ثمّة تحريك متعمّد للخطاب الطائفيّ بتضخّم وتورّم كبير. ليس التحريك معصومًا ولا منفصلاً عن الصراع الدائر في بقعة تحيا فيها أقاليم ملتهبة، فتؤثّر عليها وعلى مرتكزاتها، وستحكم بالنتائج المرصودة المراحل المقبلة بتأسيس لآفاقها الملتبسة.
قبل الغوص في معالم التحريك وأهدافه، تظهر معلومات مدروسة للغاية بأنّ الأميركيين لن يحترقوا بنار حرب قد ترمّد مصالحهم من الخليج الفارسيّ إلى المشرق العربيّ، بل عمدوا إلى محاكاة المرحلة المقبلة والزمن الآتي بحرب غير مباشرة في ساحتين على الأقل. لبنان إحداهما. وتشير المعطيات الواردة، بأن الأميركيين اتفقوا مع حلفائهم، لا سيّما مع المملكة العربيّة السعوديّة، بإعداد العدّة للضغط على الساحة اللبنانيّة، سيّما أن إمكانية الضغط في اليمن أو سوريا قد أفلت وضئلت أو اضمحلّت. ويتبيّن من هنا بأنّ قيمة الضغط وقوّته في لبنان أفعل وأفتك من ناحية إدخال لبنان في متاهات طائفيّة يراد باستهلاكها تفجير الوضع من جديد، وكما بيّنا في هذا الموقع غير مرّة، بغية تطويق العهد القويّ والفاعل برئاسة العماد ميشال عون.
لماذا لبنان بالتحديد هو الأرض المختارة لهذا التحريك؟ أسباب عديدة تجعل لبنان هدفًا لهذا التحريك الثنائيّ الأميركيّ-السعوديّ.
1-السبب الأوّل: دور حزب الله المتعاظم جدًّا. فسلاح المقاومة كسر قدرة إسرائيل على إرهاب العرب، وأعطى معنى كبيرًا وبالإذن من كثيرين للتكوين اللبنانيّ، وأثبت غير مرّة بأنّ قوّة لبنان لا تكمن في ضعفه ولا في هزاله ولا في تلاشيه، بل تكمن في قوّته وعزّته وقدرته على التحكّم باللعبة من خلال امتلاك المقاومة لهذا السلاح عينًا. فحين يكون هذا السلاح هدفًا بحدّ ذاته تتجلّى المؤامرة وتتوضّح بأنّ لبنان يجب أن يعود وهنًا ومعطوبًا، فلا يراد للنقاومة أن يكون لها سلاح كبير فتّاك، ويمنع على الجيش أن يتسلّح بالأسلحة الفتاكة لتكون له إمكانية الدفاع عن نفسه. العقوبات على حزب الله تهدف لتطويعه قدر الإمكان بعد انتصاره في لبنان على إسرائيل وانتصاره في سوريا على القوى التكفيريّة إلى جانب القوات السوريّة وروسيا وإيران.
وحزب الله بالتوصيف الدوليّ هو الذراع الأقوى لإيران، ففرض العقوبات عليه ترصف في الحرب الأميركيّة-السعوديّة غير المباشرة على إيران باستهلاك الأرض اللبنانيّة وجعلها ساحة لها.
2-السبب الثاني: دور العهد القويّ برئاسة العماد ميشال عون، الذي كسر الجمل الخفيّة وهو الطائف المستور أو المحجوب المؤسّس على توافق دوليّ-عربيّ محق الدور المسيحيّ في لبنان لحساب الطوائف الإسلاميّة الأخرى، وعزّز ريادة قيادات فاسدة أدخلت لبنان في أنظومة فساد محكمة. هذا الكسر أعاد للمسيحيين دورهم الرياديّ بثلاث سياقات:
-سياق مشرقيّ بحت لمّا قرّر العماد فور عودته من المنفى الباريسيّ زيارة دمشق، وإجراء مصالحة الكبار مع الرئيس بشّار الأسد، واستكملها بزيارة الأديرة فيها وصولاً إلى براد في حلبّ مؤكّدًا الجذور المشرقيّة النابضة.
-سياق ميثاقيّ بحيث اعاد إلى المادة 24 من الدستور اللبنانيّ وجهها الصحيح، بتشديده على المناصفة الفعليّة، وتركيزه على مقدّمة الدستور القائلة بأن لا شرعيّة لسلطة تناقض ميثاقي العيش المشترك. فاطلق الفلسفة الميثاقيّة التي من أسسها تلاقي الوجدانات الطائفيّة مع بعضها بمن يمثّلها بأكثريتها الساحقة أو المطلقة.
-سياق ثنائيّ وكان هو اللبنة الأولى للفلسفة الميثاقيّة، تكرّس بورقة التفاهم مع حزب الله، ومال الرجاء بأن تشمل الورقة جميع المكوّنات. فتخوّلت الورقة أو الوثيقة، إلى علاقة وجوديّة متفاعلة بين حزب الله والتيار الوطنيّ الحرّ، حيث دعم الأخير الحزب في مقاومته للحرب الإسرائيليّة على لبنان سنة 2006، ثمّ نال أيضًا عدم العماد ميشال عون لحربه على القوى التكفيريّة في سوريا، واستكمل الدعم بعيد انتخاب العماد عون رئيسًا للجمهوريّة، الذي ما لبث أن جدّد الدعم في خطاب القسم بمقولتين، وهما دعم السلاح الردعيّ بوجه إسرائيل، وعدم القتال الاستباقيّ في سوريا. وهو لا يزال جالسًا على رأس الجبل إلى جانب أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله كما قال سماحته في حديثه التلفزيونيّ الأخير.
3-السبب الثالث: لأنّ العهد والحكومة رافضان أن تفرض أميركا عقوبات على حزب الله تحت أيّة ذرائع مختلقة. ففي اللقاءات التي أجراها مؤخّرًا زوار لبنانيون مع الإدارة الأميركيّة، فسّر هؤلاء استعصاء التزام الحكومة اللبنانيّة قرارًا كهذا لأنّه سيكون المنطلق لتحويل لبنان ساحة حرب، فينتهي مفعول الاستقرار. والحزب منتخب بإرادة اللبنانيين، وهو يمثّل الوجدان الشيعيّ بأكثريته المطلقة، وهو جزء من التسوية اللبنانية والحركة السياسية، والتوازن الداخليّ اللبنانيّ مبنيّ على انخراط الحزب بهذه الحركة ضمن موجوديّته الشرعيّة في المجلس النيابيّ والحكومة اللبنانيّة. لكنّ المفاجأة غير المعلنة والتي انكشفت أمام هؤلاء الزوّار، كانت بأنّ عددًا من قيادات الرابع عشر من آدار كان على تواصل دائم وضاغط على الإدارة الأميركيّة من خلال السفيرة الأميركيّة في لبنان ومن خلال شخصيّة لبنانيّة متطرّفة (قبل أن تحتجب تلك الشخصيّة عن السياسة الأميركيّة) لتأمين أرضية الضغط على حزب الله والحكومة بتلك العقوبات الماليّة المشدّدة.
4-السبب الرابع: لأنّ العهد على وجه التحديد رافض لتوطين اللاجئين الفلسطينيين على أرض لبنان، وهذا محدّد في اتفاق الطائف منذ البدء، كما هو رافض وبعد تدفّق النازحين السوريين، أن يتم دمجهم في المجتمع اللبنانيّ بغية تذويبهم فتوطينهم، فيما المجتمع الدوليّ والسعوديّة يصرّان على عودة طوعيّة لهم، ويرفض مبدأ العودة الآمنة، أي أنّه يريدهم منغرسين في لبنان، وهو لا يزال يعتبر بأنّ لبنان لا يزال وطن لجوء ونزوح، ويتعاطى مع المعطى اللبنانيّ من هذه الزاوية.
بناء على كلّ ذلك، استنفرت السعوديّة، وبدعم أميركيّ قويّ، كلّ قوّتها، وبدأت بالحراك الداخليّ عبر سفيرها وليد البخاري، فتمّ تحريك وتجنيد حلفائها للاعتراض والشغب، وافتعال أحداث كانت قبرشمون في قضاء عاليه أولى شراراتها الخطيرة والخطيرة جدًّا، والتي لا نزال نتأثّر بتداعياتها، ثمّ كانت زيارة رؤساء الحكومات السابقين فؤاد السنيورة وتمّام سلام ونجيب ميقاتي إلى المملكة، لتفجّر خطابًا طائفيًّا متصاعدًا تحت عنوان: "المسّ بصلاحيات رئيس الحكومة"، والمسّ باتفاق الطائف، والسعوديّة تعتبر الطائف ليس بنصوصه الميثاقية بل بجمله الخفيّة مطلاًّ ونافذةً لها على المشرق، وعنوان مشروعها في الأساس محاولة ربط سنّة المشرق العربيّ بالقرار الخليجيّ بافتعال الأحداث في سوريا والحرب عليها بغية إسقاط الرئيس بشار الأسد، ثمّ جاءت مسألة المواجهات بين الضباط والعسكر المتقاعدين والجيش اللبنانيّ تحت عنوان الحقوق الماليّة، لتبدو هذه الحقوق مسألة استغلال هدفها إسقاط هيبة الجيش وتحطيمها، ثمّ تمرّد العمال الفلسطينيين بسبب قرار وزير العمل كميل أبو سليمان.
كلّ هذه العناوين انطلقت على دفعات ولكن ضمن لحظة واحدة لتشكلّ حالة محوريّة واحدة عنوانها تقويض العهد وتطويقه ومن ثمّ تطويعه ليقبل بما يفرض عليه من شروط واضحة المعالم والآفاق والأهداف ضمن الأسباب الموجبة المذكورة.
وتتمحور الشروط على النحو التالي:
1-فكّ الارتباط والعهد مع حزب الله فتنقشع الغيوم السوداء عن لبنان، واعتبار حزب الله تنظيمًا إرهابيًّا لا يسوغ التفاعل معه بل يفترض نزع سلاحه بصورة نهائيّة غير قابلة للنقاش.
2-القبول بتوطين الفلسطينيين، إذ ثبت أن فلسطينيي 1948 يستحيل أن يعودوا إلى فلسطين، فمن مات دفن في لبنان ومن ولد بعد ذلك فلن يستطيع العودة، والقدس بحسب الاتفاق الأميركيّ-السعوديّ-الإسرائيليّ عاصمة اليهود الأبديّة-القوميّة فإلى أين يعودون؟
3-القبول بدمج اللاجئين السوريين ضمن البيئة اللبنانيّة، والدمج منطلق للتوطين، ولعلّ السعوديّة تنطلق من جعل هؤلاء أوراق ضغط يسهل استعمالها من لبنان باتجاه الداخل السوري، سواء بالتفاوض أو بتزخيم الضغط في سبيل قبول سوريا بالتسوية، وبعض هؤلاء أوراق انتخابيّة ستسهلك الآن وغدًا في سبيل الانتخابات الرئاسيّة في سوريا.
4-عدم المسّ بالمخيّمات الفلسطينيّة ولا سيّما بالسلاح الفلسطينيّ، وقد بدأ ملجأ للإرهاب المفلّت في الآونة الأخيرة.
وعلى الرغم من انفتاح لبنان على المملكة أو على الولايات المتحدة الأميركيّة، إلاّ أنّ العهد لا يزال برئاسة فخامة الرئيس يعتبر المقاومة جزءًا من النسيج اللبنانيّ، والترابط بين الجيش والشعب والمقاومة قاعدة ذهبيّة حمت لبنان من الإرهاب التكفيريّ والغطرسة الإسرائيليّة، وسيبقى لبنان بحسب العهد متمسّكًا بضرورة العلاقة اللبنانيّة-السوريّة، كما هو متمسّك بالعلاقة اللبنانيّة-الخليجيّة، وهو متمسّك بمصالحة عربيّة تمحو آثام الحروب وآثار الذنوب، وتعيد إلى العرب منعتهم وقوتهم، وقد طرح فخامة الرئيس فكرة المصالحة العربيّة-العربيّة في أكثر من قمّة عربيّة وإسلاميّة، لا سيّما في عمّان والرياض وأنقرة...وهو أي العهد متمسّك بتسوية عادلة في سوريا تفضي إلى مصالحة وطنيّة في الداخل، وبعودة النازحين السوريين إلى قراهم المحررة، والمشاركة في رفعة البلد ونموّه من جديد، وهو رافض لتوطين الفلسطينيين في لبنان كما هو رافض لمبدأ تهويد القدس وجعلها عاصمة أبديّة وقوميّة لليهود، ولاستكمال تهجير ما تبقى من فلسطينيين في الضفة الشرقيّة نحو الأردن أو مصر، ورافض لتفريغ القدس على وجه التحديد من مسيحييها، فهي أرض القيامة كما هي أرض الإسراء والمعراج.
لكلّ هذه الأسباب سيبقى لبنان أرضًا لتحريك عبثيّ بوجه المبادئ التي انطلق منها العهد وأسست للتسوية الرئاسيّة-الحكوميّة. السؤال المطروح: أين سعد الحريري من هذه الخيارات؟ للنتظر قليلاً إلى أن تتوضّح الرؤى ونرجو أن يلامس المقال المقبل الإجابة عن هذا السؤال.