محطّات كثيرة مرّ بها اقتصادنا منذ الطائف وحتى اليوم، تخلّلتها نجاحات كبيرة أحياناً وإخفاقات أكبر أحياناً أخرى. لكن الحقيقة الوحيدة الراسخة تبقى في الضعف المتزايد في القطاعات الإنتاجية، وتفاقم العجز التجاري، وتعاظم الدين العام… في حين أن أغلبية المؤشرات، من معدّلات النمو والاستدانة والبطالة والتضخّم، تشير إلى أن هناك خللاً هيكلياً في اقتصاد صغير كالذي لدينا، وها هو ينعكس في نهاية المطاف على رواتب الموظفين في القطاع الخاص وأجورهم.
تحدٍّ جديد يُعاكس القوى العاملة، يتمثّل بخفض عدد من الشركات الخاصة رواتب موظفيها. الا أن انعكاس هذا القرار المباشر ينطوي على الاستهلاك من جهة والناتج المحلي ونسب النمو من جهة ثانية، كما أنه يعمّق الركود الاقتصادي ويقلّص عوائد الدولة لا سيما تلك المتأتية من الضريبة على القيمة المضافة. والنتيجة: الدولة تلتهم السمّ الذي أعدّته. فالسلطة التي رفضت الاستقالة منذ اليوم الاول للانتفاضة متمسكة بكراسيها تتحمّل وحدها النتيجة النهائية التي ستؤول اليها الامور.
في كل فرصة سانحة، كانت القوى السياسية أو غالبيتها تُبدي استعدادها للمسّ برواتب القطاع العام، متذرّعة مراراً وتكراراً بأن تجنّب الانهيار يتطلّب تضحية وإصلاحات موجعة وإجراءات تقشفية من الجميع. بالطبع المقصود بـ”الجميع” هنا هم الموظفون. فموظفو القطاع العام ضاقوا ذرعاً بتطاول السلطة على حقوقهم المكتسبة فيما أولئك الذين يتبعون للقطاع الخاص، اعتادوا على دفع تكلفة عمليات التصحيح المالي في مقابل إعفاء أصحاب الرساميل منها.
بين “العام” و”الخاص”
هكذا كان الوضع قبل انتفاضة تشرين الشعبية والمطلبية ضد الفساد. أما بعدها فلم يتغير المشهد كثيراً. المفارقة الوحيدة تكمن في اتخاذ القرار من قبل الموظفين أنفسهم للتضحية في سبيل تحقيق مطالب الانتفاضة.
من جهته لم يعانِ القطاع العام من هذا الهاجس، فرغم الأوضاع الصعبة وانقطاع الطرقات، حرصت المصارف على تأمين رواتب موظفي القطاع العام، كالضباط وعناصر الجيش والقوى الأمنية اضافة الى الموظفين الاداريين وقد قام المصرف المركزي بتأمين السيولة اللازمة لهذا الغرض.
اما المستخدمون في المؤسسات الخاصة فلاقوا نتيجة مختلفة حيث عزمت بعض الشركات اللبنانية على صرف نصف راتب لموظفيها، فيما اكتفت شركات أخرى بحسم 30% من اساس الراتب، على خلفية الاقفال نتيجة الانتفاضة الشعبية وتكبدها خسائر زادت من الوضع تعقيداً لا سيما وأن هذه الشركات تعاني منذ فترة جراء الاوضاع الصعبة.
لا شك ان تلك الحسومات ستؤثر سلباً على القطاعات التجارية والصناعية، وستضعف الحركات الشرائية في الأسواق، وقد تكبد التجار خسائر كبيرة، بعضهم سيجبر على بيع بضائعه بسعر أقل، فيما البعض الآخر سارع الى رفع اسعاره اعتباطياً نتيجة اقفال المصارف متذرعاً بوصول سعر الصرف الى 2000 ليرة لبنانية. الا انهم وفي كل الاحوال متأكدون تماماً من أن الناس باتوا لا يستطيعون شراء مستلزماتهم في ظل تخصيص نسب كبيرة من الرواتب لسداد الديون والمستحقات المالية.تفهّم وتخوّف… وتضحيات
رانيا، موظفة مبيعات في سلسلة محال لبيع فساتين السهرات والاعراس تقول لـ”نداء الوطن”: “نحن لسنا ضحايا الشركات التي لا حول لها ولا قوة بل ضحايا السلطة المتعنّتة التي رفضت الاستقالة منذ اليوم الاول وأرغمتنا على البقاء في الشارع، ما تسبب بحسم 30% من راتبي. أنا شخصياً أتفهم قرار الشركة التي تعاني منذ فترة من صعوبة الاوضاع وتدني نسب المبيعات خصوصا بعد وقف قروض الاسكان وبالتالي انخفاض نسب الاعراس، الامر الذي انعكس بشكل مباشر علينا. ترفض الشركة صرف أي من الموظفين رغم صعوبة الوضع لذا علينا جميعنا أن نضحي”.
ليليان، موظفة في احدى شركات الاستيراد والتصدير تقول ان “النمو اللامتكافئ بين المناطق، ومعدلات البطالة المرتفعة، والإفقار المتزايد للسكان، كلها حقائق تؤكد فشل الحكومات المتعاقبة منذ ما بعد الحرب والتي خلقت الانتفاضة التي نشارك فيها جميعاً من كل قلب. بعد شلل البلد لحوالى اسبوعين تم خفض راتبي 50%. انا شخصياً لا أتفهم هذا القرار لا سيما وأن الشركة التي أعمل لحسابها، على عكس غيرها لا تعاني من ضيقات مالية ولكن الانتفاضة كانت فرصة للتطاول على جيوبنا ولقمة عيشنا. كان على القطاع الخاص كما القطاع العام، أن يتقيّد بالظروف الاستثنائية لحياة المواطنين وعدم اتخاذ أي اجراء بخفض الرواتب. لكن بوسعي القول إننا اصبحنا، من خلال هذه الانتفاضة سواسية مع رفاقنا في القطاع العام الذين اعتادوا على التهديد بلقمة عيشهم ومكسب رزقهم. لكن المفارقة اننا نضحي بملء ارادتنا من دون ان ترغمنا سلطة على ذلك”.
على عكس رانيا وليليان، معن، مياوم في شركة خاصة، ونتيجة تراجع العمل وسياسة تخفيف الموظفين، لم يتقاضَ أي أجر وقد أبدى تخوّفه من استمرار الازمة والّا يتمكن من معاودة عمله في الاشهر المقبلة.
يُعتبر الحد الأدنى للأجور الرسمي منخفضاً قياساً إلى كلفة المعيشة، ولا يتجاوز 675 ألف ليرة، بالإضافة إلى بدل النقل اليومي الذي يُحرم منه عدد كبير من الموظفين. ومن المقرر أن يؤثّر تقليص الرواتب على القوة الشرائية للناس. ومع زيادة اسعار سلّة واسعة من السلع والمنتجات بين 20 و50% فإن خفض الرواتب سيكون قاتلاً اجتماعياً بالنسبة الى الأسر وذوي الدخل المنخفض، وكذلك ما تبقّى مما كان يُعرف بالطبقة الوسطى، ولا سيّما اذا ما استمرت الامور على هذا المنوال.