"وأراني نهر ماء الحياة صافيًا كالبلّور خارجًا من عرش الله"
(رؤيا 22 )
تحرّك فيك الحقّ باكرًا باكرًا يا أنطوان، فدفعك نحو الجهاد واندفعت لتظهره مسرى قيامة لنا. لا سجن ولا اضطهاد ولا عفونة التاريخ المتكلّسة في لبنان منعتك من الصراخ وتبيان ما لديك من فكر حرّ مستقيم ومستنير. لقد أدركت أن لا فرق بين الحريّة والحقّ والمحبّة، إنه الثالوث المتكوّن من الله، وقد أراك سيدك وربّك نهر ماء الحياة صافيًا كالبلور خارجًا من عرشه، لينساب في أعماقك فيصير فيك ينبوع خير ارتوينا منه فرأينا مجد الثالوث المتجلّي فوق جبال لبنان وسهوله وهضابه، ذلك أن الحريّة تجيء من الحقّ لأنها تعرفه وكلاهما ينتميان إلى المحبّة لأن الله محبّة، وليس من نضال وجهاد صارخين بلا محبّة عمّقت فيك الانتماء الصافي والصادق.
كنّا نخاف عليك من مظالم نظام لم يعرف الحقّ فيك. كنت ورفقاءك تعلون شيئًا فشيئًا من ترابيّة هذا العالم. لم يأسرك شخص بقدر ما اهتميت لقضيّة توضّحت أمامك، فالقادة عندك إما أنقياء وأصفياء وأبرار تسطع من عيونهم أنوار كاشفة لذهب التاريخ المشتهى والمرتجى تجسيده وترسيخه في الزمان الحالي وفي الآتيات من الأزمنة المقبلة، فتتحرّك إنسانيّة الإنسان في معارج التوق إلى تكوين جديد، فيصير اللبنانيون به خليقة جديدة ينتظمون في دولة تعبّر عن هويتهم بلا زيف ولا زيغ، وإلى وطن تتمثّل فيه معاني الكرامة ومعالم الشرف وحقيقة السيادة وصلابة الهويّة، وهذا يستدعي في قراءتك الصادقة إخلاصًا ووفاءً. وإمّا مخادعون دجالون، يستغلّون وجع الناس وجوعهم وأحلامهم وتطلّعاتهم، فيستهلكونها ويتسلّقون على سلالمها ويتعمشقون على أعمدتها، بهدف الوصول إلى السلطة، فتصير السلطة عندهم، مصدرًا للكسب الرخيص والرزق الحرام على حساب الناس والفقراء ومن جيوبهم الفقراء.
في مطالع التسعينيات، من القرن المنصرم كان تلاقينا. كان جيلنا يا أنطوان حالمًا، وما كنا نهوى الصمت الحرام. أجمل ما فيك، يا صاح، صدقك مع نفسك ومع الآخرين. وأنبل ما فيك، يا حبيب، وفاؤك الكبير لقائد نفي ظلمًا إلى الخارج، واشتهيته غير مرّة "المنقذ من الضلال"، والمحرّر لوطن الأرز، وأرقى ما فيك، يا صديقي، إيمانك المطلق بالمسيح مخلّص العالم، ورأيته في الفقراء والأذلاّء وعاينته في وجوه المكلومين وعاينته نورًا يشعّ من عيون المظلومين. كان رفيقك في المواجهات القصوى، ولسانك في المقارعات الكبرى. هذا أوتيته يا أنطوان لأنّ ثمّ "دمًا كهنوتيًّا"، سرى قديمًا في عائلتك، والدم الكهنوتيّ ليس محصورًا في الكهنة اللابسي الثوب، في كلّ مؤمن قال ويقول الحق، فيتشح بالضياء على قاعدة أننا "أمّة مقدّسة كهنوت ملوكيّ". هذا انغرس فيك وجبلت به، فكان صراخك يعلو فوق عصيّ القوى الأمنيّة التي كانت تلاحقك من مكان إلى مكان، وأنت عصيّ عليهم لاهمّ لك سوى أن يتحرّر لبنان ليس من وصاية واحدة بل من كلّ الوصايات المقوّضة لحدوده والمحجّمة لحضوره والمدمّرة لسيادته. في هذا يا أنطوان كنت حادًّا وقاسيًا. في مراحل كثيرة تناقشنا وأحيانًا قليلة علت أصواتنا، ولم يفسد الخلاف حيث وجد في الودّ قضيّة. الجميل في كلّ ذلك أنّ الفكر كان نبراسنا، والكلمة كانت معراجنا. كان الفكر يا أنطوان يحشرنا لنلقاه مديدًا فينا عميمًا فيما نرنو إليه. وحين كان الصوت يعلو كنت تنظر في عينيّ وتقول لي بصدق: أطهر ما فيك يا جورج قلمك الحرّ، وأجمل ما عندك صوتك النابض بالحقّ، وأحلى ما فيك قلبك الطيب وأرقة ما في داخلك تصرفك النبيل ووفاؤك لمن تحبّ. إنشاء الله من تحبّهم يقدّرون جهودك وتضحياتك". ثمّ أنظر إلى عينيك وأجيبك "يا أنطوان أنت الراقي لأنك ترى أصدقاءك على هذا الرقيّ، ما أسبغته عليّ هو منك وفيك، وليس لنا كلانا فضلاً فيه لأنّ الله زرعه فينا مدى لقاء ومحبّة، وأنا لا أنتظر أن اقابَل كما أقابِل، بل أنتظر رحمة الله على لبنان ومحيطه ليخرج من محنته، فأزمتنا ليست مكنونة فقط في الداخل بل في استهلاك الخارج للداخل وقبول الداخل ان يكون ورقة أو مجرّد ورقة في يد الخارج". لقد افقنا معًا على أن لبنان لم يتحرّر بعد من الوصايات، لأنّ شبكتها مزروعة في نظامه، ولا خلاص لهذا النظام إلاّ حين يتمّ سحق هذه المنظومة الفاسدة، والنضال سيبقى طويلاً حتى تحقيق هذه الرؤية. ولكنّنا في النهاية اتفقنا بأن لبنان لا يمكن أن يكون معصومًا عن سياقه المشرقيّ الكبير، فاللبنانيّة رافد حقيقيّ من روافد المشرقيّة.
أنطوان الحبيب، ما آلمني كثيرًا، بأن زمانًا طويلاً مضى ولم نلتقِ. عمره ستّ سنوات. صعقني خبر رقادك، وكنت أستقصي اخبارك من أصدقاء وأحباء مشتركين بيننا. كنت ألتقط أويقات كثيرة، وألتمسها لكي نتعمّد اللقاء، ونستعيد الاحتدام الفكريّ، وكم كان طيّبًا وصادقًا فيما بيننا. تظلمنا الحياة كما الموت، ونحن نكافح ونجاهد لنحيا ونبقى، لكن ثق، يا حبيب، المحبّة أقوى من الموت. صرعنا رحيلك المبكر، وأعيننا على الطفل ادونيس، وقد أسميته أطال الله بعمره على اسم أخيك الراقد، وفاء منك له، كما فعلت أنا حين أسميت ولدي أطال الله بعمره على اسم أخي الراقد فادي. لقد جمعتنا القيم الطيبة، وآثرت أن تمنح الاسم هذا لابنك ليقينك أيضًا بأن أدونيس رمز للنصر والحياة، والفداء مع اسم ولدي طريق للنصر والحياة، بربّك هل أجمل من ذلك؟
صرعنا رحيلك، ولكنّا مؤمنون بمجد القيامة ينهمر عليك يوم عرسك هذا. إنه عرسك مع المسيح الظافر، ولساننا يصرخ مع بولس الرسول: "أين شوكتك أيها الموت، اين غلبتك أيها الجحيم؟". ستعلو كثيرًا كثيرًا لينتهي التراب فتبدو قامة من ضياء. ستبدو من الآن مولودًا من النور وفي النور.وإذا في لحظة الرضاء أن ننظر إليك فسنرى النور فيك، هكذا نكون على صورة المسيح المنتصر، وأنت حبيبه منذ الابتداء.
يا أنطوان لقد أثقلتنا المشقات وأحيانًا كثيرًا نرجو الرحيل إلى وجه الله، لأننا ضقنا ذرعًا منن أوساخ وأقذار ونفايات محيطة بنا، وعلى الرغم من ذلك فالمواجهة الحقّ رسالة إلهيّة إذا جعلنا يد الله بيدنا لأننا نحن نستكتب ولا نكتب. حزننا عليك ليس ناتجًا من قلّة إيماننا، بل لأنك، وكما قالت فيروز العظيمة بلسان الرحابنة: غادرتنا على غفلة من دون خبر". سنشتاقك في دنيانا مجاهدًا ومناضلاً ورفيق درب، ولكنّنا واثقون أن بهاء التاريخ الملقى عليك وعلى كلّ الأبرار طريق إلى البهاء الأعلى في ملكوت المحبّة.
إذهب واعلُ ولا تتوقّف. فعلى الأرض كان نهر الحياة فيك صافيًا كالبلور، وفي رحلتك المطيّبة بالنعمة والحقّ، ستكتشف أنّ هذا النهر ما هو سوى نور يسوع المخلّص. ألا أعطاك ربّك أن ترتاح فيه، وأعطانا أن نبقى أمناء على إرثك الطيب المجيد. والسلام عليك في ميلادك الجديد.