لم يعد أحد يذكر أنها كانت عاصمة «مملكة البرتغال» منذ مطالع القرن التاسع عشر حتى الاستقلال في عام 1822، وعاصمة «إمبراطورية البرازيل» إلى أن أزيح الستار عن العاصمة الحديثة «برازيليا» التي خرجت بكاملها من مكتب المعماري الشهير أوسكار نيماير. لكن الجميع يعرف بأنها ما زالت تلك «المدينة الرائعة «Cidade Maravilhosa» ودرة البرازيل التي تدغدغ أحلام رواد المغامرات، ويتمنى عشاق السفر زيارتها ولو مرة واحدة في حياتهم.
هي إحدى عجائب الدنيا السبع، ومسرح للبهجة والرقص والغناء لا ينسدل ستاره على أجمل الشواطئ وأشهرها في العالم: كوباكابانا وايبانيما، وهي وحدها تختصر واحداً من أجمل البلدان وأكثرها تنوعاً في العالم.
تحمل اسمها من يوم مولدها في الأول من يناير (كانون الثاني) – جانيرو بالبرتغالية – عندما رست سفن البحارة القادمين من البرتغال في خليجها عام 1502 وكانت عبارة «ريو» تعني الخليج يومذاك.
قد تكفي ثلاثة أيام لزيارة هذه المدينة الساحرة، لكننا نقترح خمسة أيام في الأقل. فمعالمها الطبيعية والسياحية لا تحصى، والتمتع بنمط الحياة الفريد الذي يجري في عروقها على مدار الساعة، وجعل منها عاصمة عالمية للصخب والاحتفالات الاستعراضية يستحق ذلك.
ما إن يصل الزائر إلى هذه المدينة ويتجول فيها لساعات قليلة، حتى يدرك أنها تستحق لقبها عن جدارة لما يحيط بها من طبيعة تطل على شواطئ تمتد مسافات طويلة على رمال بيضاء ناعمة وتسبح فيها جزر كالحواري الطالعة من قعر المحيط.
– مناطق جذبها
نبدأ جولتنا في ريو من أكثر معالمها شهرة: الشواطئ التي ذاع صيتها في العالم وتشكل مدينة داخل المدينة. لها حياتها وطقوسها الخاصة التي تجذب الملايين كل عام من كل أنحاء العالم.
كوباكابانا هو الأشهر بين هذه الشواطئ وأطولها. يمتد على مسافة تزيد على ثلاثة كيلومترات بين تضاريس مكسوة بالخضرة الكثيفة التي تكاد تلامس الرمال الناعمة البيضاء، لا تفصلها عنها سوى ممرات حجرية جميلة صممها المهندس المعروف روبرتو ماركس أواسط القرن الماضي عندما كان هذا الشاطئ مقصد المشاهير والأثرياء من كل الأنحاء، يتهافتون عليه ويرتادون الفندق الذائع الصيت الذي يقوم عند طرفه والذي ما زال إلى اليوم من أفخم الفنادق في العالم.
في نهاية الأسبوع يقفل شاطئ كوباكابانا أمام السيارات وتنتشر على امتداد أرصفته الفرق الموسيقية ومجموعات الرقص ولاعبو كرة القدم والكرة الطائرة والباعة المتجولون. وهنا أيضاً تجري الاحتفالات الشهيرة في ليلة رأس السنة تحت السماء الصافية عندما يكون «العالم الآخر» غارقاً في الصقيع.
في محاذاة كوباكابانا يمتد شاطئ «أباروادور» الصغير، وهو الوحيد الذي تتخلله نتوءات صخرية، وفيه متنزهات رومانسية هادئة لمن يسعى إلى الهدوء والابتعاد عن صخب الشواطئ الأخرى. وفي الماضي كان الخليج الصغير الذي يلتف حوله هذا الشاطئ موقعاً لصيد الحيتان التي كانت تصل إلى مياهه الدافئة. ويفصل هذا الشاطئ بين كوباكابانا وشاطئ ايبانيما الشهير الذي يفضله سكان المدينة على غيره وترتاده العائلات في نهاية الأسبوع.
من المعالم الشهيرة الأخرى التي تنفرد بها ريو دي جانيرو متنزه Tijuca وهو أكبر حديقة داخل مدينة في العالم. أعلنته اليونيسكو منذ سنوات تراثاً عالمياً للبيئة لما يضمه من أجناس نباتية وحيوانية مهددة بالانقراض. ويعتبر هذا المتنزه الشاسع رئة المدينة وخزان المياه العذبة التي تروي سكانها، كما أنه ضابط للتلوث ومانع للفيضانات وملاذ للهاربين من صخب الحياة فيها. تعود قصة هذا المتنزه إلى عام 1861 عندما كانت الأراضي التي يمتد عليها اليوم مستباحة لقطع الأشجار الجائر وتجارة الاخشاب، فقرر الإمبراطور بيدرو الثاني استملاكها، وأمر بغرس 130 ألف شجرة ثم قرر تحويلها إلى حديقة عامة مفتوحة لجميع المواطنين.
لكن ريو ليست مجرد طبيعة ساحرة ومناخ معتدل ومسرح دائم لبهجة العيش وفرح الحياة، بل هي مركز ثقافي نشط وقطب فني من الطراز الأول، تدور فيه الحركة حول المسارح والمتاحف وصالات العرض والمكتبات العامة التي يقوم معظمها في عدد من المباني والمعالم الهندسية الرائعة.
المسرح البلدي من هذه المباني التي تعود إلى الحقبة الاستعمارية في وسط المدينة. على مقربة منه قصر المكتبة العامة الذي بناه ملك البرتغال وأسماه «المكتب الملكي للمطالعة»، والذي يضم مجموعة نفيسة من الكتب والمخطوطات القديمة داخل تحفة هندسية. وبين الاثنين يوجد مقهى «كولومبو» الشهير الذي يعود لمطالع القرن التاسع عشر وما زال يشهد، بعراقة قاعاته والحلويات التي يقدمها، على أيام الزمن الجميل في المدينة.
المركز الثقافي الوطني هو أيضاً من المباني الكلاسيكية التي تستحق الزيارة بذاتها، فضلاً عن الأنشطة الكثيرة التي تدور في صالاته ومسرحه وقاعات الموسيقى ومكتبته الغنية. ومنذ مطلع القرن الحالي أصبح للمدينة صرح ثقافي كبير آخر، هو «مدينة الفنون» التي تضم عدداً كبيراً من المسارح ودور السينما وصالات العرض والمختبرات الفنية عند مداخل متنزه «تيجوكا».
ريو دي جانيرو هي أيضاً موئل لعدد من المتاحف العالمية الشهرة، مثل متحف التاريخ الذي يقع في أحد الحصون القديمة ويضم مجموعات نادرة من الأدوات والملابس، التي كان يستخدمها السكان الأصليون في البرازيل وأميركا اللاتينية، ومتحف الفنون الجميلة الذي يعتبر الأهم من نوعه في شبه القارة الأميركية.
متحف الفن المعاصر الذي يضم نخبة من أهم أعمال فناني أميركا اللاتينية منذ أوساط القرن الماضي. وقد صُمم المبنى على شكل صحن طائر على يد المهندس البرازيلي أوسكار نيماير.
لكن درة متاحف ريو هو أيضاً أحدثها. إنه «متحف الغد» الذي افتتح في عام 2015، وهو من تصميم المهندس الإسباني سانتياغو كالاترافا، ويعتبر باكورة عصر جديد في تاريخ المتاحف العلمية في العالم. الفكرة الأساسية في هذا المتحف هي مواكبة الزائر عبر أحدث التطورات التكنولوجية، في رحلة عبر التاريخ تعود إلى نشأة الكون، ثم تتيح له أن يتخيل كيف سيكون العالم بعد 50 عاماً في ضوء القرارات التي يتخذها الإنسان اليوم في مجالات ستة، هي تغير المناخ والنمو الديمغرافي والتمازج العرقي والتطور التكنولوجي والتنوع البيولوجي وتطور المعارف. وتستند هذه الفكرة إلى نظرية مفادها أن التغييرات التي سيشهدها العالم في السنوات الخمسين المقبلة ستكون أكثر من تلك التي شهدها خلال العشرة آلاف سنة الماضية.
ويلفت هذا المتحف بتصميمه الفريد؛ إذ يبدو وكأنه يطفو فوق خليج غوانابارا على مدخل أحد الأحياء الفقيرة شبه المهجورة التي تسعى الحكومة المحلية إلى تطويرها من خلال مشاريع إنمائية رائدة. وهو يتغذى كلياً بالطاقة الشمسية عبر نظام مبتكر يستخدم للمرة الأولى، كما يتم تبريد قاعاته عن طريق مياه الخليج المكررة.
من المتاحف الطريفة الأخرى التي تستقطب أعداداً كبيرة من الزوار، متحف «ستيرن» للأحجار الكريمة التي تعتبر ريو أحد المراكز العالمية لصناعتها وتجارتها، ومتحف كرة القدم الذي يستعرض تاريخ هذه الرياضة التي يتميز بها البرازيليون، عبر المنتخبات الوطنية التي فازت خمس مرات بكأس العالم، وكوكبة من أبرز اللاعبين الذين يتقدمهم بيليه الملقب أيضاً بجوهرة البرازيل السوداء.
ولعل أجمل ما يمكن أن نختم به جولتنا في ريو دي جانيرو هي زيارة «الجزيرة الكبرى» في الخليج الذي تزنره المدينة. تبلغ مساحتها 193 كيلومتراً مربعاً من السهول الخضراء والأنهار والشلالات والغابات والجبال والشواطئ الساحرة. السيارات والمركبات محظورة في هذه الجزيرة التي تقتصر وسائل التنقل فيها على القوارب الصغيرة أو السير على الأقدام. ولا يمكن لزائرها أن يغادرها قبل أن يشاهد في وسطها ذلك الجبل الصخري العجيب الذي يعرف باسم «منقار الببغاء» وهو على شكل مطابق بمنقار هذا الطائر الذي يكثر في غاباتها.