بقلم جورج عبيد-
كان الرئيس الشهيد رفيق الحريري رحمه الله يعرف كيف ومتى يقفز فوق المتناقضات بذكاء حادّ وهدوء لطيف، فيجذب المختلفين معه إليه، وغالبًا ما كان الانجذاب ينبع من قوّة المنطق ورجاحة العقل أكثر من أيّ عامل آخر رصف أو وصف بالاستثماريّ أو الشرائيّ. لم يكتفِ فقط بالقفز والذهاب نحو البعيد، بل كان يقرأ المستقبلات فيستوعب مفرداتها، فيندرج بمعطياتها، ليستمد بعد ذلك من آفاقها كلّ سياق رامز إلى الاعتدال، في اللحظة التي كان التطرّف وسيلة للغرس المتعمّد حتّى يحين أوان الانفجار. فمنذ أن دخل الأميركيون العراق سنة 2003 رأى منطقة الشرق الأوسط ترتجّ وترتجف تحت قدميه، واستقرأ منهج التمزّق المذهبيّ الذي كان يُعمَل عليه بقوّة من العراق إلى كلّ بقعة مشرقيّة، إلى أن قرّر بهدوء ورضى تامين إنجاز وثيقة تفاهم مع حزب الله، وبالتحديد مع الأمين العام السيد حسن نصرالله، لينقذ لبنان من هذا المنهج الخطير والعبثيّ القائم على الصراع المذهبيّ. قتل الرجل، فتمزّقت معه الوثيقة المنتَظرة، واتجه لبنان والمنطقة إلى الصراع المذهبيّ القاتل الذي مزّقها وأدمى ناسها. ويقول عارفون كبار ومنهم الصديق العزيز إيلي الفرزلي دولة نائب رئيس المجلس النيابيّ، بأنّ إرادته بإنجاز تلك الوثيقة كانت إحدى أسباب اغتياله في 14 شباط من سنة 2005.
عاد لبنان اليوم إلى المنظومة الطائفيّة برسم سعوديّ-أميركيّ. رؤساء حكومات ثلاث واحد منهم كان الأقرب إلى دمشق بترت قرباه وتمزّقت، وآخر سياقه أميركيّ ثابت غير متبدّل، وقد كان الأقرب إلى الإدارة الأميركيّة ولا يزال من رفيق الحريري نفسه وسعد الحريري أيضًا، ذهبوا إلى السعوديّة لملاقاة مليكها وعاهلها سلمان بن عبد العزيز. مجرّد دخلوا البلاط شكوا له الإجحاف الحاصل باتفاق الطائف، أي باتفاق الجمل الخفيّة وليس المكتوب، والمساس بحقوق الطائفة السنيّة الكريمة. قيل في بعض الأروقة، بأنّ الزيارة "السنيّة" تمّت بتنسيق تامّ ومحكَم مع سعد الحريري، بسبب حرجه من الكلام في حقوق الطائفة السنيّة المهدورة. حتّى سمعوا من جلالته كلامًا فريدًا بنوعيّته المذهبيّة المغلقة، "ما يزعج أهل السنّة في لبنان يزعجنا، والمس باتفاق الطائف مسّ بنا"، من دون صدور أيّ نفي أو توضيح أو تصويب، لا من الوفد الزائر ولا من المملكة عينها، ممّا دلّ ويدلّ أن التأليب الطائفيّ والمذهبيّ عاد على أشدّه. لكنّ المفاجأة بأن الوفد الثلاثيّ لم يتفق مع سعد الحريري حول مضمون الزيارة إلى المملكة، ممّا بدا للجميع بأنّ الزيارة كانت زيارة شكوى وتحريض، وهذا ما سنظهره في متن هذا المقال.
قبل الزيارة وبعدها أرخت حادثة قبرشمون بظلالها وثقلها على الواقع السياسيّ والعمل الحكوميّ. وقد تمّ الإيضاح غير مرّة بناءً على معلومات ومعطيات، بأنّ الحادثة لم تكن على الإطلاق وليدة الصدفة بقدر ما كانت وليدة التخطيط المسبق والمدروس بهدف أخذ لبنان إلى مساحة فتنويّة مذهبيّة واسعة، وبغية تطويق العهد ومن ثمّ محاولة تطويعه للقبول ببعض الشروط الدوليّة المطروحة عليه سواءً عبر فكّ الارتباط الوثيق بين العهد وحزب الله، وتجويف سلاح حزب الله من الغطاء الشرعيّ اللبنانيّ والقبول بالتوطين. فسلاح حزب الله لا يزال هدفًا دوليًّا والعقوبات الماليّة تتحرّك بهذا الهدف.
وللتدليل والتأكيد على هذا الهدف القائم منذ سنة 2001، يقول عمران أدهم في كتابه "النفاق الأميركيّ"، وفي الفصل الخامس تحت عنوان: "كوندوليزا قتلت الحريري" ونقلاً عن "ديفيد وين" المسؤول الآخر في الCIA طوال السنوات الثماني الأخيرة على امتداد الMENA (الشرق الأوسط وشمال إفريقيا)، وهو بقي في منصبه حتّى آخر أيار من سنة 2014 "بأنّ إسرائيل اقتنعت بأنّ رفيق الحريري حجر عثرة في وجه خططها الاقتصاديّة والسياسيّة على السواء، وهو شخصيّة عربيّة قويّة تتمتّع بحضور مؤثّر على المستويين الإقليميّ والدوليّ. لقد نسج الرجل شبكة علاقات بالغة الأهميّة عربيًّا وأوروبيًّا وأميركيًّا، وظّفها في مساندة المقاومة ومساندة سوريا، كما وظّفها في خدمة لبنان وتعزيز دوره الماليّ والاقتصاديّ كقطب جاذب للرساميل والاستثمارات الخليجيّة. وما حصل عقب الاكتشافات النفطيّة الأخيرة، أنّ لجنة أمنيّة-سياسيّة، نبّهت الحكومة الإسرائيليّة إلى أنّ وجود الحريري في الحكم سوف يتسبّب بمتاعب لإسرائيل ، خصصًا في عمليّة ترسيم الحدود بين قبرص ولبنان، الأمر الذي يضع الدولة العبريّة أمام يشبه الأمر الواقع، في ما يتعلّق بثروتها النفطية والغازيّة. وقد ورد في التقرير بالحرف الواحد لا بدّ من التخلّص من هذا الرجل لأنّ تطلعاته وطموحاته لا تنسجمان مع تطلعاتنا وطموحاتنا ونظرتنا إلى مستقبل المنطقة ودور إسرائيل في المدى الإقليميّ... " لا تزال المواضيع المذكورة أعلاه المتحرّكة في الضغط المكثّف على العهد والحكومة ولم يتبدّل الأمر إطلاقًا، بدليل أنّ السفير الأميركيّ ديفيد ساترفيلد، ماهى ما بين التفاوض غير المباشر مع إسرائيل حول ترسيم الحدود والحقوق النفطيّة، والشغب الأمنيّ في قبرشمون والجبل عمومًا.
لكنّ الأهمّ في اعترافات ديفيد وين أمام عمران أدهم قوله: "الاعتبار الذي كان يزعج إسرائيل بقوّة هو أنّ الحريري استطاع تسويق "حزب الله" كحركة تحرير ومقاومة ضدّ الاحتلال، والأمر هنا خطير جدًّا لأنّ هذا التسويق يشكّل عقبّة كبرى في وجه أيّ هجمة إسرائيليّة جديدة على الحزب لتدمير بنيته التحتيّة، على أساس أنّه "حركة إرهابيّة". نظرة الحريري إلى حزب الله كانت تعيق المشروع الإسرائيليّ في معظم جوانبه وتربك الخطط الأمنيّة الإسرائيليّة للتخلّص من المقاومة". والعهد مع الرئيس ميشال عون اعتبر بأن سلاح المقاومة ردعيّ بوجه إسرائيل وقتاله في سوريا استباقيّ لحماية لبنان وسوريا معًا من وحشيّة القوى التكفيريّة، والحكومة برئاسة سعد الحريري لا تزال ترتكز على الثلاثيّة الذهبيّة، الجيش والشعب والمقاومة. أي أنّ شيئًا لم يتغيّر البتّة لا من منظور أميركا وإسرائيل ولا من منظور لبنان على الرغم من أنّ هذا الأمر كان السبب الجوهريّ في اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري سنة 2015.
وبعد الزيارة، جاء تمرّد العمّال الفلسطينيين في المخيّمات تحت ستار تنظيم العمالة الأجنبيّة في لبنان، ليكون بدوره جزءًا كبيرًا من المنظومة الطائفيّة التي تمّ ويتمّ تحريكها، ليبلغ لبنان نحو ازدحام العناوين المتفجرة على أرضه، بقصد تطويق العهد وتطويعه. ما يؤكّد الهياج الطائفيّ والمذهبيّ المصاحب لهذا التمرّد ما قاله رئيس بلديّة صيدا، بأنّ الفلسطينيين هم أصحاب الأرض. المغفور له ياسر عرفات ردّد غير مرّة بأن طريق القدس تمرّ من جونيه، وكان جماعة قمّة عرمون آنذاك قد اعتبروا بأنّ منظمّة التحرير الفلسطينيّة جيش المسلمين. رئيس بلديّة صيدا أفصح أمرين:
1-طريق القدس تمرّ من صيدا.
2-وأهل المخيمات من دون تمييز هم جيش المسلمين في صيدا ولبنان بأسلحتهم وتنظيماتهم.
في مقال سابق لنا نشر في هذا الموقع بتاريخ: 21-07-2019 تحت عنوان: "التحريك العبثيّ الأميركيّ-السعوديّ خلف تفجير العناوين المتفجّرة" وبعد تحليل يسير خلصنا إلى السؤال التالي: "أين سعد الحريري من هذه الخيارات بل من تلك المنظومة المتوثّبة في لبنان؟ والسؤال الاستطراديّ المطروح هل نحن أمام انقلاب الحريري على التسوية التي أتت به رئيسًا للحكومة؟ يفترض لفت نظر القارئ الكريم، بأنّ مشروعيّة الأسئلة تتجسّد من واقعيّة تفاعل الرجل معها، وهو العارف بأنّ التسوية التي اندرج في مبادئها وأهدافها، ليست ثنائيّة، أي بينه وبين التيار الوطنيّ الحرّ، بل كان حزب الله جزءًا جوهريًّا بتكوينها، وحين يكون حزب الله هذا الجزء يعني بأن سوريا بدورها رضيت على تسميته، وفي التسوية الثانية كانت سوريا بدورها حاضرة، ثمّ كان كلام على لسان وزير سوريّ سابق لصديق له قال فيه: لا تتخلّوا عن سعد، إنّه رجل صادق وطيّب، ولن تجدوا أفضل منه في هذا الموقع على الرغم من خلافه معنا.
في المعلومات المؤكّدة. لم يكن اللقاء الذي جرى بين الرئيس سعد الحريري ونظرائه السابقين موفّقًا لا في الشكل ولا في المضمون. ذلك أنّ الرئيس الحريري إبّان أزمته وبعيدها مع السعوديّة، فهم طبيعة العلاقة الملتبسة معها ونوعيّتها الهابطة والتراجيديّة، فهي لم تنظر إليه بصفته ركنًا من أركان التسوية، أو كمكمّل لتراث الرئيس رفيق الحريري، كما أنّها لم تتعامل معه كرئيس حكومة لبنان، بل تعاملت معه كمجرم أو سارق سعوديّ وجبت محاسبته. في تلك اللحظات السوداء والمؤلمة، هبّ رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون وحرّك العالم بأسره لتحريره من الاختطاف. وموقف أمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله، كان بدوره الأشد حرصًا على تحرير الرجل من الأسر، فهو رئيس حكومة لبنان كلّ لبنان، وكرامته من كرامتنا وكرامتنا من كرامته. وقد تلاقى موقفه مع موقف رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون بأنّ التعدّي عليه تعدّ على لبنان بأسره، من دون نسيان موقف رئيس المجلس النيابيّ نبيه برّي. أوفد رئيس لبنان وزير الخارجية الدينامو الاستثنائيّ جبران باسيل، فطاف الدول المعنيّة خلال اثنين وسبعين ساعة من العمل المتواصل، إلى أن وصل لبنان إلى خاتمة سعيدة.
ثمّة فهم ساد الحريري، ومنذ تلك اللحظة، بأنّ معظم القوى السياسيّة خلت من الإخلاص له وبعضها انتهج الخيانة مسلكًا. فالرئيس نجيب ميقاتي الذي تحالف معه انتخابيًّا في طرابلس، لا يزال يختلف معه في المنهج والنهج، والقوات اللبنانيّة التي كانت لها اليد الطولى في الشكوى على الرئيس الحريري لدى السعوديين، وعلى الرغم من بعض المرونة التي أبداها الرجل تجاهها، لكنّها لا تزال تجافيه وتخالفه وتعرقل مسارّه بسبب تحالفه المتين مع رئيس الجمهوريّة ورئيس التيار الوطنيّ الحرّ جبران باسيل، وعدم تصويتها للموازنة واحدة من علامات الجفاء والخلاف، والحزب التقدميّ الاشتراكيّ متخاصم مع الحريري للأسباب عينها القائمة في خلاف الأخير مع القوات. ورؤساء الحكومات السابقون، وبعيد لقائهم الحريري الفاشل، ذهبوا إلى المملكة ليشكوا هناك أمام الملك والمسؤولين تراخي الحريري في الحفاظ على مكاسب الطائفة السنيّة وصلاحيات رئيس الحكومة في الطائف.
أمام كلّ ذلك، وانطلاقًا من تجاربه أدرك سعد بأنّ ميشال عون وجبران باسيل هما الأقرب إليه من حلفائه هؤلاء. التسوية باتت جزءًا من علاقة كيانيّة ووجدانيّة جمعته بسيد العهد، فلم يعد يقف عند عتباتها وحفافيها بل بات يضعها مسلّمةَ عبور لما هو أعمق، أي تأمين الاستقرار بتوطيد منطق الشراكة الميثاقيّة والمتوازنة المبنيّة على التلاقي الأخلاقيّ، والتي ترى مصادر مقرّبة منه أنها ستتوسّع نحو حزب الله على غرار رؤية والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
هل بات يعرف بأنّ من تصرّف معه بهذه الجلافة هو من قتل أباه؟ للايّام أن تبرز الجواب. لكنّ الأسباب الموجبة التي وضعها عمران أدهم في كتابه "النفاق الأميركيّ" على لسان ديفيد وين عن أسباب قتل الرئيس الحريري دقيقة للغاية، لأنّ الرئيس الشهيد كان ضنينًا بالعلاقة مع المقاومة وحماها بل منحها القوّة بالتشريع الذي عمل له والتسويغ الذي سوّقه على كلّ المستويات. لقد حاول الأميركيّون والإسرائيليون والسعوديون قلب الاستقرار بإضعاف العهد وتطويقه كما في تلك المرحلة التي أضأنا عليها عن طريق أحداث قبرشمون المفتعلة، والتحفيز لصراع طائفيّ ومذهبيّ بنيويّ (درزيّ-مسيحيّ، درزيّ-درزيّ، سنيّ-مسيحيّ، سنيّ-سنيّ، وسنيّ شيعيّ) من قبرشمون إلى مسألة صلاحيّة رئاسة الحكومة المفتعلة، بلوغًا إلى مسألة توطين الفلسطينيين والسوريين، ظنًّا بالمفتعلين بأنّ العهد سيفشل في المواجهة وسيخضع للمطالب الدوليّة، غير أنّ الرياح تجري بما لا تشتهيه السفن. فالرئيس ميشال عون لا يزال الرئيس القويّ والرئيس سعد الحريري يسير بإخلاص لهذا العهد وبقناعة تامّة بأنّ ميشال عون ضمانته وضمانة الجميع، وليس واردًا، ومهما تكثّفت الظروف، أن يخرج الحريري من هذا التلاقي العميق والراقي، وحزب الله، حزب المقاومة حجر عقد هذه التسوية، التي ستجنّب لبنان، بالاتفاق الثلاثيّ بينه وبين تيار المستقبل والتيار الوطنيّ الحرّ، إمكانيّة أن يكون أرض صراع غير مناشر بين أميركا وإيران، بل ستحمي لبنان بقوّة وتدنيه إلى سلام وطيد، واللقاء بين تلك القوى يبقى لقاء الشرفاء النبلاء العاملين على رفعة لبنان وسطوعه.