دايفيد عيسى
صحيح انه أصبح لدينا مجلس نيابي منتخب وفق قانون انتخابات جديد الى حد ما أكثر إنصافاً وعدالة… وصحيح ايضآ انه أصبح لدينا حكومة منبثقة عن هذا البرلمان ممثلة تقريبآ لمختلف الكتل والاتجاهات وتنطبق عليها مواصفات حكومة الوحدة الوطنية… ومع ذلك فاننا نرى ان هذا ليس كاف، لان المجلس النيابي ليس قادر على احتضان وبت المسائل والملفات السياسية الكبرى رغم كونه المكان الطبيعي لأي حوار ونقاش سياسي، وكون الحكومة ليس بإمكانها التصدي لمثل هذه المسائل “المصيرية” التي تتعلق بمسار ومصير البلد ومستقبله.
فالحكومة غارقة في قضايا وتفاصيل يومية، وهي منهكة وغارقة “حتى أذنيها” في الملفات والأوضاع الاقتصادية والمعيشية والمالية التي بلغت مرحلة متقدمة من التأزم والتردي.
ولنكن صادقين ونعترف انه بالكاد باستطاعة هذه الحكومة أن تعالج الأزمة الاقتصادية والمعيشية والمالية وأن تحضّر الأرضية والبنى التحتية الإدارية والمؤسساتية لتنفيذ مقررات “سيدر” وأن تفي بالتزاماتها وتتخذ القرارات الصعبة والضرورية لوقف النزيف الحاصل في البلاد.
من هنا وإذا كان الملف الاقتصادي فرض نفسه أولوية مطلقة، وإذا كانت الحكومة ليس لديها متسع من الوقت لمناقشة مسائل أخرى وطنية وسياسية، وليس أمامها إلا التفرغ للمعركة الاقتصادية والحياتية، فاننا نسأل لماذا لا يدعو رئيس الجمهورية لطاولة حوار وطني يحضرها ويتفرغ لها قادة الاحزاب السياسية ورؤساء الكتل البرلمانية الكبيرة الممثلة داخل مجلس الوزراء وحتى الذين خارجها، وإقامة مثل هذا الإطار السياسي الوطني الموازي للأطر الدستورية المؤسساتية من أجل مناقشة القضايا الوطنية الكبرى والبت بها، لقد بات من الضروري استئناف الحوار الوطني في قصر بعبدا برعاية وإدارة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بعدما أدت ظروف واستحقاقات إلى تعليقه لسنوات وحالت دونه، وهذا يخفف من التجاذبات والصراخ الذي نسمعه من فوق السطوح كل يوم بين القوى السياسية ويجعله ضمن اربع حيطان، وهذا ينعكس ايجابآ على الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية من جهة ويريح اعصاب الناس من جهة ثانية.
كما ان هذا الحوارلا يكون مقيداً بمهلة زمنية محددة ولا يكون جدول أعماله محصوراً ومقتصراً فقط على مسألة الاستراتيجية الدفاعية…
من الطبيعي أن تكون الاستراتيجية الدفاعية على جدول اعمال هذا المؤتمر ومن الطبيعي أن يرسل رئيس الجمهورية إشارة إيجابية إلى المجتمع الدولي المستعد لمساعدة لبنان والدولة لاسيما المؤسسات العسكرية والأمنية، كما ان التوافق اللبناني حول الاستراتيجية الدفاعية مطلوب ولا شيء يمنع إطلاق نقاش معمق ومسؤول بشأنها خصوصاً بعدما أظهر حزب الله كل الاستعداد لمناقشة هذا الموضوع والتجاوب مع رغبة رئيس الجمهورية في هذا المجال…
ولكن الاستراتيجية الدفاعية على أهميتها لا يمكن أن تحجب وتهمش مسائل أخرى هامة وملحة تستلزم بحثاً عاجلاً وتوافقاً وطنياً ومن أبرزها:
1- مسألة النازحين السوريين وهو الموضوع الاهم والاخطر والتي حان أوان طرحه على بساط البحث الجدي والحوار الوطني لوضع خطة متكاملة لعودة النازحين ولردم الفجوة الموجودة في الموقف اللبناني الرسمي حيال هذه المسألة… وذلك بمعزل عن تطورات الوضع في سوريا، فإن لبنان مصمم على أن يأخذ مصيره بيده وعلى المبادرة إلى حل قضية النازحين بعيداً عن أي مزايدات وتجاذبات داخلية دون انتظار الحل السياسي للأزمة السورية الذي قد يطول لسنوات، ويدخل في هذا النطاق أيضاً موضوع العلاقة السياسية بين لبنان وسوريا أو ما يسميه البعض “تطبيعاً” إذ يجد لبنان نفسه أمام حتمية التوفيق بين مصلحته التي تقتضي التنسيق مع السلطات السورية في ملف عودة النازحين وبين التزامه بالموقف العربي العام فيما خص دور سوريا في نطاق جامعة الدول العربية…
2- موضوع مكافحة الفساد بكل أشكاله وأنواعه بعدما تجاوزت آفة الفساد كل حدّ وتصوّر وصارت تثقل كاهل الدولة المالي وتشكل مصدر قلق للمواطنين الخائفين على واقعهم ومستقبلهم ومصيرهم ومستقبل اولادهم، وموضوع الفساد، سواء كان هدراً أو سرقة للمال العام، أو كان إساءة استعمال للسلطة، بحيث صار يتطلب معالجة جذرية وشاملة ويفترض أولاً رفع الغطاء والحماية عن كل المرتكبين والمخالفين، وإطلاق يد القضاء وأجهزة الرقابة، فإذا كان الدعم الدولي للبنان مشروطاً بإصلاحات اقتصادية ومالية وإدارية عميقة وبنيوية، فإن هذه الإصلاحات تمر أولاً في مكافحة الفساد داخل اجهزة الدولة ومؤسساتها واداراتها، فهذا ممر إجباري ومفتاح النجاح في عملية الإصلاح، ولكنه يحتاج إلى اتفاق وطني وإلى قرار سياسي يلزم الجميع ولا يمكن اتخاذه إلا عبر حوار وطني هادىء.
3- مسألة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وهذا الترسيم تفرضه ضرورات حل النزاع على النفط والغاز في البحر وتكوين مناخ استقرار داعم لاستخراج الثروة البحرية ونزع فتيل التوترات والنزاعات الحدودية بحراً وبراً، ومن الأفضل والأجدى أن يكون التوافق الرئاسي الحاصل على هذا الموضوع مدعوماً بتوافق وطني حول واحد من أدق وأخطر المسائل المتعلقة بلبنان وحدوده الجنوبية وأمنه الإقليمي.
4- اللامركزية الإدارية الموسعة التي نص عليها اتفاق الطائف ولم تطبق بعد، وصار تطبيقها ضرورياً لتحقيق الإنماء المناطقي المتوازن وتخفيف الأعباء عن المواطنين والحد من قيود وأعباء الدولة المركزية، مع العلم أن هناك مسائل أخرى مهمة وردت في اتفاق الطائف ولم تشق طريقها إلى التنفيذ، ولا يبدو أن تنفيذها ممكن من دون تفاهم جديد ومفصل حولها وفي مقدمها موضوع السلاح الفلسطيني في المخيمات، الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية السياسية، ومجلس الشيوخ الضامن لحقوق وأوضاع الطوائف…
5- قانون الانتخابات الذي أقرّ بعد جهد جهيد وحقق النقلة النوعية من النظام الأكثري إلى “النظام النسبي” المتلائم أكثر مع تركيبة المجتمع اللبناني وتعدديته الطائفية والسياسية والمناطقية، بحيث أظهرت الانتخابات الأخيرة أن تحسناً قد حصل بالفعل على صعيد التمثيل الشعبي، ولكن الانتخابات أظهرت أيضاً أن هذا القانون الذي أقرّ على عجل تعتريه نواقص وشوائب وتلزمه مراجعة على صعيد تقسيم الدوائر واحتساب النتائج والصوت التفضيلي وما إلى ذلك من أمور قانونية وتقنية تتعلق بآليات تطبيق هذا القانون النسبي لجعله أكثر عدالة وتكافؤاً.
هذا غيض من فيض المواضيع والقضايا التي تحتاج إلى حوار وطني، هذه نماذج وعينات من مسائل كثيرة تنتظر حواراً وطنياً لا يستثني أحداً حتى الذين استثنتهم الحكومة الحالية، ولا يستثني قضية ومشكلة، حوار وطني يدعم الحكومة ويظلل مسيرتها من دون أن يتجاوز دورها وصلاحياتها، ويريحها ويعطيها قدرة المعالجة والمواجهة والتفرغ في الملف الاقتصادي والمالي… حوار وطني يشكل رافعة للعهد ويعطيه قوة دفع إضافية في نصفه الثاني، والا ….فعلى العهد والبلد السلام … ومن له اذنان سامعتان فليسمع.