"أنا الراعي الصالح ورعيّتي تعرفني"
أيها السيّد الأكرم والأجلّ نيفون،
ألقي على عاتقك أن تحمل إلى روسيا العظيمة حرارة مشرق توشّح بضياء القيامة. لقد كان االسيّد البطريرك يوحنّا الحبيب على حقّ لمّا قال في عظته يوم الأحد في تكريمك بأن تلك الحرارة التي فيك أذابت ثلج موسكو. إنها حرارة قلب سكنه الناصريّ منذ يفاعتك فالتهب واحتدم الخطاب منه ليصير هذا الالتهاب مسرى رسالة وبشارة مشرقيّة سكبتها في هذه البلاد العظيمة المديدة.
لن أنسى يوم كرّمك اللقاء الأرثوذكسيّ في ضهور الشوير ذلك الخطاب المضيء وفيه اوضحت سيرتك من زحلة إلى موسكو. لقد استوقفتني سيرتك وتوقفت فيها عند مجموعة محطّات زادتك إيمانًا وصلابة حدّدا فيك محتوى الانتماء ما بين كنيسة الأرض وكنيسة السماء. فكنيسة الأرض تعرفها جيّدًا، وفيها الكثير من الجور والمآثم، وأحيانًا كثيرة تقع في ضلال البشر، رعاة كانوا أو مؤمنين. لكنّ التوق لم يبارحك البتّة في أن تكون كنيسة الأرض صورة عن كنيسة السماء، أو جزءًا منها في دنيانا، وفيها أنشدنا وننشد تسبحة جديدة. مسعاك، يا سيد، تلخّص بسؤال واحد كيف نتطهّر؟ كيف نتواضع؟ كيف لا يزدري الرعاة بالناس؟ متى يتذكّرون أن لا سلطة لهم سوى سلطة المحبّة على الأبناء، وهي مستمدّة من عراء السيّد المبارك وهو مسنود وممدود على خشبة الصليب. فكنت إلى جانب صاحب الغبطة والمطران أنطونيوس، الساطع بنهضته في أبرشيّته، قمّة في التواضع والمحبّة. كنت أراك بعد وضع التاج المذهّب على رأسك من قبل غبطته والوسام المذهّب من الدرجة الأولى من قبل ممثّل فخامة الرئيس العماد ميشال عون دولة الصديق الحبيب إيلي الفرزلي تحني رأسك وكأنك تقول لله العليّ ما قاله داود النبيّ في المزمور الخمسين: "إرحمني يا ألله كعظيم رحمتك"،. وفي كلّ تلك اللحظات كنت تستجير "بالرحمة الأولى" في نفحاتها الطيّبة، على غرار شاعرنا العظيم سعيد عقل، وتذهب منها وفيها إلى أبعد من تكريم تكثّف فيه البهاء، أي إلى وجه لا يزال يتكلّم فيك ويجذبك ويمنطقك ويذهب بك حيث شاء لك أن تكون، فكنت.
في سيرتك العظيمة، أنّك اتخذت من القديس نيفون شفيعًا لك. من قرأ سيرة هذا البطريرك الراهب والشيخ، اكتشف بهاءه، والتمس قداسته، وذاق نسكه، فسلكها وسار بها كخطوات تدنيه إلى ملء قامة المسيح. هذا التمسته وعشت في مبرّاته بسكون نفس وصفاء عقل واحتدام قلب. إلاّ أنّ معرفتك بهذا القديس العظيم عائد إلى تأثّرك الواضح بأبيك الروحيّ المثلّث الرحمات المطران نيفون سابا راعي أبرشية زحلة، وقد دمج بين المسرى الروحيّ والذوق الأدبيّ والنحت الشعريّ. وقد كان والمثلّث الرحمات المطران أبيفانيوس زائد يتنافسان على نظم القصائد الجميلة والوعظ البديع. ربيت يا سيد في أزمنة الأحبار الكبار، من بولس الخوري إلى إغناطيوس حريكي إلى إيليا الصليبي، إلى أبيفانيوس زائد إلى نيفن سابا إلى أنطونيوس بشير في أميركا، وهو مترجم كتاب النبيّ لجبران، وبعده المطران فيليب صليبا. وقد جاءت معاصرتك لهم عبر والدك المثلّث الرحمات الخوري غفرئيل صيقلي، وحين انتقل الدم الكهنوتيّ إليك، جذبت إلى أفكارهم وخطاباتهم وأشعارهم، وانطلقت من هذا الحوض المبارك إلى رسالتك الكهنوتيّة، متأثّرًا بصورة مباشرة بهالة نيفون سابا التي لم تبارحك البتّة، وقد زرع فيك بهاء الكلمة بتألّق كبير، حتى غدوت أسقفًا لله العليّ، فانتدبك المجمع الأنطاكيّ المقدّس لتكون سفيره لدى بطريركية موسكو وكلّ الروسيا.
ذهبت إلى روسيا في لحظات الشدّة وكان صقيع الاضطهاد يعصف حتى الدماء. لم تكترث البتّة لوقائع الموت الدامي بسبب الإيمان، وحفظت من كتابك العزيز بأن الإيمان كالمحبّة أقوى من الموت ومن الاضطهاد. "فلا برد ولا جوع ولا اضطهاد يفصلنا عن محبّة المسيح" كما قال بولس الرسول. فعلوت بنعمة الروح فيك وأظهرت لروسيا كم أن أنطاكيا رئة النعمة لروسيا في ذلك الزمن مثلما روسيا الآن هي نعمة القداسة لنا، معتبرة بلسان كنيستها بأنّ الحرب على الإرهاب واجب أخلاقيّ ومقدّس. لا أحد على الإطلاق ينكر احتدام قداسة الآباء المشارقة في قلب روسيا، وقد كانت النابضة دومًا والمتفاعلة مع ذلك الشعب العظيم المقاوِم لكل أنواع الصلف والاضطهاد... إلى أن انتصر الإيمان.
لقد روى لي شقيقك الراحل الحبيب نقولا لمّا ذهب ضمن الوفد الأنطاكيّ إلى موسكو للاحتفال بالألفيّة الأولى لتنصير روسيا بإمامة البطريرك إغناطيوس الرابع رحمه الله، كيف أن الشعب كان يلتمس بركة الوافدين من أنطاكيا لامسًا ثيابهم أساقفة وعلمانيين. هذا عطش مبرور، والجوع إلى الخبز والكلمة الإلهيين فجّر الشيوعيّة من قلبها وجعلها جثّة نتنة، وأعاد المسيح الناهض من بين الأموات إلى أرضها بنصر مبين. وفي كلّ هذا، كنت تعمل جاهدًا على دعم كنيسة موسكو بقوّة في لحظات الشدّة، مستكينًا إلى إيمانك، فجعلت أنطاكيا تتكلّم في تلك الحاضرة، ثمّ عملت مبشّرًا فجذبت إلى الكنيسة عددًا كبيرًا من الشيوعيين وقمت بتعميدهم، وكان يتم ذلك في أصعب اللحظات، فجعلت يسوع يمشي على ثلج موسكو وبطسبرغ ويحتضن المشرّدين والمألومين ويضمّهم إلى كنيسته.
كلّ نبضة، كل خلجة، كلّ تأوه، كلّ جمال في روسيا سكنه المسيح في الأصل وقد التمست ذلك. الموسيقى والشعر والمسرح تعبير واضح عن مسيحانيّة متأصلة في الأرض. من ذاق أدب فيودور دوستيوفسكي أو علا نحو قداسة سيرافيم سيروفسكي فهم كيف أنّ روسيا حفظت الإيمان حتى في عزّ الاضطهاد. لقد روى المفكر الشيوعيّ الماركسيّ نسيب نمر للمطران جورج خضر وقد كنت في معيّته كيف أنّ الضباط السوفيات الذين قتلوا في الحرب العالميّة الثانية كانوا يضعون الصليب على صدورهم. لقد سقط الإلحاد وانتصر صليب المسيح.
يا سفير المحبّة الأنطاكية والمشرقيّة واللبنانيّة إلى روسيا. أنت راع صالح بتواضعك الجمّ ورعيتك تعرف بحبّ. استقمت بالحقّ أمام الباطل واعتصمت بالصمت أمام ثرثرات هذيانيّة والتحفت بالنور في بواد مظلمة قصيّة. لم تطلب شيئًا لنفسك، بل طلبت أن تنغرس فيك كرامة المسيح وجاهدت لتغرس كرمه في الأرض. أكرمت الوافدين من بلادنا إلى موسكو أيّما إكرام، ورافقتهم حيثما دعوا لتؤكّد بمسيرتك أنّك بالفعل لا بالقول سفير لبنانيّ أنطاكيّ ومشرقيّ على ما قال حبيبنا البطريرك يوحنّا العاشر. فنقلت إلى تلك البلاد ثقافة التلاقي بين المسيحيّة والإسلام، ونقلت إلينا الرؤى الروسية الراقية بجمالها وجلالها، وستجسّدها كنيسة ومتحفًا في أبرشيّة زحلة وتوابعها بتقدمة منك، فكنت أيضًا الآنيّة الحقيقيّة لحوار روسيا والمشرق ونحن نحتفل بانتصار لبنان في أنه أمسى مركزًا دوليًّا لحوار الحضارات والأديان، وأنت العارف كم أن مواطنك الحبيب الزحلاويّ فؤاد الترك بذل فكره لترسيخ هذا الطرح وكيف أن رئيسنا الحبيب تبنّى وجاهد حتى انتصر. فهل أجمل من المعانقة الأنطاكيّة الروسيّة يوم تكريمك في قلب هذه اللحظة بالذات وعلى أرض زحلة جارة القمر والوادي؟ أنت بحقّ يا صديقي مؤهّل لأن تكون جسرًا من فكر ومعرفة لهذه النوعية الحضاريّة والعالية من الحوار والمعانقة.
في الذكرى الستين لرسامتك الكهنوتيّة صلينا ليكون الرب معك ويمكث فيك إلى الأبد. ألا أدامك الله على هذا البهاء المضيء، لتبقى سفير المحبّة إلى بلاد الثلج والقداسة، والمحبّة يا سيدي لا تسقط أبدًا.