرائيل. كما أن أميركا قبل ذلك وإلى جانب السعوديّة، هيأت الأرض اللبنانيّة قبل تلك الأزمة الكبرى لتتحرّك بمجموعة أزمات اعتبرت مقدمات لما بلغنا إليه، من قضيّة البساتين قبرشمون، إلى قضيّة الضباط السابقين، إلى قضية العمّال الفلسطينيين، إلى قضيّة النازحين السوريين بمفهوم اندماجهم في المجتمع اللبنانيّ. أميركا وببساطة كاملة تعتبر لبنان أرض نزوح ولجوء، فيما رئيس الجمهوريّة يعتبر لبنان وطنًا حقيقيًّا له كيانه الفريد، ومعطوبيته قابلة للإصلاح والشفاء.
تحركت القوات اللبنانيّة والحزب التقدميّ الاشتراكيّ وبعض اليساريين بهذا الفلك الواضح المعدّ للبنان، باستهلاك واستغلال واضح للتظاهرة الكبرى في مراحلها الأولى وتجيلياتها الرائعة البريئة من أية مداخلات أو من أي تعليب دوليّ، فشوهت أطروحتها الاجتماعيّة والماليّة والإصلاحيّة، وهي في الأصل أطروحة العهد، وأبلست تكوّنها الناضج، فأبسلت الرؤى الاصلاحيّة. لم تفهم الأحزاب المتحرّكة في هذا الفلك التحريضيّ ومن ثمّ التخريبيّ، بأنّها مجرّد أدوات صغيرة في لعبة كبيرة ستنتهي إلى تسويات واضحة تكون الغلبة فيها لأقوياء سيشاركون بنسب معيّنة في الثروات النفطية والإعمار وعلى حسابها. لم تستقرء الأحزاب المعنيّة بأنّ التسوية اللبنانيّة ستتوازن وتتوازى مع التسوية السوريّة بالقوّة والنسبة وتندمج بها، مع تسمية رئيس الحكومة العتيد وتكليفه حتى لو كان سعد الحريري نفسه، وفي شكل الحكومة المنتظرة، التي حتمًا ستكافح الفساد والفاسدين، وستطلق لبنان، وكما أكّد فخامة الرئيس غير مرّة، من الاقتصاد الريعيّ إلى الاقتصاد المنتج، وسيكون استخراج الغاز والنفط العمود الفقريّ لهذا التحوّل الجذريّ المنتظر.
مأساة تلك الأحزاب انها عبّأت جماعتها بأحقادها، وسارت كالعميان في طرق متعرّجة بلا نظر ولا بصر. يتميّز وليد جنبلاط أكثر من سواه، بأنّه استقرأ معنى التخلّي الأميركيّ عن الأكراد، وقد باتوا في أحضان الرئيس بشار الأسد، وعاين بفهم كبير بأنّ نسائم التسوية في سوريا ستخلف العواصف الهوجاء على قاعدة ما أنشدته فيروز من بعد العواصف جايي الربيع. لن ينسى وليد جنبلاط ولا المتابعون ذلك الحديث الشهير الذي ادلى به روبرت فورد السفير الأميركيّ السابق في دمشق، وقد حذّر الأكراد من التعاطي مع الإدارة الأميركيّة، ودعاهم لكي لا يصدّقوها، فهي تتعاطى بقلّة أخلاق معهم، فتبيع وتشتري على ظهورهم، وفي لحظة التسوية تتمّ الصفقات على حسابهم. ليس كلام فورد محصورًا بالأكراد، إنّه منساب نحو من استعملتهم الإدارة الأميركيّة واستهلكتهم في حساباتها وصراعاتها، وحولتهم إلى ورقة في قبضتها ضمن الدائرتين اللبنانيّة والعراقيّة واستطرادًا في معظم الإقليم الملتهب.
لقد كشف حديث الرئيس السوريّ بشّار الأسد إلى التلفزيون السوريّ والفضائيّة السوريّة علامات الأزمنة التسوويّة. فأطلق تحيّة لطيفة لدونالد ترامب ناعتًا إيّاه "بالخصم الشفّاف"، والتعبير بحدّ ذاته جميل في سياقه ومعناه، فأتاه الجواب من جوزيف بايدن قائلاً: "لقد أثبتت سوريا قوّتها الهائلة في مدى الشرق وثبّتت أقدامها على الأرض، وقد باتت في الموقع المتقدّم". وفي الحديث عينه، أظهر الرئيس الأسد انفتاحه على العالم العربيّ، وقد دعا إلى التفاوض فوق الطاولة وليس تحتها، ومدّ يده إلى أردوغان على الرغم من اشمئزازه منه، قائلاً بانه بصافح أيّ مسؤول تركيّ من أجل سوريا ومعلنًا بأنّ الشعب التركيّ جار لسوريا. هذا الحديث المدروس للرئيس الأسد غير محصور بسوريا كما رأت بعض المعلومات، بل يعني الإقليم بأسره. ذلك، وكما قال المثلّث الرحمات البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم، "بأنّ الحرب ليست على النظام في سوريا بغية إسقاطه، بل هي على سوريا بكلّ مكوّناتها. فمتى سقطت سوريا، سقط العراق، وسقط معها لبنان، واهتزّ العرش الهاشميّ وماتت القضيّة الفلسطينيّة"، وعلى هذا فإنّ الطراوة السوريّة مدروسة ومدوزنة في إطار الاندراج ضمن تفاهم أميركيّ-روسيّ بدأت جمله تنحو نحو لبنان بالدرجة الأولى. وتقول معلومات في هذا الخصوص، بأنّ فلاديمير بوتين بواسطة السفير الكسندر زاسيبكين، وبعض الأصدقاء اللبنانيين، فهم معنى إدراج لبنان في متاهاة الفوضى الخلاّقة، فأرسل رسالة لترامب يحذّره من العبث في المكونات اللبنانيّة، لأنّ هذا سينعكس على مسار التسوية المعدّة في سوريا، ولبنان لن يكون شوكة أميركيّة في الخاصرة السوريّة-الروسيّة. كما أنّه دعا السعوديّة عبر وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان إلى استدراك الإيجابيّة الروسيّة تجاهها، وقد بلغته أنباء بأنّ السعوديين كانوا خلف استقالة سعد الحريري، فتمنّى عليه بتحرير الحريري من الإملاءات، وترك اللبنانيين يتجهون نحو التسوية الداخليّة، مؤكّدًا بأنّ الإيرانيين والأميركيين متجهون إلى الحوار مع بدء السنة المقبلة إن لم يكن قبل بلوغنا الأعياد، والتعاطي بإيجابيّة ومرونة مع حديث الرئيس السوريّ بشار الأسد الذي أثنى عليه، وأعلمهم بأن العهد في لبنان برئاسة العماد ميشال عون خطّ أحمر.
كثير من هذا ترجم بتحرّك الجيش اللبنانيّ والقوى الأمنيّة على الأرض، وفتح الطرق وإلقاء القبض على المعتدين على الناس. لقد فهم سمير جعجع ووليد جنبلاط وفؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي واشرف ريفي وسامي الجميل، بان اللعب على طرق لبنان ومفارقه وساحاته انتهى لا سيما مع دخول الخلايا النائمة على الخطّ، كما أنّ العبث في التركيبة الداخليّة بغية إسقاط العهد وسيده غير ممكن، واستهلاك التظاهرات السلميّة في سبيل التخريبّ ولّى زمانه. الرئيس نبيه برّي قال كلمته الشهيرة: "أنا مع التظاهر بغية ضرب الفساد ولكنّني ضدّ قطع الطرق"، لقد ولّى هذا الزمن، ومع الانتقال نحو الاستشارات الملزمة للتكليف سنكون أمام زمان جديد، للبنان جديد بحكومة جديدة تحمل على اكتافها إصلاح لبنان دولة ونظامًا ومؤسسات.