بقلم جورج عبيد-
"تعجبين من سقمي صحّتي هي العجب
كلّما انقضى سبب منك عاد لي سبب"
أبو النواس)
أضاءت كلمة وزير خارجية لبنان جبران باسيل في جامعة الدول العربيّة على دنيا العرب الممزّقة بمجموعة مسلّمات نورانيّة، يفترض بالدول المجتمعة أن تتلقّفها وتجسّدها في تطلعاتها إلى العدوان التركيّ على سوريا، أو إلى أي عدوان، لتدرك أنّ المسألة لم تعد قائمة في النسيج السوريّ الداخليّ، بل في جوهر الحرب على سوريا. ذلك أن الحرب عليها، وبواقعيّة مطلقة، جعلت العدوان سببًا متكاملاً، وجزءًا من خيار دوليّ، شاء فرض نفسه من جديد، سواء انطلق بتسوية على حساب السيادة السوريّة، أو عبّر عن تنافس واضطراب من شأنه أن يأكل من السيادة عينها، ويجعل سوريا أرض يباب أو حطامًا مندثرًا.
شاملة كانت كلمة لبنان، وشموليّة كانت رؤية وزير خارجيّته. ويستذكر العرب ونستذكر معهم، أن جبران باسيل، ومنذ أن أعلن دونالد ترامب رئيس أميركا، بأنّ القدس عاصمة اليهود الأبديّة، وعاصمة إسرائيل اليهوديّة، علا صوته فوق أصوات العرب أنفسهم، وفوق صوت وزير خارجية فلسطين، ليعلن ما لم يقله سواه بأن الحروب المصطنعة والمفبركة، سواء كانت مذهبيّة، أو قوميّة، بين شيعة وسنّة، أو بين عرب وفرس، هي المنطلقات الجوهريّة التي مكّنت ترامب من قرار مقيت كهذا، وظلّ العرب "ألفاظيون" (والعبارة للمطران جورج خضر)، مدمنين على نظريات التطبيع، لتبدو مسارّات لصفقات، ولو على حساب فلسطين وموجوديّتها، ولو على حساب القدس الشريف كمدينة لقيامة والإسراء والمعراج. ذكر جبران في ذلك الوقت برؤية أظهرها البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم رحمه الله كان قد اسرّها لصديق له، وسمّاه بطريرك العرب، بأن الحرب على سوريا هي لإسقاطها ومتى سقطت سقط العراق ولبنان، واهتزّ العرش الهاشميّ، وبطلت فلسطين من الوجود. هل يدرك العرب معنى هذا الفكر وعمقه، أو هم راقدون في ليل المصالح ومستوون في عقم الفكر. بين العقم والعقم بواد سحيقة، وأودية عميقة، فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولا يتساوى المتآمرون والطاهرون، في الرؤى والتقييم.
ليس من فرق بين كلمة جبران في القاهرة منذ سنة ونيّف، وبين كلمته الآن. لا يزال الرجل يشير إلى كلمة غولدا مائير الشهيرة سنة 1969، يوم تمّ الاعتداء على المسجد الأقصى من قبل الإسرائيليين، فانتظرت المرعبة بالشكل والمضمون، وصول جحافل العرب لصدّ الاعتداء والانتقام للدين الحنيف، ولم تنم طوال الليل منتظرة قدومهم، فلم يأتوا ليدافعوا وينتقموا ويعيدوا للمسجد كرامته، فقالت كلمتها الشهيرة: "الآن أيقنت أن العرب أمّة فاشلة". إنّهم أمّة فاشل بامتياز، واختراقهم بشتى الأساليب والاتفاقات سهل للغاية. هذا يفسّر أكثر فأكثر معنى كلام غاي بيتشر سنة 2015 لصحيفة إيديعوت أحرونوت الإسرائيليّة، بأن عصر النفط العربي قد انتهى وبدأ عصر العقل الإسرائيليّ.
وجع جبران باسيل أنّه يتخاطب اليوم، وفي عزّ الاعتداء الإسرائيلي مع أمّة فاشلة، حكامها بعيدون كلّ البعد عن الحقّ، يحيون في جبريّة إلهيّة عمياء تصيب منهم مقتلاً، فتتحوّل إلى رزوح ومن ثمّ إلى جمود، وما بين الرزوح والجمود يقعون في التخبط ويتمايلون ما بين صراع المصالح، وصراع الجهالات، ويتقبّلون كلّ الإملاءات، بلا أسئلة وإجابات.
بدء الإضاءة على صراع المصالح وصراع الجهالات، انطلق بمجموعة أسئلة طرحها وزير خارجية لبنان فيما الأتراك يمعنون، وبشراسة، بدكّ المناطق السوريّة: "ألم يحن الوقت بعد لعودة سوريا الى حضن الجامعة العربية؟ ألم يحن الوقت بعد لوقف حمام الدم والإرهاب، وموج النزوح واللجوء؟ ألم يحن الوقت لعودة الإبن المُبعد والمُصالحة العربية-العربية؟ أم علينا إنتظار الأضواء الخضراء من كل حدب وصوب؟ إلا الضوء العربي الذي عليه اليوم أن يضيء مشعشعاً كأول رد من الجامعة بوجه العدوان التركي على أراضِي سورية العربية، كي لا يضيع شمال سوريا كما ضاع الجولان السوري! وكي لا تتقاسمنا القوى، وتستفرد بنا الواحدة بعد الأخرى، حتى كأننا ما فهمنا بعد كيف أصابتنا كلنا، الدولة تلو الأخرى، بدءاً بلبنان وإنتهاءً بسوريا!" وإذا ساغت إضافة طفيفة على كلمة باسيل، فبإمكاننا استذكار ضياع أنطاكيا حيث دعي المسيحيون أولاً بحسب سفر أعمال الرسل، ولواء الإسكندرون، وقد أهداهما الفرنسيون عنوة للأتراك، فيما هي أراض سوريّة.
تلك الأسئلة وللأسف لم تتمّ الإجابة عليها، بل جاء كلام الأمين العام لجامعة الدول العربيّة مخيّبًا حين حمّل سوريا مسؤوليّة البلوغ إلى تلك النتيجة، بدلاً من تحميل الأتراك وحلفائهم، وبدلاً من تحميل دولتين خليجيّتين مسؤوليّة رعاية القوى التكفيريّة في سوريا، مسؤوليّة زعزعة الكيان السوريّ وتمزيق وحدة نسيجه. ومن حقّ أيّ إعلاميّ أن يسأل أبو الغيط، من هي المعارضة السوريّة المزعومة، هل هي على سبيل المثال لا الحصر، ميشال كيلو وجورج صبرا وهيثم المنّاع وبرهان غليون... وماذا يمثّل هؤلاء في النسيج السوريّ، وقد استوردوا بصورة فاضحة ليواجهوا، أو هي القوى التكفيريّة التي قاتلت على الأرض منذ سنة 2011، منطلقة من العراق إلى سوريا إلى لبنان؟ ميوعة جواب أبو الغيط تؤكّد حالة السويداء، وديمومة المؤامرة لحظة قال: "الحلول في سوريا معقّدة". لقد كان يفترض بأبو الغيط، لو رضي أن يكون عقلانيًّا، بأن يستلهم من كلام لبنان ما يعينه على كشف بواطن الأزمة برمتّها ويشدّد مع جبران باسيل على مصالحة حقيقيّة تدفع سوريا إلى مزيد من المناعة والقوّة بوجه الاعتداء التركيّ عليها. والسؤال المستوحى من كلام باسيل: "هل يرضى أبو الغيط أن يضيع الشمال السوريّ كما ضاع الجولان وكما ضاعت أنطاكيا ومعها لواء الإسكندرون، بسبب ميوله الواضحة؟" وبرأيي كثيرين سيكون الجواب عبثيًّا، لأنّ الميول واضحة وطاغية.
ثمّ يكمل باسيل قائلاً: "موقف لبنان مبدئيّ سياديّ ووطنيّ عروبيّ، حيث لا يمكن الإعتداء على أرض عربيّة سورية أصيلة دون وقفةٍ منا. أما مصلحة لبنان الأكيدة فهي في إجماع عربي مبدئي يحمي كل دولة عربية، كبيرة كسوريا أو صغيرة كلبنان، من أي إعتداءٍ على أرضها أوشعبها أو كرامتها. وحده الحق ومبدأ العدالة والقانون الدولي هو الذي يعطي الحماية المستدامة"، وبالنفس عينه والروح الميثاقيّة-المشرقيّة المتحرّكة في عقل جبران وفكره، رفض البلوغ إلى منطق الدويلات، قوميّة أو عرقيّة أو طائفيّة، لأن ذلك سيكون نهاية لسوريا ولبنان، وتقسيم لبنان، بالتالي، سيؤدّي "إلى انتهاء سبب وجوده ونهايته"، "فلا يجوز أن نقبل بعد اليوم أي إعتداء إسرائيلي أو تركي أو من أية جهة أتى على دولة عربية أو على شعب عربي، ولا يجوز أن نبقى مللاً وطوائف متناحرة، خائفين من بعضنا البعض ومتوجسين من الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان."
وبعد تأكيد موقف لبنان، عاد لطرح سؤال جوهريّ، ليس بمقدور أيّ وزير أن يجيب عليه في المدى المنظور، "ما الذي يمنعنا اليوم من فتح قنوات الحوار مع بعضِنا ومع محيطِنا بحثاً عن سلام داخلي، أو فتح جبهات القتال بحثاً عن سلام خارجي؟" إشكاليّة السؤال بحدّ ذاتها علّة أزمة العرب مع أنفسهم، وقد خرجت بلا أجوبة، لأنهم تناسوا أن الجغرافيا وكما قال جبران أكبر ديكتاتور والتاريخ أفضل معلّم. وكم كان الدكتور شارل مالك رحمه الله محقًّا حين قال: "إنّ التاريخ ضوء المستقبل"، أو ضوء للمستقبل. ثمّ دعا الرجل للحوار قائلاً: "فالحوار الصريح هو الخيار الصحيح، دون أن يظنَ أحدٌ أن في التحاورِ ضَعفٌ وهزيمة، ودون أن يظنَ أحدٌ أنَ محادثاتِه السرية سوف تعطيه القوة والنصر، أو تقيه شرَ أعداءِ المنطقة الحقيقيين، ودونَ أن يظنَ أحدٌ أن بإمكانه منفرداً الوصول الى شاطىء الأمان. فإمّا أن نعمل معاً ونُنتج منطقة إستقرار وطمأنينة وإزدهار فنصل معاً، وإلا لن يصلَ أحدٌ، وسوف يتم الأستفراد بنا واحداً بعد الآخر وسينتج عن ذلك خراب عظيم... أعظم مما هو حاصل اليوم" فلماذا العرب يخافون اللقاء البسيط بينهم كما قالت الشاعرة العراقيّة لميعة عمارة؟.
في النهاية، الاعتداء التركيّ على سوريا متساو في الجوهر مع الاعتداءات الإسرائيليّة على فلسطين وسوريا ولبنان. وعلى هذا، فإنّ كلمة جبران باسيل الساطعة بالحقّ العربيّ، المكوّن من التمازج البديع بين المسيحيّة المشرقيّة والإسلام القرآنيّ، هي الأبلغ والأوضح والأنقى والأصفى. إنه بهاء جديد معطى ليس لمن حضر بل لنخب لا تسير على حفافي الخيانات وضفاف التمزّق، بل لنخب تحيا في الحقّ، وترى بأنّ هذا التمازج ينقذ سوريا ولبنان وفلسطين والعراق من أي اعتداء ويعبّد الطريق لحوار متوثّب لأجل غد أفضل بنفض عنه غبار التسويات المشبوهة ويعيد لهذه الدول المحوريّة كرامة مفقودة، تبقى صدى ومدى لكرامة الله الواحد فينا.
كلمة جبران كلمة العرب الصادقة. لقد أسقط بخطابه الأقنعة العربيّة المقيمة في الليل الحالك، كلمته قمّة كلّ كلام، ومن بعدها ليس من كلام في ظلّ استمرار العرب في مستنقعاتهم الاحترابيّة الآسنة.