"يا رب نجِّ نفسي من الشفاه الظالمة ومن اللسان الغاشّ، ماذا يعطى لك وماذا يزاد يا لسان الغشّ، أنت مثل نبال الجبار المسنونة، أنت مثل جمر العرعر..." (المز 120)
حدث البارحة في وسط بيروت والمحيط، كشف ومن دون شكّ والتباس، عمالة بعض السياسيين الفاسدين واندراجها ضمن مخطّط كانت له بعض المقدّمات الملتهبة واللاهبة أو الملهبة في آن للناس والأرض. يسوغ وصف المشهد واللحظة المتسوي فيها، بانّه مستعاد في التبويب والتكتيك، وحتّى في استظهار واستخراج منهجيّة الحراك الفوضويّ، وقد شيئ له أن يكون فوضويًّا بامتياز، فيبدو بريئًا من العيب، بل يبدو بلا نسب أو انتساب.
إنّه القناع والحجاب الحاجب للحقيقة. والحقيقة أنّ الذين نزلوا إلى وسط بيروت بتكديس حينًا وتفريق أحيانًا، لم تستوهم الحريّة المطلقة، بل لم تلدهم هذه الحريّة من الأعماق ليقولوا قول الحقّ في إطلالة نبويّة مثيرة ومميزّة، تهدف إلى وضع حدّ للميوعة والفساد وللتدحرج الصائر البلد إليه، بل ولدوا من لحم ودم فاسدين وانتسبوا إلى مجموعة ترابيّة، فتكلمت بألسنة غاشة، وتغرغرت بكلام مللنا سماعه، لأنّه لم ينتج سوى الكسل، وإذا قيل هنا وثمّة فمن أجل تغطية الآثام والإجرام والفساد والعمالة والعمولة.
لقد بان للناس بأنّ الحراك عفويّ لا غشّ فيه. الإرادة بالظهور في مشهد العفويّة مبرمج منذ أكثر من أسبوع، أي أنّ الشكل أريد له أن يبدو عفويًّا فوقع في قمّة الالتباس، ولكنّه ناتج من تخطيط جليّ، يشبه التخطيط الذي أدّى إلى حادثة البساتين وقبرشمون، في الشكل والمضمون أي الهدف. فاحتشدت ثلاث قوى أساسيّة لاعبة أو داعمة، وهي القوات اللبنانيّة والحزب التقدميّ الاشتراكيّ (ضمنًا) وحركة أمل أو الرئيس نبيه برّي مجموعة داخل المتظاهرين ومجموعة اخرى بوجه المتظاهرين وهي مجموعة الخندق الغميق، الذين قاموا بالهجوم والاعتداء على المتظاهرين، كما تسمرحت قوى أخرى تقتات من المعجن إياه، أو من الفتات المتساقط على أراض ليست لها، إنما سمح لها بالتواجد عليها في سبيل المصلحة العامّة. وتقول بعض المعلومات، بأنّ استجماع تلك القوى بتلك "التظاهرات العفويّة" والشديدة التمرّد على النظام كما زعمت والمريدة للثورة حتّى إسقاطه، ما كان لها أن تصير وتحدث بهذا الاحتدام المقلق، لو لم تتدفّق السيولة السياسيّة والماليّة من قلب السفارتين الأميركيّة والسعوديّة على وجه التحديد.
ما هي الأهداف البائتة والبائنة في قلب هذا الحراك ولماذا انطلق في هذه اللحظة بالذات، أي فور عودة الرئيس ميشال عون من نيويورك، وهل نحن فعلاً أمام أزمة اقتصاديّة ومعيشيّة لتنفجر الأمور بهذه الحدّة المفرطة؟
قبل إيراد الأهداف، أو استيرادها، يجدر بالمراقب أن يلحظ بالدرجة الأولى، بجواب واضح على القسم الأخير من الأسئلة المطروحة، أزمة لبنان الماليّة والمعيشية والاجتماعيّة قديمة العهد والفضل الأوّل في انتشارها واستشارئها لفساد الفاسدين وإفسادهم، المهيمنين على مقدرات الدولة ومؤسساتها وماليتها وما إلى ذلك، وهم أنفسهم من حرّك الأرض البارحة. وقد بات واضحًا وبلا التباس، بانّ لبنان ما كان له أن يبلغ هذا المبلغ من التدجرح الخطير والمقيت، لو بنى اتفاق الطائف دولة الحقّ. فالطائف في جوهره لم يوجد ليبني، وأقصد بالطائف الحاجب للنص بالتسويات الأخرويّة.
ذلك أن الآخرين لا يعمدون على ابناء والعطاء بل على السلب والاستلاب برموز فاسدة تعاقدت معهم فأفرغت خزينة الدولة وجعلتها تقارب أزمنة الشحّ وتهرّبت من دفع الضرائب، حتى بلغنا إلى هذه المديونيّة الخطيرة البالغة بحسب المعلومات الواردة 130 مليار دولار، وبعضهم اعترف ب80 مليار دولار، وغالب الظنّ بأنّ الرقم الأوّل هو الأصحّ والأدقّ. وقد صرنا لاجئين عند دول تحاول المساهمة في تعويم الدولة اللبنانيّة وماليّتها، فيصبح رهينة مستباحة لشروط الخارج، فيما المطلوب فقط أربع:
1-تدمير منظومة الفساد، بمحاكمة الفاسدين وإعادة ما سلبوه من الدولة للدولة كما يحصل في سوريا حاليًا ومن دون مواربة ومحاباة، فلا مهادنة مع الفساد ولا محاباة لوجوه فاسدة أو لبعضها، وبعضها البارحة كان المحرّك للشارع.
2-الانطلاق نحو الاقتصاد المنتج وعدم الاتكال على الاقتصاد الريعيّ كما قال فخامة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون غير مرّة، عبر تشجيع الحركة الصناعيّة وإعطاء الضمانات المحقّة للعمال حتى يثبتوا في أعمالهم، والبدء بالتنقيب واستخراج النفط من البحر، لأنّ هذا وحده الكفيل بتعويم الخزينة اللبنانيّة.
3-ضبط السوق اللبنانيّة ضبطًا محكمًا، فالليبراليّة المستلذّة من كثيرين قد خرجت عن قيمها وأصولها ومعانيها، وتحوّلت إلى فوضى خلاّقة عارمة أصابت الناس بأوجاع مختلفة، لا سيّما أصحاب ذويّ الدخل المحدود، فبدا معظم اللبنانيين ضحايا التوحّش الماليّ على الأصعدة كافّة، فعلى سبيل المثال لا الحصر فماذا يعني أن يصل قسط ولد في صف الثالث ابتدائيّ إلى عشرة ملايين وخمسمئة ألف ليرة لبنانيّة؟ وماذا يعني أن يبلغ سعر صفيحة البنزين في غفلة من الزمن إلى أربعين ألف ليرة لبنانيّة أو حدودها؟ وماذا يعني أن تبلغ أسعار المواد الغذائيّة نحو الغلاء الفاحش، وماذا تعني الضرائب المفروضة على طبقة دون الأخرى؟ لقد بات لزامًا ضبط السوق ودعم ما ينبغي دعمه من المواد، ووضع أسعار محدّدة من أجل رفعة الإنسان وكرامته.
4-جباية الضرائب من الأملاك البحريّة، وقد وضع أثرياء القوم أياديهم عليها زورًا وبهتانًا، ومن مؤسسة سوليدير، وقد أكلت الأخضر واليابس من حقوق الناس بتشريع مزيّف، فلا توجد عاصمة في العالم ملكًا لشركة أو مؤسسة، الفرض على المصارف بأن تضع على الأقلّ مبلغًا قدره مليار دولار سنويًّا لمصلحة خزينة الدولة، من بعدما استفاد بعضها من الهندسة الماليّة على حساب خزينة الدولة والناس.
وعلى الرغم من الجور الاقتصاديّ والاجتماعيّ الذي يعيشه اللبنانيون في محيط متلاطم، فإن استهلاكه واستعماله من الجهات الخارجيّة والداخليّة لمآرب سياسيّة نتنة هو الجور الأعظم. فقد تبيّن للمراقبين بأن استجماع تلك الأوراق، وهي مرسّخة عنوة في بنية لبنان منذ سنة 1992، وفي هذه اللحظة بالذات، يستهدف عهدًا تأصّل ليس بتسوية عابرة، بل بعمق الفلسفة الميثاقيّة الحامية لجوهر لبنان، ولأنّه تبنّى سلاح المقاومة بوجه إسرائيل وبوجه القوى التكفيريّة في سوريا، ولأنّه ارتضى لذاته أن يتوشّح بوشاح المشرقيّة الموشى بالذهب وببياض لبنان. كلّ القضيّة مكنونة في أن العهد رافض للعقوبات على حزب الله من أنّى صدرت وأتت، ولأنّ الحزب بالذات جزء من النسيج اللبنانيّ المبارك، والتعدّي على الحزب تعدِّ على لبنان.
من الطبيعيّ، إذًا، أن تطلع أصوات من الداخل اللبنانيّ، تمتاز بعداوة عقيديّة واستراتيجيّة مع حزب الله، ومناوئة لديمومة التحالف بين الحزب والتيار الوطنيّ الحرّ، وتجترّ عباراتها الهدّامة، وتظهرها كمادّة شرائيّة بينها وبين المعاقِبين أو الفارضين للعقوبات. ومن الطبيعيّ أن تستهلك تلك القوى متحالفة العناوين الاقتصاديّة، وتتعاون مع أصحاب محطّات النفط وموزّعيه، لشحذ المواقف وحشد الناس وشحن الهمم، في اللحظة الجلّى التي وقف فيها رئيس لبنان من على منبر الأمم المتحدة أثناء الجمعيّة العموميّة يلقي كلام الحقّ، يرفض العقوبات، ويرفض في الوقت عينه بقاء النازحين على أرضه ويواجه أميركا التي لا تزال إلى جانب السعوديّة تصرّ على بقائهم، ويواجه صفقة القرن المهوِّدة لإسرائيل والرافضة لحلّ القضيّة الفلسطينيّة، ويعلن التواصل مع الدولة السوريّة في سبيل حلّ أزمة النازحين. من الطبيعيّ أن تعمد تلك القوى على تعميم الضلال بوجه الحقّ الصادر من فم الرئيس بخطاب تاريخيّ من دون أن ننسى مواقف جبران باسيل التاريخيّة في أميركا المظهرة لهذه الحقيقة بصفاء عقل وقوّة المنطق، فيما الرئيس كعادته رفض المشاركة في اللقاء التكريميّ الذي أقامه رئيس أميركا على شرف الدول، كيف يصافح رئيسًا يمعن في تمتين العقد بدلاً من حلّها؟
كلّهم على العهد، لأنه حاوّ لهذه الحقيقة ومتبنّ لها حتى النهاية، ولأنه أثبت قدرته على استعادة حقوق المسيحيين من دون مواربة وأعاد لبنان والصيغة اللبنانيّة غلى توازنها الذي كان مفقودًا. وكلّهم على لبنان حتى يظلّ ولاّدة أزمات أو أرضًا محتوية لها. لكن، ومع دنوّ المنطقة بصورة عامّة إلى وجهها الجديد سيكتشف هؤلاء أن ما فعلوه إنما هو خيانة وتآمر، ولبنان ماض نحو خلاصه بإصلاح المؤسسات وصلاح العمل فيها. فالرئيس يمهل ولكنّه لا يهمل، وسيطلّ لبنان واللبنانيون على فجر جديد بات بزوغه وشيكًا، شاء من شاء وأبى من أبى.
يا ربّ نجنا من الشفاه الغاشّة واللسان الغاشّ، ليبقى بلد الأرز وطنًا للحقّ والنور.