بيروت بلا الرياض: شُرفة إيران أم شُرفة العرب؟
2019-07-25 14:10:29
قاسم يوسف - ثمة بين بيروت والرياض ما يستدعي الكثير من الاهتمام والمعالجة والعتب، وهو عتبٌ فرضته الخيبات المتقابلة وما انطوت عليه العلاقة المتوترة من ارتباك وقلق وغموض هدّام ومتدرج على مدى العقد الأخير، لكن ذلك لا يمكن إلا أن يُشرّع الباب أمام مصارحة مُستفيضة تشمل كل العثرات والكبوات، وتؤسس لمرحلة جديدة من العلاقات السوية والحتمية بين ضلعين أساسيين ومحوريين يجمعها همّ مشترك وفائضٌ هائل من التفهّم والحكمة والصبر.أسس رفيق الحريري لفصل تاريخي جديد ومستدام في العلاقة بين البلدين، وقد نقلها في شقها الوطني نحو مساحات غير مسبوقة من التفاهم والتنسيق والتكامل، فيما اتخذت بُعدًا استراتيجيًا ومكثفًا في مقاربة الحالة السنية على وجه الخصوص، حيث بدا أن المصالحة الشاملة والعميقة بين خطين متوازيين لا بد أن تبدأ بمحطة تقاطع بناها رفيق الحريري حجرًا حجرًا، حتى استحالت ركن الزاوية في اجتماع استثنائي عمده الرجل بدمه، فتحول اللقاء من مجرد هندسة عبقرية لتلازم العناوين والمشتركات إلى ما يشبه الاندماج والانصهار ووحدة الحال.بدت السعودية مذاك وكأنها كتلة من المشاعر والعواطف المجردة، وقد تعاطت مع كل المتحركات الداخلية انطلاقًا من سياسات ظرفية ويومية تستند أولا وقبل أي شيء إلى فائق الحرص والرغبة بإخراج البلد من عنق الزجاجة، بعيدًا من الخضوع التقليدي لأبسط سياسات الدول القائمة على مبدأ الربح والخسارة، حيث أنها لم تلتفت لمصلحتها الآنية والمباشرة بقدر ما اعتبرت أن خلاص لبنان هو جزء لا يتجزأ من رسالتها ودورها، لكنها ما لبثت أن ارتطمت مرة تلو مرة بجدار سميك.في العلاقة مع المكونات الوطنية، بدا طبيعًا ومفهومًا تلك الاندفاعة الموضعية أو المفتوحة للقوى المُلحقة بالنظام السوري والإيراني نحو تسعير الاشتباك بوجه المملكة توازيًا مع أي توتر مفترض في الإقليم، وبدا طبيعيًا ومفهومًا أيضًا أن تعمد القوى الحليفة للسعودية إلى ممارسة الدور المقابل، لكن ذلك كله لم يحرف التصميم السعودي على تأمين هبوط آمن لكامل التركيبة اللبنانية، التي لا بد أن تحتفظ بفرادتها وتنوعها تحت سقف المصلحة الوطنية والعلاقة الصحية والمقبولة مع الجميع، بما في ذلك سوريا وإيران. وقد عمد الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز شخصيًا إلى لعب دور أساسي ومحوري في ترسيخ هذه العلاقة، انطلاقًا من الحوار مع طهران، وصولاً إلى السين سين، ليعود ويصطدم بخبث موصوف وإصرار فظيع على قلب الطاولة بوجهه ووجه الجميع.جزء كبير من انعدام التوازن الداخلي وانكسار الفريق المناوئ لحزب الله يستند إلى المعادلات والتوازنات الدولية والإقليمية، لكن جزءًا مهمًا وأساسيًا يتعلق بعجز سعد الحريري حصرًا عن تأسيس حالة راسخة ومستدامة، حيث بدا أن مليارات الدولارات التي أنفقتها السعودية ذهبت أدراج الرياح، فيما تحولت الحريرية السياسية، تلك الوصفة الفريدة والخلاّقة، من عنوان دائم للتميّز والنجاح إلى ما يتجاوز التخبط والعشوائية والفشل.أصابت الرياض قطعًا في توصيف وتحديد مكامن الخلل، وقد تمحورت بغالبيتها حول انعدام الكفاءة الشخصية والسياسية لوريث الحالة الحريرية، ناهيك عن التنظيم الهزيل والمترهل الذي كان من المفترض أن يُشكل إطارًا صلبًا ومكثفًا للمتحرك السني. لكن الخطأ وقع تحديدًا في المعالجات التي بدأت بمحاولات حثيثة لتصويب المسار، وانتهت بصدمة مباغتة تركت أثرها العميق في البنية الأساسية لمكوّن شديد الخصوصية والتعقيد، قبل أن تعود وتبتعد عن ممارسة أي دور وازن أو مؤثر في العملية السياسية اللبنانية، ما بدا وكأنه اعتكاف أو لامبالاة، خصوصًا عقب لجوء سعد الحريري إلى الاحتماء بالمعادلة الداخلية التي تريده رئيسًا شكليًا لحكومة لا يملك فيها إلا قرار استقالته.الإشارات السعودية الهادئة، والتي بدأت تتبلور تباعًا خلال الأشهر القليلة الماضية، توحي برغبتها في عدم الانغماس في التفاصيل أو العودة الفعلية إلى لبنان، بقدر اهتمامها في بلورة رؤية استراتيجية وشاملة، ابتداءً من زيارة لافتة في شكلها ومضمونها للعماد جوزف عون إلى المملكة، ثم مع صورة رؤساء الحكومات إلى جانب الملك، والتي تركت انطباعًا واضحًا ومُكثفًا عن خرق الحصرية السنية التي تمتع بها سعد الحريري على مدى المرحلة السابقة، مع ما يعنيه هذا التطور الاستثنائي في المضامين السياسية.غياب السعودية ليس حلاً، ولم يؤسس فعليًا إلا لمزيد من التشرذم والتشظي والضياع. وبيروت كانت، منذ الاستقلال وحتى اليوم، مقرًا وممرًا ومستقرًا ضروريًا لأي مشروع عربي، منذ المد الوحدوي والثورة الفلسطينية، مروراً بالانقلابات التي طُبخت في مقاهيها وفنادقها، وليس انتهاءً بالأنظمة التي كان لزامًا عليها أن تصنع موطىء إعلام وشعبية وسياسة في لبنان، كي تستقر على الخريطة السياسية في الإقليم. وإذا كانت طهران ترى لبنان كذلك، وتتعاطى معه باعتباره شرفتها على إسرائيل وعلى العرب، لابتزاز الغرب تارة، ولتكوين مركز عمليات لاجتياح المجتمعات العربية تارة أخرى، فالمطلوب أن لا تتركه السعودية، وحسبنا أنه لو كانت القوى السيادية لا تزال حية لما ارتاح حزب الله لا في سوريا ولا في اليمن. الحل يبدأ بعودة المملكة إلى لعب دورها الأساسي والمحوري، وإلى ضبط التوازن الداخلي عبر بلورة جبهة عريضة لحماية الصيغة واتفاق الطائف ومواجهة الجنوح المريب نحو لغة الحرب والتقوقع ونبش القبور، فضلاً عن ممارسة دورها المركزي والمباشر في تبديد الشعور المتعاظم بالإحباط والهزيمة، وفي استعادة الحيوية السنية باعتبارها مدخلاً أساسيًا وإلزاميًا للسلامة الوطنية.تريد السعودية أن يعود لبنان كما كان دائمًا: شُرفة العرب. ونحن لا نريد منها إلا أن تساعدنا على ذلك، كي لا يصير شرفة إيرانية لاستهداف العرب.
وكالات