وفاء لذكرى أبو جودة والعويط: لقاء محبّة في الديمان
2019-08-25 11:06:16
نظّمت "رابطة قنّوبين للرسالة والتراث" بالتعاون مع "بيت مارون" في مطرانيّة قبرص المارونيّة وبرعاية البطريرك المارونيّ بشارة الراعي" لقاء المحبّة والوفاء" في حديقة البطاركة في الديمان، تكريماً لحافظ سر البطاركة الموارنة من العام 1975 إلى العام 2011 الراحل الخورأسقف ميشال العويط، واستذكاراً لمسيرة النائب البطريركيّ العام الراحل المطران رولان أبو جودة.
على مشارف الوادي المقدّس حيث لا مكان إلاّ لعمل الروح في الإنسان والأرض، وهو وادي الخشوع والزهد والفقر والتأمّل والتفرّغ للصلاة، وفي المكان الذي خطّ فيه "الخوري ميشال" كما كان يناديه الجميع كتابه " وادي قنوبين مدرسة حياة"، قدّمت جوقة أبرشيّة قبرص المارونيّة بلفتة خاصة من المطران يوسف سويف رئيس أساقفة الجزيرة والزائر الرسولي على اليونان، تراتيل وأناشيد روحيّة بقيادة رانيا نجار.
ضمن هذه المساحة الروحيّة حيث تستطيع الحّرية، حرية الإيمان والمعتقد والتفكير والرأي أن تجد مبتغاها وملاعبها مع النسور، وحيث المعابر الضيّقة والمخيفة التي وقفت حاجزاً في وجه جيوش الأتراك، وفي لقاء صادق وحقيقيّ، حضر لفيف من الكهنة والراهبات وفعاليّات عامة وإعلاميين، إضافة إلى عائلة العويط وأصدقاء الراحل، مؤكّدين فعل المحبّة والوفاء لحافظ السرّ البطريركيّ المارونيّ لأربعة وثلاثين عاماً، ولمن رافق معه مسار بطريرك الاستقلال الثاني الراحل نصرالله صفير في ثلاثيّة نادرة ومعبّرة المطران أبو جودة، وقد عُرض وثائقي عن سيرة النائب البطريركيّ بالصوت والصورة.
قدّم للأمسيّة أمين عام الرابطة ومنسّق نشاطاتها جورج عرب الذي أشار " إلى غياب ثلاثة من حرّاس هيكل البطريركيّة المارونيّة تباعاً: الخوري ميشال العويط المغرّد خارج الأسراب، والمطران رولان أبو جودة صيّاد القلوب، والبطريرك نصرالله صفير تاج الغائبين".
وقال:" شكّل الأعلام الثلاثة في تجربة تعاونهم معاً طوال ما يقارب 44 سنة، أعمدة أساسيّة في البناء البطريركيّ، وجاز القول في تجربتهم عنوان الوحدة في التنوّع مع كل ما تقتضي الوحدة من تواضع وتضحيات".
أضاف:" إذا كان الخوري ميشال فتح درب الغياب كما كان يفتح درب كل لقاء في بكركي أو الديمان، إلاّ أنّ الحرّاس إذ يغيبون فالذاكرة تبقى، وهو المتواضع على عبقريّة والوديع على وعي الأعماق، وقد حمل في حياته همّاً مثلّث الأبعاد هو هم تنشئة الإكليريكيين وهم التعليم المسيحي وهم خدمة الفقراء، فكان في الثلاثة حمّال سيف الموقف. وقد شهد على التقصير بألم غالباً ما ظلّ مكتوماً، عملاً بأمانته ولطاعته الكهنوتيّة ولقيمه الأخلاقيّة، فظلّ مخلصاً صامتاً صبوراً ساكناً ... وهكذا مضى".
نسيب العويط الوزير والنائب السابق بطرس حرب الذي لم يستطع المشاركة شخصيّاً بداعي السفر، ألقى عنه نجله مجد كلمة جاء فيها: "أَنْ يُشرفَني منظمو هذا الاحتفال بإلقاءِ كلمةِ وفاء للنسيب والصديق والمعلّم والمرشد، المرحوم الأب ميشال العويط، لهو مناسبةٌ لردِّ جميلِ من قضى حياتَه يَنشرُ الحبَّ والعطاءَ دون بدل، لمن قرَّر، منذ نعومة أظافره، أن يكونَ خادماً لمذبحِ الرب، وأن يتخلّى عن كلِ مغرياتِ الدنيا وكنوزها، لمعرفته أنَّ الكنزَ الحقيقي هو في الحياة الثانية، حيث لا حزنَ ولا دموعَ، وحيث الفرَحُ والنعمةْ والبركةْ".
أضاف:" لقد عَرفتُه منذ الطفولة، يومَ كان لا يزالُ أكليريكيّاً، بسببِ الرابطة العائليّة التي تجمعُنا. ولقَد عرفتُه عن قرب، لأنه أمضى معنا في تنورين فصولاً صيفيّة متتالية، أستاذاً مشرفاً على دروسنا الصيفيّة، ومرشداً روحيّاً لنا في فتوّتنا. ولقد اكتشفتُ منذ ذاك الوقت ما كان يحملُ هذا الإكليريكي الشاب من طهارةٍ وقداسةٍ ونبلٍ وترفعٍ وإيمان. لقد كان، منذ صِغَرِه، يسيرُ على خطى السيّد المسيح، رمزاً للقداسةِ والطهارةِ والترفّع، زاهداً بخيراتِ الدنيا وبأمجادِها، طامحاً برضى الله والآخرة الصالحة، وكان، في روحِه وفكرِه ومسلكِه، رمزاً للقداسةِ والطهارة والعطاء. لم يسعَ يوماً للحصولِ على مكسبٍ شخصي أو مركز، بل قضى حياتَه يُعطي دون حساب، يَبْذُلُ ذاتَه من أجلِ الكنيسة، يكرهُ الأضواءَ والضجيجَ، يستوطنُ الظلَ، مكتفياً بأداءِ الدورِ الذي ارتضاه.
وإن أنسى في ذكرى الوفاء له، فلا يمكنني أن أنسى فضلَه التربويّ والروحيّ والثقافيّ عليّ وعلى أشقائي. فهو، بالإضافة إلى والدتي، من عَرَّفَنا على معاني ومضامين الديانة المسيحيّة، ورسّخ انتماءَنا إلى الكنيسة، وهو الذي حوّل عائلتَنا وبيتَنا إلى بيتِ صلاةٍ مسائيّة، حيث كان يجمعُنا مساءَ كلِ يوم، كعائلة مسيحيّة مؤمنة، لنصلّي ونرتّل للسيدة العذراء، وننشد أحلى الأناشيد، ولا سيما " يا أم الله ".
وأكمل حرب مشيراً إلى أنّه" لما تمَّ رسمُه كاهناً، لم تنقطع علاقتي به، بل استمرتْ متينةً كالماضي، وأخذتْ منحى أكثرَ عمقاً بعد تولّيه أمانة سر أبرشية طرابلس في عهد المثلث الرحمات المطران أنطوان عبد، وانتقالِه بَعْدَها إلى أمانة سر البطريركيّة المارونيّة، حيث برزتْ شخصيّتهُ وكفاءتُه ووفاؤه وترفعُه ودبلوماسيتُه، وقدراتُه الهائلة على حفظِ أسرارِ الصرح البطريركي، المؤتمن عليها طيلة أربعة وثلاثين عاماً. ولا أخفي اليوم، أنني حاولتُ أكثرَ من مرّة معرفةَ خبرٍ أو سرٍ يتعلق بشؤون الطائفة، كمجرياتِ إنتخابِ البطاركة مثلاً، مستفيداً من علاقاتِ القربى والصداقة والمودّة، ومن موقعي كمسؤولٍ ماروني في الدولة، فكان الخوري ميشال بئراً عميقةً يستحيل كشف خباياها، متكتّماً على كل ما اؤتمن عليه ونافياً لصحّة أي خبر سرّبه الآخرون ". واعتبر حرب أنّه "في هذا ما يفسِّر سببَ تعيينه المتكرّر أميناً لسر البطريركيّة، إذ أنَّ ما يجهلُه الكثيرون، أنه عندما اُستدعي الخوري ميشال للإطّلاع بأمانةِ سرِ المجمع الذي انتخب المثلث الرحمات البطريرك خريش عام 1975، قرر البطريرك المنتخب تعيينه أميناً لسرِ البطريركيّة لأنه، حسبَ قولِ البطريرك خريش " الوحيد بين المشاركين في المجمع الذي بقي حافظاً للسر، ولم يَبُحْ بكلمةٍ واحدةٍ عما جرى من وقائعِ الجلسات ومجرى الانتخاب "، وهو ما دعا بطريرك الاستقلال الثاني، المثلث الرحمات البطريرك صفير، إلى رفض استقالته يوم انتخب وإلى إبقائه في موقعه". وتطرّق إلى "خِصالهِ الروحيّة والأخلاقيّة، وبسبب إيمانه العظيم بالله وبالكنيسة وبدور البطريركيّة المارونيّة، نَمَتْ لديه شجاعةٌ معنوية مَكَّنتْه من مواجهة موجتيْ الاعتداء التي تعرّضتْ لها بكركي، بالوقوف درعاً واقية للدفاعِ عن كرامة سادة بكركي وحريتهم، يومَ تطاول بعض المهووسين، المُسَيّرين من زعمائهم على سيّد بكركي، شتماً وإهانة واعتداءاً جسديّاً، بهدف إسكاتهم عن ارتكاباتهم بحق الوطن والمسيحيين، فصمد الخوري ميشال إلى جانب البطاركة، غيرَ عابئٍ بالخطر الذي عرَّض نفسه إليه.
إلا أنَّ مهامَ الخوري ميشال العديدة والخطيرة لم تُقْعِدْه عن نشر فكرِه الديني والوطني، إذ أنه، وبالرغم من أنّه لم يعبِّرْ يوماً عن رأيهِ بتصريحٍ أو مؤتمر، عمد إلى الكِتابةِ والتأليف، ونشرَ معتقداتِه ومخاوفَه وآمالَه وطموحاتِه. فألّفَ الكتبَ، وترك المخطوطات الدينيّة، تعبيراً عن ما يختلج في أعماقه من مخاوفَ، ونصائحَ حول الوجدان الماروني والتعليم المسيحي ووادي قنوبين، ولعلَّ أكثرَها عمقاً وجدلا، ً كتابُ " ملح الأرض ، الذي أثار عاصفةً في صفوفِ أمراء الكنيسة المارونيّة، حيث اعتبر بعضُهم، أنّ فيه إنتقاداً لأدائهم المنحرف عن حياة الموارنة الأُوْلَ، الذين ساروا على درب الرسل، وكتابُ، "الموارنة من هم وماذا يريدون "، وكتابه الأخير"، وصيّتي إلى الموارنة"، الذي يشكّلُ بنظري صرخةَ ضميرٍ لإيقاظِ من أَعْمتهم المصالح الشخصيّة عن مصالحِ الطائفة، والذي دعا فيه الموارنة، الذين عاشوا الكثيرَ من الخيبات، إلى النهوضِ والخروجِ من المأزق الذي يتخبّطون فيه، وإلى استرجاعِ روحِ وادي قنوبين، الذي نحتفل اليوم على مشارفه، لأنّ خروجَهم عن دورِهم في لبنان والشرق والعالم، يوقعهم في الظلمةِ، ويرميهم في المنزلقات الخطيرة...
ولقد أعمت الكثيرين من الموارنة أمجادُ الدنيا، فَغَفلوا عن معنى الرسالة والشهادة، وتناسى الكثيرون منهم، أنّهم لا يمكنهم أن يعبدوا ربّين، وأغوتهم شياطينُ الثرواتِ والكراسي والمناصبِ والأمجاد. ودعاهم إلى أن يكونوا شركاءَ في الثورة على ذواتهم، وعلى كراسيهم، وعلى مؤسّساتهم، وعلى واقعهم الديني، والسياسي والمجتمعي، وأن يُعلنوا العودةَ إلى الينابيع، إلى وادي القديسين"...
وختم حرب قائلاً: "هذا هو الكاهن الذي نلتقي حول ذكراه ومن أجل ما قام به يستحق تحيّة وفاء. وإن كان لكلِ وجودٍ نهاية، ولكلِ دورٍ خاتمة، إلا أنَّ لظروفِ الانسحاب أثراً على حياة الناس، ولا سيما كبارهم. فهناك إنسحاب مع التقدير والتكريم والاحترام وعرفان الجميل، وهناك إنسحاب فارغ المضمون، تمليه المتغيّرات والتطوّرات التي لا تتأثر بالعوامل الإنسانيّة والعاطفيّة، وهي سمة الطبيعة والحياة، لا لومَ فيها على أحد. إلا أنّ الخوري ميشال، الذي أخلى الساحةَ للأجيالِ الجديدة، أَسْدَلَ السِتار على تاريخٍ من الأصالة والتقوى والتواضع والتقاليد والعادات التي اشتهر بها صرحُ البطريركيّة المارونيّة عِبْرَ القرونِ والأجيال، فغاب معه عن هذا الصرح الديني والوطني تراثُ الآباء البطاركة الذين ناضلوا واستشهدوا لكي يبقى لبنان موئلاً للأحرار، ولا سيما حريّة المعتقد والضمير. وأملُنا كبير في أن يبقى الصرح البطريركي رمزاً للنضال والحقيقة والكرامة والحرية، وإن تبدّلتْ الأشكالُ والأساليبُ مع تَبَدُّلِ الأزمان. فيا أبونا ميشال، كنت، وستبقى، صديقاً ومعلّماً ورمزاً وقدّيساً في ذاكرتنا، كما ستبقى في ضمير الأمّة والموارنة صورةً مشعّة بالقداسة والوفاء، ودافعاً لليقظة والعودة إلى الأصالة، فرحمة الله عليك.
واسمحوا لي ختاماً، أن أتوجه إلى منظّمي هذا الاحتفال بالشكر الجزيل، لأخذهم مبادرة تكريم كبيريْن من كنيستنا المارونيّة، المثلث الرحمات الصديق المطران رولان أبو جوده، والمرحوم الخوري ميشال العويط، في إطار تحيةِ وفاءٍ لهما، وكلاهما طَبَعَا، بشخصيتهما ودورهما، تاريخ البطريركيةّ المارونيّة، ما أهّلهما للخلود بين القّديسين، طالبين إليهما أن يصلّيا من عليائهما لأجلنا ولأجل لبنان، لتَحلَّ بيننا أعجوبةُ عودةِ المسؤولين إلى الضمير والوطنيّة والأخلاق، ليبقى لبنان وقيمُه ومسيحيوه".
بعد كلمة حرب، قدّمت "رابطة قنوبين للرسالة والتراث" مجسّمين تذكاريين ليعرضا في بيت الذاكرة والأعلام في الوادي المقدّس للمطران أبو جودة والخوري العويط، في مرافقة تراتيل وأناشيد دينيّة من جوقة أبرشيّة قبرص المارونيّة، ليلقي رئيس "اللجنة الوطنيّة اللبنانيّة للأونيسكو" والمدير العام ل"مؤسّسة الفكر العربي" البروفسور هنري العويط كلمة العائلة.
قال العويط:" شاءت "رابطةُ قنّوبين للرسالةِ والتراث"، بالتعاون مع "بيت مارون" في مطرانيّة قبرص المارونيّة، توجيهَ تحيّةِ محبّةٍ ووفاء للمطران رولان أبو جودة والخوري ميشال العَويط، ستليها في منتصف أيلول تحيّةٌ مماثلة للبطريرك الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير. يحتاجُ استعراضُ علاقاتِ التعاونِ المثمرِ والبنّاء التي قامت بين هذه الشخصيّاتِ الكنسيّةِ الثلاث، الذين عاشوا معاً ورحلوا معاً، إلى دراسةٍ مستفيضة ومستقلّة. حسبيَ في هذه الأمسية، ومن وحي الاجواءِ الروحيّةِ والثقافيّةِ التي اختار المنظّمون أن يضفوها على هذا اللقاء، أن أشاركَكم فقط بعضَ الخواطرِ والتأمّلات في سيرةِ الخوري ميشال ومسيرته".
أضاف:" كان الخوري ميشال واعياً بعمق حاجةَ الرعايا وأبنائها عموماً، والشباب منهم على وجهِ الخصوص، إلى سَماعِ بشرى الانجيل، وكان مُدركاً أنّ مواهبَ الروح التي يعدّدها بولسُ الرسول ترتّبُ على مَن نال عطيّةَ كلامِ المعرفةِ والحكمة مسؤوليّةَ نشرها. وهذا ما سعى إلى تحقيقِهِ في المؤلّفاتِ التي أثرى بها المكتبةَ العربيّة، وقد بلغ عددُها سبعةً وعشرين كتاباً.
ولطالما أثارت غزارةُ إنتاجه تعجّبَ مَن كان يعرِف حجمَ المهامِّ التي كان يقومُ بها في الصرحِ البطريركي، ودقّةَ المسؤوليّاتِ التي كان يضطلعُ بها. ويُجمعُ الأساقفةُ الذين قدّموا لكتبه على التنويهِ بما امتازت به كتاباتُه من بساطةٍ ووضوحٍ في الشرح، وسلاسةٍ وشفافيّةٍ في التعبير، جعلتها في متناولِ الجميع، فضلاً عن استنادها الدائمِ إلى الكتابِ المقدّس، وذلك بهدفِ مساعدةِ قرّائها على التعرّفِ مباشرةً على الله وشخصِ المسيحِ ورسالته، انطلاقاً من الأناجيل. ولم يكن هذا التوجّهُ وليدَ نقصٍ في المعارف أو عجزٍ عن الغوصِ في الحقائقِ الإيمانيّة والتعمّقِ في عرضها، بل هو نابعٌ من يقينه بأنّه ينبغي للمعلّمِ الأمين أن يتحلّى بالتواضع، وأن يتشبّهَ بيوحنّا المعمدان، فيختفي ليظهرَ وجهُ المسيح ويشِعَّ نورُ تعاليمه، وألّا يكونَ كلامُه البديلَ الذي يحجُب، بل الدليل الذي يُرشدُ ويقود إلى المصدرِ الأصيل".
وشرح العويط كيف " افتُتِن الخوري ميشال باكراً بما يتمتّعُ به وادي قنّوبين من سحرِ جمالاتٍ طبيعيّةٍ خلّابة، وتأثّر بما تنطوي عليه قاديشا، وادي القدّيسين، من تقاليدَ نُسكيّة، وبما تختزنه من أبعادَ روحانيّة. فمن الشرفةِ المعلّقةِ على شفا الوادي السحيق، في البيتِ الحصرونيِّ الذي كان يستضيفُه في فصلِ الصيف، ثمّ في مرحلةٍ لاحقة من شُرفةِ الصرحِ البطريركيِّ في الديمان، كان لا يَمَلّ من تكحيلِ ناظريه بما أبدعته يدُ الخالق، ومن التأمّلِ الخاشعِ في سيرةِ من ضمّخَ إيمانُهم وزُهدُهم وتعبّدُهم المغاورَ والكهوفَ بعَبَقِ القداسة، وطَبَعَها بمِيسمِ الشهادة. وقد سكبَ عُصارةَ التأمّلاتِ التي أوحتها له علاقتُه المديدةُ بالوادي، وقراءتُه النافذةُ لتاريخهِ وتراثه، في الكتابِ الذي أصدره واختار له العنوانَ المعبّر "وادي قنّوبين: مدرسةُ حياة".
وشدّد العويط على أنّ " الخوري ميشال لم ينخرط يوماً في حزب، أو يُناصر تيّاراً، أو يتعاطَ السياسةَ بمفهومِها اللبنانيّ الشائع. ولكنّه كان معنيّاً حتّى الصميم بالشأنِ العامّ، وقضايا الوطنِ المصيريّة، ودورِ الموارنةِ فيه. وقدّرَ له، من موقعهِ الحسّاس في الكرسيّ البطريركي، أن يجالسَ كبارَ المسؤولين والقادةِ والزعماء، لبنانيّين وعرباً وأجانب، وأن يطّلعَ، لا على وقائعِ ما عصفَ بلبنان من حروبٍ وأَزَمات، وما شهدته الساحةُ المسيحيّةُ من انقساماتٍ ونزاعاتٍ فحسب، بل أيضاً على أسرارِها وخلفيّاتِها وأبعادِها، وأن يلمِسَ لمسَ اليد ما يُفضي إليه حبُّ السلطة وشهوةُ الاستئثار وتغليبُ المصالحِ الفئويّة والأنانيّاتِ الذاتيّة من مآسٍ ومِحَنٍ وويلات.
وهذه الخِبرةُ الاستثنائيّةُ سمحت له أن يكتشفَ ميدانيّاً مرجعيّةَ بكركي ودورَها الوطنيَّ الجامع وثوابتَ رسالتها التاريخيّة، فألّفَ في هذا الباب كتابَه التوثيقيَّ الأنيق "البطريركيّةُ المارونيّةُ تاريخٌ ورسالة". وسمحت له أيضاً أن يُصدرَ سلسةَ كتبٍ حول الموارنة، افتتحها ب "الموارنة ضميرُ الكنيسة"، ثمّ أضاف إليها "الموارنةُ مَن هم وماذا يريدون؟"، وتوّجها بكتابه الأخير "وصيّتي إلى الموارنة". ونظراً إلى شخصيّةِ مؤلِّفه ومنصبه، والصدقِ الذي يرشَحُ من كلِّ كلمةٍ فيه، وما يمتازُ به من دقّةٍ في التوصيف، وعمقٍ في الأطروحاتِ والرؤى، وجُرأةٍ في المواقف، حظي هذا الكتابُ بتغطيةٍ إعلاميّةٍ واسعة، تجلّت في القائمةِ الطويلةِ والمنوّعةِ من الافتتاحيّاتِ والدراساتِ والمراجعاتِ التي خصّهُ بها عددٌ من كبارِ الإعلاميّين ورجالِ الفكر. وقد كان صاحبُ الغبطة في طليعةِ الذين أشادوا بعطاءِ المؤلِّف وقيمةِ مؤلَّفه، مختتماً الكلمةَ البليغةَ التي صدّر بها الكتاب، بهذه الشهادة:" أملُنا ودعاؤنا أن يدخلَ هذا الكتاب كلَّ عائلةٍ مارونيّة، حيثما وُجِدَت، لكي نظَّل كلُّنا في مجتمعاتنا شهودَ إيمانٍ ورُسُلَ حريّة".
أكمل العويط قائلاً:" لا يتّسعُ الليلةَ المجال للإفاضةِ في عرضِ مضامينِ مؤلّفاتِ الخوري ميشال. حسبي الإشارة إلى أنّها، وبالرَّغمِ ممّا تتّسمُ به من تعدّدٍ في الموضوعات وتنوّعٍ في المقاربات، تُجمع كلُّها على إبرازِ أهميّةِ الجذور التي تنتمي الكنيسةُ المارونيّةُ إليها، وعلى الدعوةِ المُلِّحةِ للعودةِ إليها. وفي رأسِ هذه الجذور ارتباطُها العضويُّ بالمسيح، والتأمّلُ في بشارته الإنجيليّة، والاقتداءُ بسيرةِ المسيحيّين الأوائل.
وما انفكّ الخوري ميشال يحثُّ الموارنة على ضرورةِ الوفاءِ بمقتضياتِ الرسالةِ التي أطلقها مارونُ الناسك، أبو الطائفةِ ومؤسّسُها، وذلك من خلالِ التمسّكِ بالتعاليمِ والمبادئِ التي نشرها، والتمثّلِ بالنهجِ الذي اختطّه. وفي هذا السياقِ نفسِه تندرجُ دعوتُه إلى إحياءِ تراثِ قنّوبين والنهلِ منه، باعتباره الاختبارَ الروحيَّ الأصفى والأعمقَ والأغنى في تاريخِ كنيستنا".
وشرح العويط كيف "اقترنت دعوتُه للعودةِ إلى الجذورِ الروحيّةِ بما كان يغمرهُ من راحةٍ وفرحٍ ورضى كلّما عادَ إلى جذورِه الجغرافيّةِ في مسقطه. فقلّما كان الخوري ميشال يغادرُ الصرحَ البطريركي، مُصرّاً على ملازمةِ سيّده حتّى في الأعيادِ التي يلتئمُ فيها شملُ عائلتنا، فصار جُزءاً من بكركي، ولذلك أثارت طريقةُ خروجه منها أكثرَ من علامةِ تعجّبٍ واستفهام. ومهما يكن من أمر، فإنّه دأبَ، طيلةَ فترةِ تقاعده، على قضاءِ فصلِ الصيفِ في قريتنا الوادعةِ بزيزا، التي فيها أبصر النور، ومن نهرها استقى فيضَ ما امتاز به من عطاءٍ مجّانيٍ، بغير مِنّةٍ ومن دون حساب، وقد استمدّ من سهولِ زيتونها رحابةَ الفكرِ والآفاق، ومن أعمدةِ قلعتها الرومانيّةِ الصلابةَ والشموخ، ومن تنوّعِ طوائفِ أبنائِها وتآلفِهم قِيمَ الانفتاحِ، والأخوّةِ، والتسامحِ، والحرصِ على العيشِ المسيحيِّ – الإسلاميّ الواحِد المشترَك. هذا الإلحاحُ في التذكيرِ بجذورِ الكنيسةِ المارونيّة الثلاثة، ليس من قَبيل النوستالجيا، بل مردُّه إلى اقتناعهِ الراسخ بأنّ في العودةِ إليها تجديداً للإيمان وتنقيةً للذاكرةِ والهويّة. وهذه الدعوةُ للعودةِ إلى الأصول هي أبعدُ ما تكون عن الأصوليّةِ المتحجّرةِ الجامدةِ والمنغلقة. إنّها دعوةٌ للعودةِ إلى الينابيع التي هي بطبيعتها حيّةٌ ومحيية، متجدّدةٌ ومصدرُ كلِّ تجديد".
وتطرّق إلى العلاقة المميزة القائمة بين الخوري ميشال ورابطةِ قنّوبين للرسالةِ المبنيّة على وحدةِ الرؤية، "وقد استوقفني في الدعوةِ التي وَجَّهتها، عنوانُها: "لقاءُ المحبّةِ والوفاء". فدعوني أعترفُ بكلِّ صدقٍ وبعيداً عن المجاملات أّننا نقدّرُ عالياً مبادَرَتها إلى تنظيمِ هذا اللقاء، ودعوني أشكرُ بحرارة صاحبَ الغبطةِ والنيافة الذي شمله برعايته الأبويّة، وانتدبَ سيادةَ المطران يوسف سويف. ويطيبُ لي أن أشكرَ أيضاً لفيفَ الأساقفةِ والكهنةِ والراهباتِ الذين جسّدَ حضورُهم الليلةَ بيننا، مع جمهورِ الأصدقاءِ والأحبّة، صورةَ الكنيسة كما كان الخوري ميشال يحبّها، عائلةً واحدة تضمُّ الإكليروسَ والعلمانيّين. واسمحوا لي أن أخصَّ بالشكر سيادةَ المطران يوسف سويف، راعي أبرشيّة قبرص المارونيّة، و"بيت مارون"، وجوقةَ المطرانيّة التي أشاعت تراتيلُها السريانيّةُ والبيزنطيّةُ، بقيادةِ السيّدة رانيا نجّار، روحاً مسكونيّةً كان الخوري ميشال من دعاتها. وإن أنسى فلا يسعني أن أنسى توجيهَ عاطفةِ شكرٍ ومحبّة إلى معالي الشيخ بطرس حرب على الكلمةِ المؤثّرة التي أعدّها وألقاها باسمه نجلُه الأستاذ مجد، وإلى سعادةِ الأخ العزيز جورج عرب، على ما كان يحيطُ به الخوري ميشال من مشاعرِ الودِّ والتقدير، وإلى أعضاءِ الرابطةِ الكرام على الجهودِ التي بذلوها لإعدادِ هذا اللقاء ولإنجاحِهِ".
العويط قال أبضاً:" يعرف القاصي والداني أنّ الخوري ميشال كرّس نشاطَه وفكرَه، قلبَه وعقلَه، على مدى ستّين عاماً ونيّف، لخدمة الكنيسة، في أبرشيّةِ طرابلس المارونيّة أوّلاً، ثمّ في الكرسيّ البطريركيّ، بتفانٍ وأمانةٍ وتجرّدٍ وحكمةٍ قلَّ نظيرُها. وفي هذا الزمنِ الذي عزَّ فيه الوفاء، ونَدَرَ الأوفياء، تكتسبُ مبادرةُ رابطةِ قنّوبين دلالةً خاصّة، لأنّها توفّي، ولو بصورةٍ رمزيّة، بعضاً من الكثيرِ الذي تدينُ به كنيستُنا بل يدينُ به لبنان، للخوري ميشال. فشكراً للداعين إلى تحيّةِ الوفاءِ هذه والمشاركينَ فيها، وبورك بالأوفياء".
وختم قائلاً:" أمّا كلمتي الأخيرة، فهي عن المحبّة. نَشأَتْ بين الخوري ميشال والكتابِ المقدّس علاقةٌ يوميّةٌ وحميمة. ولكنّي لا أذيعُ سرّاً إذا ذكرتُ أنّ نصوصَه التي تناولت موضوعَ المحبّة كانت الأثيرةَ لديه، فينتقي منها القراءاتِ التي تُتلى في المناسباتِ الدينيّةِ الخاصّة التي يحتفلُ بها، ويُكثر من الاقتباسِ منها في العظاتِ التي يُلقيها، وفي طليعةِ هذه النصوص التطويباتُ، وما ينقله لنا متّى عن لسانِ المسيح في تحديده المحبّة بأنّها الوصيّةُ الكبرى والأولى، وما يذكره يوحنّا حول الوصيّةِ الجديدة التي أعطاها المسيحُ تلاميذَه في خطبة الوَداع، ونشيدُ المحبّةِ الرائع الذي تركه لنا بولس في رسالته الأولى إلى أهلِ قورنتس.
وقد صاغ من هذه النصوص الدستورَ الذي التزم بأحكامه، قولاً وممارسة، فلم ينبِضْ قلبُه بسوى الحبّ، ولمْ يخطَّ قَلمُه إلّا ما يدعو إلى الشراكةِ والوئام. "الله محبّة"، هذا هو أحدُ تعريفاتِ يوحنّا الثلاثة الشهيرة لله، وهذا هو بالذات الشعارُ الذي اختاره الخوري ميشال لسيامته الكهنوتيّة، وطَلَبَ أن يُطرَّزَ على البدلةِ التي أقام بها قدّاسَه الأوّل. ولم تكن المحبّةُ عنده مجرّدَ شعار، بل هي الأساسُ الذي بنى عليه إيمانَه الوطيدَ بالمسيح، ومحتوى الرسالةِ التي حملتها جميعُ مؤلّفاتِه، وجوهرُ الشهادةِ التي أدّاها على امتدادِ حياته الكهنوتيّة، كما يليقُ بالكاهن، بل بكلِّ مسيحيٍّ أن يعيش: طاهرَ القلبِ، نقيَّ السريرةِ، عفيفَ السيرةِ واللسان، شاهداً لمحبّةِ المسيح. فدعونا نعلن مع الخوري ميشال ما كان يحلو له أن يردِّدَه:"حياتي هي المسيح. ما أجملَ الحياةَ في المسيح"!!
رئيس أساقفة قبرص والزائر الرسولي على اليونان المطران يوسف سويف نقل تحيّات البطريرك المارونيّ الذي مثّله بداعي السفر، وألقى كلمة جاء فيها:" ثلاثة عاشوا معاً ورحلوا معاً. البطريرك صفير والمطران أبو جودة والخوري ميشال وقد أتمّوا السعي وسلّموا الوديعة".
أضاف قائلاً:" أؤدّي بعاطفة هذا المساء على مشارف وادي القدّيسين شهادة شخصيّة وكنسيّة في الخوري ميشال. في إنسان عرفته منذ صباي في بلدتي شكا مع جيرة عائلته الصديقة، وفي مسقط رأسه بزيزا، وفي أبرشيّة طرابلس المارونّية. شخص تطبّع على الخدمة المميّزة، الدقيقة والكبيرة، البسيطة لكن العميقة، أمين سر البطريرك صفير، وهو موقع بموقع البطريرك".
سويف أشار:" مع الخوري ميشال أقول:" السماء والأرض تزولان وكلامي لا يزول". واعتبر أنّ الراحل " هامة كبيرة في التواضع والخدمة. خطيب بقلّة كلامه وعمق قلمه. شهد للكلمة الاله نور العالم، عبر الكرازة والتتلمذ الدائم، فكان الباحث عن معنى الكلمة وقد شرحها ببساطة وعمق. وأراد أن يقرأ ماضي أبناء مارون ليضيء على حاضرهم بموضوعيّة ومسؤوليّة لكي يلتقي الباطن بالظاهر، ويُخلق الانسجام وتتّم المصلحة، وإلاّ كانت دينونتنا عظيمة من الزمن وسيّد الزمن".
وختم قائلاً:" الخوري ميشال إسم لا ننساه، وصفة روحيّة، كنسيّة وإنسانيّة وعلميّة مميّزة...يبقى في القلوب والأذهان حيّاً".
وفي المناسبة، منحت البطريركيّة المارونيّة الأخت مريم النور – أنطوانيت العويط وسام "سيّدة قنوبين"، وزرعت أرزة في حديقة البطاركة باسم كل من المطران أبو جودة والخوري ميشال وفاء لذكراهما.
وكالات