كتب جبران خليل جبران عقب المجاعة التي ضربت جبل لبنان بفعل الحصار العثماني عام ١٩١٥ مقالاً بمثابة صرخة عنوانه "مات اهلي" لحثّ القوى الفاعلة على التحرك لما تعانيه جماعة بعينها من خطر الابادة. وفي العام ١٩٧٨ عقب الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان، اطلق سفير لبنان في الامم المتحدة غسان تويني صرخته الأخرى المدوية "دعوا شعبي يعيش"... وازاء هذه الازمات وأخرى مثيلاتها في التاريخ الحديث بقي الامل حتى في عزّ الحرب الاهلية بامتداداتها الخارجية بفعل الثقة لدى اللبنانيين ان وطنهم عصي على الموت وهو قادر على النهوض مجدداً لدرجة تشبيحه ب"طائر الفينيق". أما حالياً فيمرّ لبنان بمرحلة مأزومة حيث يشعر معها المواطنين بالاختناق بفعل الركود الاقتصادي ناهيك عن الضغوط التي يواجهها قطاعه المصرفي بفعل العقوبات المفروضة على "حزب الله" وبيئته من قبل وزارة الخزانة الاميركية، ما يعني ان لبنان يمر بحقبة الحرب الباردة تستوجب فعلاً خطة طوارىء لكن ما هو اخطر ويجب على المسؤولين العمل عليه هو ترميم جسور الثقة الهشة مع المواطنين بفعل اتهامات بالفساد بين القوى السياسية ما ادى ويؤدي الى توجّس المانحين من القدرة على الاصلاحات في زمانها المحدد وهذا يتطلب العمل بروح من المسؤولية والتضامن الوزاري بعيداً عن المناكفات النكدية واللعبة السلطوية خاصة في ظل حكم توافقي يشارك الجميع -كل حسب حجمه التمثيلي- في صياغة القرار. ففي كل دول العالم الديمقراطية، تتشكل معارضة في مجلس النواب وليس في مجلس الوزراء الذي يجب ان يمارس مهامه كسلطة تنفيذية فاعلة للسياسات العامة.
ان ما يمر به لبنان ليس اصعب من حالات دول كثيرة عرفت النمو على الرغم من ميزان مدفوعات خاسر وذلك بفعل استفادتها من الاستثمار الاجنبي المباشر. وهذه هي حال تركيا حيث وصلت نسبة الاستثمار الاجنبي من قبل الاتحاد الاوروبي ٥٨٪ عام ٢٠٠٥ لترتفع الى ٦١ ٪ عام ٢٠١٨ ما ادى الى انتعاش اقتصادي ملحوظ وتقدم لتركيا على خريطة موازين القوى الاقليمية.
يحتاج لبنان الى استثمارات في قطاعات انتاجية لتحقيق الانماء المتوازن وذلك يتطلب تغييراً في هيكلة الاقتصاد لكن يبقى العامل الاهم لتحفيز الاستثمارات الاجنبية هو استقلالية السلطة القضائية ونزاهتها فضلاً عن الشفافية في الادارات العامة ومكافحة الفساد والرشوة بشكل جدّي وابرز مثل يقدمه الحكام للمانحين وللشعب هو سلوكهم في ممارسة الشأن العام من عدم صرف نفوذ وانتفاخ بنمط العيش لدرجة السؤال "من اين لك هذا" حد التشكيك والاتهام دون محاكمة.
في العام ١٩٧٥، التاريخ الرسمي لاندلاع الحرب في لبنان كان دين الدولة بمثابة "صفر" ما يعني ان المشاكل الاقتصادية- الاجتماعية التي نعيشها اليوم هي ثمرة تراكم الفشل في ادارة الموارد وهذا ما يستوجب المعالجة الجذرية للمحافظة على المناعة الداخلية واستقلالية القرار السياسي في زمن التحولات الشرق اوسطية.