لقد أصبحت الثقوب السوداء وجحر الخلدان “ثقوب الديدان”، سمة مألوفة للعديد من أفلام الخيال العلمي والمسلسلات، التي يستخدمها المسافرون عبر الفضاء للانتقال بشكل فوري عبر الكون.
والسؤال ما هي ماهية الثقوب السوداء وجحر الخلدان، وما مدى صحة القدرة على القيام برحلات عبر الزمان والمكان؟ وما هي الحقيقة المذهلة التي تظهر في أفلام الخيال العلمي؟
ما هي الثقوب السوداء؟
عادة ما يصف علماء الفيزياء الثقب الأسود بأنه مساحة من الفضاء الزماني التي تتمتع بجاذبية قوية، بحيث لا يمكن لأي مادة أو طاقة أو معلومات (بما في ذلك الضوء) أن تغادر هذه المنطقة بمجرد دخولها. الثقب الأسود محدد في الفضاء من خلال أفق الحدث: حدود الثقب الأسود، الذي لا يمكن لأي كائن أو إشعاع مغادرته. وبالتالي فإن المراقبين الموجودين خارج الثقب الأسود، لا يستطيعون الحصول على أي معلومات حول ما يحدث داخله.
في هذا السياق أشار البروفسور كيريل برونيكوف من المعهد العلمي التدريبي للجاذبية وعلم الكونيات في جامعة الصداقة بين الشعوب، إلى أنه وفقاً للنظرية النسبية العامة فإنه يتم وصف هندسة الثقوب السوداء من خلال معادلات أينشتاين، المرتبطة فيما بينها بعالم الزمكان المتري المنحني والذي يتمتع بخصائص المادة الموجودة داخله. في حين أن الجاذبية هي مظهر من مظاهر انحناء عامل الزمكان.
وأضاف بهذا الشأن قائلاً: “لقد وصف العلماء نظرياً بعض أنواع الثقوب السوداء. وهي تختلف فيما بينها بوجود أو عدم وجود مؤشرات مثل الدوران والشحنة الكهربائية وغيرها من المؤشرات الأخرى. ويُعتقد أن الثقوب السوداء يمكن أن تنشأ عندما تتعرض النجوم الضخمة لضغوط هائلة وعلى نحو كاف في المرحلة الأخيرة من تطورها، أو أثناء تقلبات المادة الفائقة الكثافة عند بداية تشكل الكون”.
وبحسب قول البروفسور فإنه من المستحيل رؤية الثقب الأسود، وذلك لأنه لا يمكن للمراقب الخارجي الحصول على أي معلومات مباشرة من أفق الحدث. ولهذا فإن الثقب الأسود يمكن أن يظهر بشكل غير مباشر فقط عن طريق انحناء أشعة الضوء التي تمر بالقرب منه، وكذلك عن طريق الإشعاع الكهرومغناطيسي الذي يصدر من المادة المحيطة التي تقع في الثقب… إلخ.
حتى الآن لم يدرك العلماء حقيقة وماهية المناطق الداخلية للثقوب السوداء، المخبأة تحت أفق الحدث. ووفقاً للنظرية النسبية العامة فإنه يجب أن يكون في هذه الثقوب خاصية “التفرد” – مساحات ذات قيم كبيرة لا حصر لها من انحناء الزمكان والكثافة وضغط المادة. ومع ذلك يعتقد العديد من الباحثين أن هذه الفرضية غير ممكنة.
وأشار كيريل برونيكوف قائلاً: “نحن هنا نواجه حدود مدى تطبيق تصوراتنا وأفكارنا الكلاسيكية حول الزمكان وندخل في منطقة غير مستكشفة بعد، من نظرية الجاذبية الكمومية التي لم يتم تصميمها بعد”.
ونوه الباحث بشأن احتمال وجود نوع آخر من الثقوب السوداء، والتي يطلق عليها “الكون الأسود”. هذا “الكون” يمكن أن يبدو مثل أي ثقب أسود آخر، ومع ذلك في حال تمكن المراقب الوصول إلى داخله بعد أن يجتاز أفق الحدث، فإنه يمكن أن يجد نفسه، ليس في حال التفرد، وإنما في عالم جديد دائم التوسع.
البحث عن الثقوب السوداء
في مطلع عام 2019 تم الانتهاء من برنامج رصد التداخل بين الفضاء والأرض “راديو أسترون” مع دقة تفوق بعدة آلاف مرة من دقة تلسكوب هابل الفضائي الشهير. ويتكون “راديو أسترون” من عدة عشرات التلسكوبات الراديوية الضخمة ومرصد فضائي، كلها مرتبطة فيما بينها من خلال خوارزميات خاصة على طبق افتراضي يصل قطره إلى قيمة تفوق قطر كوكب الأرض.
في هذا السياق تحدث يوري كوفاليوف مدير مختبر الأبحاث الأساسية والتطبيقية للأجسام النسبية في معهد موسكو للفيزياء والتكنولوجيا قائلاً: “لقد سمح راديو أسترون لعلماء الفلك الروس الكشف عن اثنين من الثقوب السوداء الهائلة، والتي تدور حول بعضها البعض على مسافة قصيرة، وذلك في مركز المجرة OJ287 في كوكبة السرطان”.
وتابع كوفاليوف قائلاً: “تتطابق ملاحظاتنا تماماً مع تنبؤات النظرية. ونحن نخطط في المستقبل دراسة محيط الثقوب السوداء في مجرتنا وغيرها من المجرات الأخرى، وفق أطوال موجية قصيرة، وذلك باستخدام مقاييس تداخل الزمكان في إطار مشروع “ميلي مترون” الروسي. سوف يساعدنا ذلك في اختبار الأفكار النظرية حول وجود كائنات أخرى أو ما يسمى بجحر الخلدان – ثقوب الديدان”.
جحر الخلدان يعادلها باللغة الإنكليزية ثقوب الديدان، وهي أكثر الأجسام غرابة في الكون، وهي محط جدال حول وجودها بين العلماء. هذه هي هيكلية الزمكان في شكل أنفاق غريبة بين المناطق البعيدة عن بعضها البعض في هذا الكون أو حتى بين أكوان مختلفة.
وقد أكد البروفسور سيرغي روبين من الجامعة الوطنية للأبحاث النووية “ميفي” قائلاً:
“إن جحر الخلدان “ثقوب الديدان” مرتبطة بشكل وثيق بالثقوب السوداء، وذلك نظراً لأنها كائنات محلية تتمتع بجاذبية كبيرة وقوية على نحو كاف وفضاء منحني. ولكن خلافاً للثقوب السوداء لا يوجد لديها ما يسمى ب”المصيدة” – أفق الحدث، وبالتالي فهي لا تسمح فقط بدخول الأجسام وإنما بخروجها أيضاً. بعبارة أخرى يمكن فقط المرور عبرها”.
وعلى الرغم من أن “ثقوب الديدان” لا تتناقض مع النظرية النسبية العامة ويمكن توقعها من خلال بعض النظريات المتعلقة بعلم الكون، إلّا أنه لم يتم التعرف حتى الآن على أجسام مرشحة لتلعب دور مثل هذه الثقوب. بالإضافة إلى ذلك، يفهم من ثقوب الديدان على إنها هندسة زمنية-مكانية غير عادية تماماً، الأمر الذي يتطلب وجود مادة بخصائص غريبة للحفاظ عليها (على سبيل المثال، طاقة بكثافة سالبة).
وهنا أكد العالم إنه في حال تم اكتشاف ثقوب الخلد في الطبيعة أو إنشاؤها في المختبرات سوف يعني ذلك ثورة حقيقية في فيزياء الزمان والمكان.
يشار إلى إن سيرغي روبين لا يشاطر ثقة عالم الفلك هينو فالك في أن الصور الحديثة لظل الثقب الأسود في وسط المجرة M87، التي تم التقاطها في مشروع بلسكوب إيفينت هوريزون، يمكن أن تؤكد وجود أنفاق في بنية الزمكان. وبالتالي علينا أن ندرك أننا نفتقر لعامل الدقة في القياس من أجل الحصول على استنتاجات نهائية.
ومع ذلك، إن الأفكار النظرية حول هذه الأجسام تساعد العلماء على فهم طبيعة المكان والزمان والجاذبية بشكل أفضل.
كيف السبيل الى جحر الخلد؟
يعتقد الباحث أرتيوم يوروف، الأستاذ في جامعة “كانت” البلطيق الفيدرالية بأن جميع أفلام الخيال العلمي حول الأنفاق التي تؤدي إلى الأبعاد الكونية الأخرى ليست بعيدة عن النظريات العلمية الحديثة.
وفي هذا الاطار أشار الدكتور أرتيوم قائلاً: “على سبيل المثال، تتطابق المعلومات حول الثقوب السوداء وما يسمى بالمساحات الإضافية، مع الأفكار العلمية التي جسدها العمل السينمائي في فيلم إنتر ستيلار. وهذا الامر ليس مفاجئاً، لأن المستشار العلمي للفيلم كان كيب تورن الحائز جائزة نوبل، وهو خبير في فيزياء الثقوب السوداء، وهو بالذات الذي بث حياة جديدة في الأفكار حول وجود جحر الخلد”.
وبحسب قول أرتيوم يوروف، فإنه على الرغم من أن الثقوب يمكن صياغتها بموجب قوانين الفيزياء، فإنها لا تستطيع أن تنشأ من تلقاء نفسها. ومع ذلك، يمكن لحضارة متطورة للغاية من الناحية الفنية والعلمية أن تقوم ببنائها. ويعتبر الباحث الروسي أنه لا ينبغي أن يكون هذا أمراً مفاجئاً، إذ أن سيارة تويوتا لا يمكن أيضاً أن تظهر بشكل تلقائي، وإنما ينبغي تصميمها وتصنيعها بالشكل الذي يجب أن تبدو في نهاية المطاف.
يفكر علماء الفيزياء اليوم في إمكانية خلق ثقوب الخلد التي لا تتفكك بسرعة، وكذلك كيفية جعلها كبيرة بما يكفي لتحتوي على الجزيئات، وأن لا تنهار.
وتابع سيرغي روبن قائلاً: “من الممكن نظرياً إرسال الجينوم البشري عبر جحر الخلد “ثقوب الديدان”. ووفقاً للحسابات، توجد أيضاً الحفر على شكل قمع في الأبعاد الإضافية، لكنها لا تزال صغيرة جداً، أي بحدود 10 بقوة ناقص 31 سنتيمتر”.
بحسب رأي العالم، من الممكن نظرياً في المستقبل إرسال البشرية، عبر ثقوب الديدان من عالم يحتضر إلى عالم آخر، عالم بدأ للتو في الحياة. ومن أجل تحقيق هذا الهدف، ليس من الضروري إرسال شخص بشحمه ولحمه – يمكننا إرسال المعلومات إلى هناك، والتي من خلالها يمكن أن تسترد حضارتنا وجودها في الكون الجديد من تلقاء نفسها.