كتب انطوان فرح في صحيفة “الجمهورية”: يبدو التوقيت مثالياً لشلّ عمل الحكومة وتوتير الأجواء، وفرض ظلال من الغموض في شأن مصير الموازنة. تجيء هذه التطورات في نهاية مسارٍ من الانهيار غير المُعلن، كان يحتاج الى هذه “الدفشة” الإضافية لكي يدخل في مرحلة الإعلان الرسمي.
كثيرون لا يفقهون مفهوم الانهيار وتعريفه، ويعتبرون أنّ الإنهيارَ يحصل يومَ تعلن الدولة عدمَ قدرتها على دفع مستحقاتها، أو يوم يستفيق الناس على انهيار في قيمة النقد الوطني يرفع مستويات التضخم الى أرقام غير مألوفة، تؤدّي الى فقدان الطبقات الفقيرة والمتوسطة قدراتِها الشرائية.
ولأنّ نموذجَ اليونان الذي يرفض المسؤولون تشبيهَ لبنان به، هو الأحدث والأقرب (جغرافياً) الينا لا يضير أن ندرس ولو بتبسيط ماذا حصل في بلاد الإغريق. الواقع أنّ الإعلان الرسمي لما يعتبره البعض إفلاس اليونان، بات مؤرّخاً رسمياً في نيسان 2010، يوم طلبت أثينا من الاتّحاد الأوروبي وصندوق النقد تفعيلَ خطة إنقاذ تساعدها على تجنّب خطر الإفلاس وعدم القدرة على السداد. في هذا اليوم وصلت اليونان الى النقطة (ي). وكان الإتحاد الأوروبي الى جانبها لمساعدتها على دفع الكلفة المرتفعة جداً للعودة من هذه النقطة الى الوضع الطبيعي. وتضمّنت خطة الإنقاذ، حزماتٍ مالية وصلت قيمتُها الإجمالية الى حوالى 300 مليار دولار، والى خطة تقشّف وإصلاح مجدولة على عشر سنوات.
اليوم، لا تزال اليونان في حقبة الانهيار، لكنها اجتازت المسافة في الاتّجاه المعاكس من النقطة (ي) باتّجاه النقطة (أ)، حيث يوجد المخرج الرئيسي الذي يعيد البلد الى المسار الطبيعي. وقد تكون أصبحت في النقطة (ب). لكنّ العودة حتّمت المرورَ زمنياً وعملانياً بكل النقاط، بما يبرّر الحاجة الى 10 سنوات لإنهاء رحلة العودة.
ولفَهم الموضوع اكثر، يمكن الاطّلاع على المؤشرات التي دلّت على أنّ اليوناندخلت في النفق. هذه المؤشرات تُثبت أنّ مسار الانهيار استغرق حوالى 5 أو 6 سنوات فقط. في العام، 2001 أصبح عجزُ الموازنة نسبة الى الناتج المحلي 4,5%، في 2002 ارتفع الى 4,8%، في 2003 وصل الى 5,6%، في 2004 بلغ 7,5%، في 2005 عاد وانخفض الى 5,2%، في 2006 ارتفع الى 5,7%، في 2007 وصل الى 6,5%، في 2008 ارتفع الى رقمٍ قياسي وصل الى 9,8%، في 2009 قفز دفعة واحدة الى 15,6%، وكانت تلك هي القعر ومن ثم بدأت خطط الإنقاذ في 2010 فانخفض العجز الى 10,3%، ومن ثم الى 9,1% في العام 2011.
ومن المفيد التذكير ايضاً، أنّ خطط الإنقاذ التي وُضعت لليونان، تضمّنت شرطاً على الحكومة اليونانية بخفض العجز بنسبة 1% سنوياً، لمدة خمس سنوات وصولاً الى نسبة عجز 3,5% في العام 2014. (الشروط نفسها التي وضعها سيدر على لبنان)، وبخفض الإنفاق ومن ضمنه خفض حجم القطاع العام، وزيادة الإيرادات من خلال الضرائب والإصلاحات المالية.
السؤال، بعد هذا السرد المنهجي للأزمة اليونانية، هل يمكن الإنكار انّ لبنان دخل في دائرة الانهيار منذ العام 2013؟ هذا يعني انّ عُمر هذا المسار أصبح 6 سنوات ونيف، وهو العمر نفسه الذي استغرقته اليونان لاجتياز “الرحلة” من النقطة (أ) الى النقطة (ي). والسؤال، في أيّ نقطة تحديداً يوجد لبنان اليوم، في النقطة (و)، أم في النقطة (م) مثلاً، حيث لا تزال توجد امامه 3 نقاط قبل الوصول الى الـ(ي). وهل يعني ذلك انّ يوم الإعلان الرسمي عن الانهيار في لبنان أصبح وشيكاً؟
الجواب المبدئي لا. والسبب انّ مسار الانهيار في لبنان، من حيث الأرقام والعوامل الاقتصادية والمالية يختلف عن اليونان، بحيث إنّ قدراتنا الذاتية على اطالة أمد المسار قائمة من خلال نقطتي قوة كانت تفتقدهما اليونان: حجم الاموال الموجودة في مصارفنا التي تتمتع بقوة وثقة مميّزة، وثانياً، القوى اللبنانية العاملة في الخارج والتي تضخّ سنوياً ما يوازي 17% من حجم الاقتصاد (GDP)، و70% من حجم إيرادات الدولة السنوية.
في المقابل، يعاني لبنان من نقاط ضعف ليست قائمة في اليونان، منها الوضع السياسي العام، وطريقة إدارة الحكم بمفهومه الواسع. في اليونان، لا توجد “بساتين-1” و”بساتين-2″، ولا يوجد في الموازنة ما يشبه المادة 80، ومستوى الفساد والهدر، واستغلال السلطة أقل بكثير ممّا هو عليه الحال في لبنان.
اليوم، وفي بداية موسم السياحة والاصطياف الذي كان يعلّق عليه لبنان الرسمي والشعبي والقطاعي الآمال، وعلى أبواب صدور تقرير التصنيف من قبل “ستاندرز اند بورز” (23 آب المقبل)، وفي ظلّ وصول العجز الى الناتج في 2018 الى 11,3%، وفي ظل العقوبات الأميركية المتجددة والمتشدّدة على حزب الله الذي يكوّن جزءاً مهماً من النسيج الداخلي اللبناني ومن السلطة اللبنانية، وبالتزامن مع هدير محركات الحرب في المنطقة، وتأثيرها المباشر على لبنان، في هذا الوضع تبرز أزمة حكومية، وأزمة نشر موازنة، وأفق سياسيّ مسدود، ومؤشرات تصعيد مفتوحة على كل الاحتمالات.
لا أحد يستطيع أن يبتكر اساليب لتسريع الدفع نحو القعر (النقطة “ي”)، كما تفعل السلطة السياسية في لبنان. واذا استمر الدفع بهذا الزخم، لن نضطر للانتظار طويلاً قبل “الاحتفال” ببلوغ خط النهاية.