بقلم جورج عبيد-
أيقظ خطاب السيد حسن نصرالله أمين عام حزب الله العقل السياسيّ من سباته للحراك بدوره بإزاء حراك المتظاهرين في الشارع، لإنتاج حلّ بمستوى لبنان آخذًا بالاعتبار مسلمتين جوهريّتين:
1-نبض الشعب اللبنانيّ، وصرخته المدويّة العابرة للطوائف، حقّه في العيش بكرامة، وحقّه أيضًا أن يكون مصدرًا لانبعاث وطن جديد ونظام سياسيّ بريء من الإثم، تستطيع فيه السلطة القضائيّة أن تظهر متانتها بوجه الفساد من دون مؤثّرات من هنا وهناك.
2-واقع النظام السياسيّ، وهو مهترئ حتى العظم. لكن في قراءته لا يمكن إصلاح النظام بإسقاط العهد والحكومة، في بلد نعلم جميعًا أنّ الحكم فيه للطوائف، حتّى ةإن أخذ لبنان إلى مؤتمر تأسيسيّ. ما يحدث في الشارع يتخطّى المفهوم السياسيّ لمحتوى المؤتمر التأسيسيّ ومضمونه. ولذا فإن إسقاط العهد والحكومة في جوف الفوضى الخلاّقة المبتكرة في بعض النمطيات المتحركة في الشارع، إنهاء للبنان وللتركيبة الضامنة لموجوديّته، وهذا ما لن يتمّ السماح بحدوثه.
كيف يمكن التوليف بين نبض الشارع المتحرّك بقوّة والواقعيّة السياسيّة الفارضة نفسها في البحث عن المخارج؟ لقد انطلق السيد نصرالله من مضمون أخلاقيّ قيميّ بات غائبًا بصورة عامّة عن معظم قراءتنا السياسيّة. والمضمون مستوحى من عمق هذا الحراك بوجهه الإيجابيّ وليس السلبيّ. فالشعب يطلب استعادة المال المنهوب من الدولة، والسيّد حسن كان جازمًا بقوله بأنّ من سلب المال يجب أن يعيده. ما يجعل الحراك الشعبيّ يهدأ بتصوّة العديد من المتظاهرين، أن لا تكتفي الحكومة بورقة إصلاحيّة فقط، وكم حذّرنا غير مرّة الحكومة في هذا الموقع وسواه بأنّ الإصلاح الاقتصاديّ إن لم يحدث سنكون أمام ثورة عارمة، وكم طالبنا أيضًا بأن تفرض الحكومة الضرائب على الأثرياء والمصارف والأملاك البحريّة وسوليدير، ولم تفعل. ليس العهد من يفرض بل الحكومة مجتمعة، ولذلك لا تبعة قانونيّة على العهد، ولا يسوغ نعت العهد بالفاسد أو الفساد.
السيّد نصرالله يعرف والجميع يعرفون، بأنّ فساد الدولة سببه بالدرجة الأولى رسوخ أنظومة عبد الحليم خدام وغازي كنعان كما كتب عماد جوديّة المستشار الرئاسيّ والحكوميّ السابق، التي زرعت الفساد في تربة تحركت بها إلى النهاية العدميّة، وجعلت من الفاسدين والسارقين والمجرمين يتحكمون بمفاصل الدولة ومرافقها ومرافئها بلا حسيب أو رقيب، ويقتسمون المغانم والأسلاب على حساب الناس وحساب الدولة. والأنظومة التي ركّز فيها عماد، هي المجافية والمعاكسة لنصّ اتفاق الطائف الذي امسى دستور الوطن، فجاء الانقلاب على الطائف بهذه الطبقة التي ضربت الدستور بعرض الحائط وقزّمت موقع الرئاسة ووضعت على سدتها الأضعف والأهزلـ فتمّ تطويع مقام الرئاسة ليكون جزءًا من تلك الأنظومة الفاسدة.
صراخ الناس بوجه هؤلاء محقّ. هؤلاء هم السارقون، والمفترض أن يطالبوا بإعادة ما سرقوه وسلبوه إلى الدولة، وإلاّ فلترفع الحصانات عنهم. ما يطمئن الناس أن يخرج سعد الحريري ويقول لهم ما يلي:
يا شعب لبنان وشبابه وصباياه: لقد قررنا الطلب من كل من سرق مالاً حرامًا من الدولة أن يعيده، وإلاّ بالمحكمة بانتظاره، ليس أحد أكبر من بلده كما كان يقول الرئيس الشهيد رفيق الحريري. وأنا شخصيًّا سأباشر بالطلب من الذين تولوا المسؤوليّة خلال وجود والدي في الحكم أو بعده أن يعيدوا ما جنوه زورًا أو سلبوه إلى الحكم وإلاّ سأتبرأ منهم".
برأي كثيرين إذا خرج سعد وواجه جماعته بهذا الكلام المتشدّد، فإنّ الناس في الشارع ستواليه وتولّيه من جديد. هذا علقم ولكن في هذه الظروف لا بدّ من تجرّعه من أجل إنقاذ لبنان. وغالب الظنّ بأنّ الرئيس الحريري متى فعل فسيحرج كثيرين، بدءًا من الرئيس نبيه برّي ووليد جنبلاط وآخرين يتهمهم الشعب بالسرقة والفساد. ليس حميدًا من الرئيس الحريري، أن يكتفي بورقة إصلاحيّة فقط وإن تضمنت مجموعة نقاط كتخفيض رواتب الوزراء والنواب إلى 50%، لا يطلب الشعب هذا فقط، بل يطلب إعادة الأموال المنهوبة إلى الدولة، واعتماد مبدأ التوازن بين الزيادة في الرواتب والحقوق في الطبابة والتعليم وما إلى ذلك وواقع السوق الاستهلاكيّ حيث الغلاء يأكل الزيادات، وتنعدم قيم العيش عند المواطنين، وتوحيد أسعار المواد الغذائيّة الأساسيّة والدواء والبنزين بلا ضرائب موجعة. لقد بات مطلوبًا من الحريري أن يظهر هذا الحرص، وهو حريص بشفافيته، ليحرّر نفسه ممن استغلّوا ويستغلّون اسمه بفسادهم وإفسادهم، المطلوب إعادة المال المسروق من الدولة للدولة، سواء من زعيم أو رئيس سابق، أو وزير أو نائب او موظّف أو قاض. من هنا يبدأ الإصلاح من إعادة الأموال المنهوبة من الدولة الذي رفع قانونه التيار الوطنيّ الحرّ وكتلة لبنان القويّ إلى المجلس النيابيّ وتمّت عرقلته من قبل الكتل النيابيّة المتضرّرة.
وعلى الرغم من الإقرار بأحقيّة المطالب التي رفعها الناس بوجه الطبقة السياسيّة الحاكمة، إلاّ أنّ المسألة أنّ المظاهرات بدأ تحريفها عن المطالب الحقيقيّة السليمة والمحقّة، بحيث بدأت برمجتها لتصير بمواجهة العهد والتيار الوطنيّ الحرّ. تلك البرمجة فهمها وتلمّسها سماحة السيد في خطابه الأخير، وتلمسها كثيرون سواه. فما معنى أن يصرخ بعض الناس في الشارع "كلّن يعني كلّن"، هل يعلمون معنى هذه الكلمة وفحواها؟ لو تمّت الإطاحة بالنظام السياسي بلا بدائل محليّة منظورة، فمعنى ذلك بأن البلد سيتولاّه أوصياء خارجيون أو يكون تحت وصاية الفوضى والجحيم. ليس صحيحًا وكما قال فخامة الرئيس العماد ميشال عون فاسدون ولصوص، وبرأي مصادرمتابعة، بات لزامًا على مجلس الوزراء، أن يتحرّر من خطوط الحمر التي تحرّر منها الشارع ويضع الإصبع على الجراح بالتسميات وليس بالمعميّات.
نحن أمام أزمة وجوديّة كيانيّة، وكلمة السيد نصرالله كانت بحجم هذه الأزمة. الناس في الشارع قالت وتقول كلمتها، القضيّة ليست في الكلام المقول، بل في من يستهلك الكلمات والمفردات ويوضّبها في أهدافه ومأربه. ليست التظاهرات سوى نتيجة لتلك الأزمة العاصفة منذ سنوات طويلة، لكنّها بطبيعة استهلاكها من بعض القوى الخارجيّة تصير التظاهرات بحدّ ذاتها هي الأزمة. لقد حذّر سامي كليب من إمكانيّة تفلّت الشارع وتحول التظاهرات إلى مواجهات أمنية دامية. وتحذير سامي لم ينطلق من عبث بل من مجموعة معطيات استجمعها ويستجمعها قادة الرأي في لبنان، لتكون في متناول من يعنيهم الأمر. ليس من عاقل لا يعتقد بأن ما حدث في العراق غير ممدود نحو لبنان. فهما قائمان في وسط الصراع الأميركيّ-الإيرانيّ، والأجدى القول إنهما قائما في وسط التفاوض بين أميركا وإيران. لقد تبيّن في ساحات الإقليم الملتهب بأنّ التفاوض ليس فقط على الطاولة بل في الشارع في الاحتراب في التظاهرات. "التفاوض" سواء كان في العراق أو لبنان، ليس بهدف تحسين ظروف الناس وعيشهم الكريم في كلا البلدين، بل هو في سبيل إعادة ترتيب الأوراق في الإطلالة الممكنة على سوريا سواء من العراق أو من لبنان، من معظم القوى المتصارعة في مدى الإقليم بأسره، والمتفاوضة على الإقليم بعينه. ما هو ثابت في هذا المسرى بأنّ روسيا وإيران وحزب الله والتيار الوطنيّ الحر، ليسوا بوارد أن يكون لبنان خاصرة رخوة لسوريا، ولنقل خاصرة أميركيّة تستهلك النازحين السوريين كورقة متداخلة في بنية التسوية السوريّة، في سبيل الضغط والابتزاز. لماذا المتظاهرون لم يتناولوا موضوع النزوح واللجوء وطالبوا بعودة النازحين إلى مناطقهم وقراهم بصورة تليق بكرامتهم؟ ما قاله سماحة السيّد من هذه الزاوية حول النزول إلى الشارع بليغ ودقيق ويفترض من الجميع التأمّل به.
في النهاية، إن إقرار مجلس الوزراء لموازنة 2020 وللبنود الإصلاحيّة ما كانت لتتمّ لولا "سلطة الشارع". الشارع قال الكلمة المؤثّرة والمغيّرة. السؤال المطروح على رئيس الحكومة والسادة الوزراء، فرضًا لو لم ينزل الناس إلى الشارع بهذه الكثافة ماذا كانت النتيجة؟ المعنى هنا في قلب الشارع، المعنى أنّ الاستمرار بالفساد والإفساد سمة واضحة ومستمرّة ومحرّكة، ألا كان يجدر برئيس الحكومة أن يقول ما افترضناه في هذه العجالة بكلام قادر على نزع الفتيل من الشارع؟ ألا كان يجدر به أن يقيل الوزير المتسبّب يالأزمة، على الرغم من اعتراف الوزير المعنيّ بأنه استمع لنائب رئيس الحكومة في هذا الشأن وهو الذي دفعه إلى تلك الخطوة في هذا الخصوص، أليس عند الوزير عقل ليحلّل ومن ثمّ يقرّر ما يفيد الناس؟ ألم يكن يجدر به أن يطلب التحقيق ببعض المعلومات الواردة حول تفاصيل خصخصة الواتس آب؟ ألم يكن الأفضل له بالقول بأنّه سيبادر بالطلب من بعض المنتمين إلى حزبه بإعادة الأموال المنهوبة، فأين هي ال11 مليار دولار التي يقال بأن الرئيس السابق للحكومة فؤاد السنيورة قد سطا عليها مثلاً، أين أصبح التحقيق بالطوابع البريديّة؟
السؤال المطروح ماذا سيحدث؟ معظم العارفين يعتقدون بأنّ الجماهير لن تنسحب من الشارع، وبعض الأحزاب بصورة علنيّة أو خفيّة تعوّل أهميّة عليها وعلى ازدياد منسوب حراكها وصراخها، لقلب الطاولة بالاتجاه الخادم للكباش الأميركيّ-الإيرانيّ. المخاوف تزداد من البلوغ نحو صدامات دامية، والأسئلة تتراكم حول طرائق الخروج من الشارع، وحتى تنكشف الأمور على المستويات كافّة، الأزمة مستمرّة ومتصاعدة. فيما الدعاء بالخلاص دائم وموصول حتى بزوغ شمس الحقّ.