منذ 17 تشرين الأول، بدأ اللبنانيون من جميع المناطق والطوائف يتوافدون إلى ساحة الشهداء في بيروت للتعبير عن غضبهم من سياسات الحكومة اللبنانية، التي أغرقتهم بالديون والفساد. ولكن ما هو تاريخ هذه الساحة؟
تُعدّ ساحة الشهداء أكبر ساحة في بيروت والمركز التجاري للعاصمة، والتي شهدت على مرّ العصور أحداثاً تاريخية مفصلية.
لم يكن اسم الساحة بدايةً ساحة الشهداء، إذ كانت تُعرف بـ «بستان فخر الدين»، الذي كلَّف مهندسين إيطاليين بناء قصور من حجارة قصور خصومه آل سيفا وحكام عكّار، فشيّد قصراً في ضاحية بيروت الشرقية. لكن الخلافات السياسية دفعت أحد ورثة آل سيفا في ما بعد، إلى أن ينتقم فيهدم القصر ويشيد مكانه أملاكاً خاصة.
وبحسب المصادر التاريخيّة، لم تكن الساحة القائمة إلى اليوم على شكلها الحالي، لأنّ الأمير فخر الدين المعني الثاني (1572-1635م) حرص على أن يجعل من الأراضي المحيطة بقصره حديقة عامرة بأنواع الأشجار المثمرة. كما حرص على أن يجعل فيها مرابط لخيله، وأفرد في جانبها ناحية للأنواع المختلفة من الحيوانات الأليفة والمفترسة، مما هو متّبع عادة في حدائق الحيوانات الأخرى في العالم.
ساحة المدفع
في أواخر القرن الثامن عشر، حكم بيروت أحمد باشا الجزار، الذي استطاع أن ينفرد بالسلطة على المدينة بعد أن انتزعها من حاكمها السابق وسيّده السابق أيضاً الأمير يوسف الشهابي.
تحصّن بها الجزار وامتنع عن تقديم الولاء للأمير يوسف الشهابي، وهو ما اضطر الأمير يوسف إلى أن يُوسّط أحد الإقطاعيين ظاهر العمر الزيداني، المتسلّط على منطقة الجليل في فلسطين، ليقنع أصدقاءه القراصنة الروس المرابطين بأسطولهم في البحر، لكي يسترجعوا بيروت من الجزار مهما كان الثمن.
وبالفعل، استجاب قائد الأسطول الروسي لطلب ظاهر العمر الزيداني وقصف بيروت بقنابله، ولكن المحاولة باءت بالفشل، لأنّ الجزار كان قد حصّن بيروت جيداً، ورمَّم قصر الأمير فخر الدين واتخذ منه برجاً لردّ غارات المعتدين. اضطر الأسطول الروسي بعد ذلك، إلى أن يُنزل جنوده في ضواحي بيروت، ليضرب البرج من كثب بالمدافع التي نقلها إلى البر، ووضع هذه المدافع في الساحة التي تقع قرب البرج. ومنذ ذلك التاريخ بدأ الناس يطلقون على الساحة اسم «ساحة المدفع»، وعُرفت عند الأجانب باسم Les Place des Canons.
ساحة البرج
وفي عام 1831، دخلت قوات إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا إلى لبنان، واتخذت من هذه الساحة معسكراً لجيوشه المصرية، ورمَّم البرج القديم وزاد طوله وعرضه، فسمّي «البرج الكاشف». لكنّ أهل بيروت سمّوه «برج الكشاف»، ومنهم من سمّوه «برج الكشاش»، لاستعماله في «كش الحمائم» أي طردها باللهجة البيروتية. وسُمّيت الساحة «ساحة البرج».
ساحة إعدام الشهداء
لكنّ الحدث المفصليّ في تاريخ هذه الساحة كان عام 1916، عندما أعدم جمال باشا، الذي عُرف بالسفاح، 14 وطنياً لبنانياً وسوريّاً في الساحة، إثر خسارة الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى، متهماً إيّاهم بمساعدة الأعداء.
وقتها، أمر جمال باشا بإعدام نخبة من المثقفين العرب من مختلف مدن سوريا ولبنان، بعدما ساق لهم مختلف التهم التي تتراوح بين التخابر مع الاستخبارات البريطانية والفرنسية للتخلُّص من الحُكم العثماني، إلى العمل على الانفصال عن الدولة العثمانية.
أحال جمال باشا ملفاتهم إلى محكمة عرفية في عاليه بجبل لبنان، ومن دون تحقُّق أدنى معايير المحاكمات العادلة والقانونية، صامّاً أذنيه عن جميع المناشدات والتدخّلات التي سعت إلى إطلاق سراحهم، خصوصاً تلك التي أطلقها الشريف حسين بن علي، شريف مكة.
نُفذّت أحكام الإعدام شنقاً في 6 أيار 1916، بساحة البرج في بيروت، فسُميت ساحة الشهداء.
نصب «مُذلّ»
حين دخل الفرنسيون إلى بيروت عام 1920 بعد إقرار ما سُمّي الانتداب، أنشأوا قوساً ليخلّدوا ذكرى الشهداء. وأمر الجنرال غورو بتسمية المكان «ساحة الشهداء»، ثم بنى نصباً قام به النحّات يوسف الحويك من الصخر اللبناني، يمثل امرأة مسلمة وأخرى مسيحية يندبان على قبر. لكن تمّ هدمه إبّان الاستقلال، لما اعتبره اللبنانيون رمزاً للخنوع والذل.
تعاظم دور الساحة الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في عهد الانتداب الفرنسي، ثم في عهد الاستقلال، الذي بالمناسبة أُعلن من السراي الحكومي الموجود في الساحة عام 1943.
التمثال الحالي
أخيراً، في العام 1950، أمر رئيس الوزراء الراحل رياض الصلح بهدم السراي، لتوسيع الساحة وإنشاء مناطق تجارية حديثة، فأصبحت ساحة الشهداء قلب بيروت التجاري.
وفي العام 1952 أواخر عهد رئيس الجمهورية السابق الشيخ بشارة الخوري، خصّصت الحكومة جائزة دولية لوضع تصميم جديد لنصب الشهداء، وتمّ اختيار تصميم المهندس سامي عبدالباقي، وهو عبارة عن قوس بارتفاع 27 متراً وعرض 24 متراً، وتحته مسلة بارتفاع 8 أمتار، تعلوها مصطبة على جانبيها شعلتان دائمتا الاشتعال.
إلّا أنّ التوترات السياسية بين المسيحيين واللبنانيين في عام 1958 حالت دون إتمام العمل. إذ شهد ذلك العام توتراً مع مصر، إثر تداعيات العدوان الثلاثي على مصر.
طالب اللبنانيون المسلمون الحكومة اللبنانية بالانضمام إلى الوحدة، في حين أراد المسيحيون التحالف مع الدول الغربية.
وحصل تمرّد إسلامي مسلّح بتمويل من الجمهورية العربية المتحدة؛ دفع كميل شمعون إلى تقديم شكوى لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وطلب المعونة من الولايات المتحدة.
بعد أحداث 1958، كلّف مجلس مدينة بيروت البلديّ النحاتَ الإيطالي مارينو مازاكوراتي نحت نصب جديد للشهداء. وأنهى العمل بعد 30 شهراً بإنتاج تمثال يرمز إلى الحرّية، تمثلها امرأة ترفع مشعلاً بيد وتحيط بيدها الأخرى شاباً وعلى الأرض أمامها ووراءها شهيدان، ليتم تدشين النصب رسمياً عام 1960، برعاية الرئيس الراحل فؤاد شهاب.