انكبّ اللبنانيون بمختلف تلاوينهم وأطيافهم على قراءة أحداث الجبل الأخيرة بانعكاساتها وتداعياتها انطلاقًا من تفاصيلها ومفرداتها الدامية. لقد أجمع عدد كبير من المحلّلين بأنّها لم تكن وليدة الصدفة، بل انطلقت من تخطيط محكم وهادف، شاء أربابه ومنفّذوه استهلاك زيارة وزير الخارجية جبران باسيل واستغلالها لأخذ الجبل (لبنان الصغير) إلى انفجار غير آنيّ، فيتصدّع لبنان الكبير بانفجار هذا الجزء الحيويّ، ويذهب لبنان إلى نهاية عبثيّة قاتلة.
وقبل الغوص ببعض التفاصيل الضروريّة، ثمّة ملاحظة بنيويّة لا يمكن الحياد عنها في تقييمنا لطبيعة ما حدث، وهي أن مصالحة الجبل كانت حالة فولكلوريّة، أحبّ وليد جنبلاط أن يتلطّى خلفها، ويستعملها حجابًا للتأكيد على أنّ الجبل بجغرافيته وبشره إمارة خاصّة به. هذه الملاحظة أو هذا الاستنتاج أكدتهما أدبياته، منذ الكلام على الانتخابات الرئاسيّة وصولاً إلى النقاش حول قانون الانتخابات، والمرتكزة على الخصوصيّة الدرزيّة حيث الجبل يشكّل ركيزتها التكوينيّة الجوهريّة وصولاً إلى وادي التيم. تختلف أدبيات جنبلاط بالشكل والجوهر، عن أدبيات التيار الوطنيّ الحرّ سواء مع مؤسّسه العماد ميشال عون فخامة رئيس الجمهوريّة، أو مع رئيسه جبران باسيل، المعبّرة عن تلاقي الوجدانات الطائفيّة بخصوصيّة ميثاقيّة واحدة، والاختلاف بهذا المعنى جذوريّ ووجوديّ وجوهريّ. ويتبيّن بفعل ذلك، بأنّ مصالحة الجبل لم تؤدِّ البتّة إلى حياة شركويّة حيّة في الجبل، بعكس ما رام ويروم إليه التيار الوطنيّ الحرّ، حين قال رئيسه بأنّ الجبل وبالتحديد عاليه والشوف خصوصيّة مسيحيّة-درزيّة منذ التاريخ إلى المستقبل.
تنتمي أحداث الجبل، وبالتصنيف الداخليّ، إلى البون ما بين الرؤيتين. التوسّع بهما والوساعة بينهما، أديّا إلى مركزيّة الصدام ورفض منطق زيارة جبران باسيل بالمنظور الجنبلاطيّ ومحاولة مكافحتها ومواجهتها حتّى تفشل في حين أنها نجحت. كما أنّ البون عينه تمركز في خصوصيّة العلاقة العميقة والمتينة بين التيار الوطنيّ الحرّ والحزب الديمقراطيّ الاجتماعيّ برئاسة الأمير طلال أرسلان والتحالف بينهما. "الخصوصيّة الجنبلاطيّة" بهذا المعنى اعتبرتها مروقًا، أو اختراقًا مارقًا للبيت الدرزيّ، إذ قبل ذلك، وعلى الرغم من التباينات الاستراتيجيّة، بين أرسلان وجنبلاط، كانت المراعاة تحفظ وحدة الكيان والتكوين، مع اعتراف أرسلان باستمرار ويديمومة الزعامة الجنبلاطيّة على الطائفة الدرزيّة، إلاّ أنّ الأمر اختلف ووقع الانشطار داخل البيت الدرزيّ، ودومًا وبحسب الخصوصيّة الجنبلاطيّة.
أمام مشهد بلوغ الجبل نحو حافّة الاحتراب، وقف فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون معلنًا وبقوّة بأن ليس من كانتونات أو مقاطعات أو دويلات أو إمارات تعلو على سيرورة الدولة ووحدانيتها، وبالتالي، فإنّ المناطق اللبنانيّة مفتوحة على بعضها، ولا يسوغ لأحد أن يحرم أحدًا من الدخول إليها. يظهر كلام فخامته بأنّ الصراع لا يزال دائرًا بين منطقين، منطق الدولة الواحدة والجامعة حيث الجميع منصهِرون بها وفاعلون فيها وعاملون على رفعتها، ومنطق الدويلات والمقاطعات المغلّف بالفساد وفردانية الزعامات وشخصاتيّتها المتورّمة، وجزء منها متوغّل في الفساد وحمأة الحروب وأياديها ملطّخة بالدماء البريئة المنسكبة على المذابح العدميّة. ما لا يخفى عن كثيرين، بأن اتفاق الطائف بجمله الخفيّة وليست المنصوصة والمنكشفة، المنطلق من توافق ثلاثيّ كان قد أحكم قبضته على لبنان الجغرافيا والمؤسسات والأرض، أسّس لتلك النتيجة المرئيّة والمعمول بها والمجافية حتمًا لنموّ الدجولة واستقرارها. أن تكون بيروت العاصمة ملكًا لشخص أو مؤسّسة فهذا إفراغ لمركزيّة الدولة وولايتها على العاصمة، أن يكون الجبل مقاطعة لزعامة آحاديّة فهذا يصبّ في الهدف عينه، وهذا ما ينساب على بقيّة المناطق اللبنانيّة حيث تبدو في الشكل والجوهر مقاطعات لا يمكن العبور إليها إلاّ من خلال بوابات محدّدة أو زعامات أنتجتها وأفرزتها تسوبات ما بعد الحروب على الأرض بالنتائج الفعليّة والوقائع الدامغة، وهي ليست نتيجة وصاية واحدة بل ثلاث وصايات أسّست لهذا الانتاج القاسد والعبثيّ والمقيت.
القضيّة المركزيّة بهذا المعنى مكنونة بهذا الصراع الذي يقوده رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون لترسيخ وحدانيّة الدولة ومركزيّتها من الشمال إلى الجنوب ومن العاصمة إلى الجبل فالبقاع. النظام السياسيّ المولود من رحم الجمل الخفيّة لاتفاق الطائف، أمسى هشًّا ومعطوبًا بعدما أصيب بالندوب والقروح، وبعدما تجوّف من مضمون الإمساك الكرهيّ-الأخروي، ليبدو في هذا الظرف الحاليّ والواقعيّ متفلّتًا من أي إمساك وتماسك داخليّ، ومتفلّت ومتلاش بسبب تعدديّة الممسكين به من الخارج والداخل، والمتصارعين عليه وعلى تركته، ورهنه ماليًّا وسياسيًّا بالخارج ضمن عناوين كثيرة، منها مسألة النزوح السوريّ والمخيّمات الفلسطينيّة، والعقوبات على حزب الله بشخصيات معروفة وفاعلة مرورًا بما حصل في الجبل مؤخّرًا.
يدلّ كلّ ذلك، إلى ان لبنان بات في عين العاصفة المنطلقة من مؤتمر المنامة في البحرين. إنها عاصفة معانٍ ظاهرة وخفيّة، وقد بدأت تتمركز بإرهاصاتها في لبنان. تؤكّد بعض المعلومات، بأنّ أحداث الجبل تنتمي بالضرورة إليها، وهي تتكامل مع التمرّد الحاصل في السويداء في حوران والعقوبات على حزب الله. لا شكّ أن المنسوب المرتفع والمتوتّر عند الجنبلاطيين عبّر عن إفلاس، لكنّه في الوقت عينه انطلق من إرادة دوليّة غير محسوبة ومن ثمّ محسومة بالنتائج. فقد ظهرت بتعابيرها الفاجرة وألوانها الداكنة، خلال وجود ديفيد ساترفيلد في لبنان، وهذا بحدّ ذاته له مدلولاته ومعانيه. وتشير شخصيّة مصرفيّة مرموقة تقيم في لندن بأنّها التقت على مأدبة غداء مع مجموعة دبلوماسيين من جنسيات متعدّدة، وكانت الأحداث من اليمن إلى سوريا ولبنان محور النقاش بما يمكن أن تؤول إليه بالنتائج المحقّقة حتى الآن والقابلة للتحقيق في غضون الأيام القادمة. أحد الدبلوماسين الحاضرين وهو صديق للمصرفيّ وهو بريطانيّ نظر إلى الأخير وقال له: "يا صديقي انتبهوا إلى وجود ديفيد ساترفيلد في بلادكم، إنّه دبلوماسيّ متورّط وغير نزيه، مهمّته الضغط على الحكومة اللبنانيّة لصالح إسرائيل في موضوع ترسيم الحدود البحريّة"... وأردف قائلاً: "إنّ أحداث الجبل انطلقت بأمر أميركيّ مباشر لوليد جنبلاط لأخذ لبنان إلى محطّة الانفجار الصعب والضاغط على الحكومة بغية تحقيق مجموعة تنازلات لصالح المحور الأميركيّ-الإسرائيليّ، في أربعة مسائل دقيقة:
1-القبول بتوطين اللاجئين السوريين والفلسطينيين على الأرض اللبنانيّة دون قيد أو شرط.
2-فكّ الارتباط مع حزب الله، والشغب اللبنانيّ الداخليّ يصبّ في هذا الهدف.
3-استهلاك لبنان ليكون ممرًّا لإمكانيّة أو محاولة إسقاط النظام السوريّ برئاسة الرئيس بشار الأسد مجدّدًا إذا قدروا على ذلك، كما هو وراد في التعبير الفصيح.
4-تنازل الحكومة اللبنانيّة عن شروطها الجوهريّة في مسالة ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل بمكنوناتها النفطيّة والغازيّة.
ويعتقد هذا الدبلوماسيّ البريطانيّ، بأنّ لبنان، وبهذه العناوين الواضحة، عاد ساحة من ساحات الاشتباك الأميركيّ-الإيرانيّ، وساحة من ساحات التفاوض الروسيّ-الأميركيّ. وتشير أوساط سياسيّة عارفة واستكمالاً لتلك القراءة، بأن وليد جنبلاط قام في الآونة الأخيرة بتشبيك الجبل بما حدث ويحدث من تمرّد في حوران لا سيّما في السويداء على الدولة لا سيّما من خلال ما يسمّى بمشايخ الكرامة. وتقول المعطيات بأن لا فصل بين أحداث الجبل وأحداث حوران، ذلك أن وليدًا يحاول قدر الإمكان فكّ "العزلة"، او محاولة "عزله" كما رأى هو، بعمليّة ربط مناطقيّ بين الجبل اللبنانيّ وجبل الدروز من جهة، بخصوصيّة واحدة متمرّدة على بشّار الأسد في سوريا، وميشال عون وحزب الله في لبنان، بتغطيّة أميركيّة ودعم خليجيّ كبير. إنّ الخلاف بين وليد جنبلاط وحزب الله بدأ بمزارع شبعا وهويتها، ولكنّه أخذ بالعمق إلى هذا التحريك المفتعل في الجبل والمتماهي مع التحريك في حوران، وقد رفضه الحزب جملة وتفصيلاً، وكلام محمود قماطي العميق والحازم يصبّ بدوره في هذا الاتجاه.
ختامًا، لم يعد هذا النظام يملك القدرة على الاستمرار بحلّته الحاليّة. لبنان في قلب مجموعة مواجهات داهمة تستهلك العناوين المتفجّرة، مستندة على منطق واضح بأنّ النقائض مصدر للنقائص، والعقد تجترّ نفسها في كلّ لحظة ومحطّة. مصادر قريبة من رئيس الجمهوريّة تقول بأن فخامته لم يعد يحتمل الصبر حين يرى بأن مشروعه وهو بناء الدولة الجديدة الكليّة الصلاح مهدّد بالسقوط. رئيس الجمهوريّة ووفقًا للمصادر عينها يمرّ بمرحلة الهدوء الغاضب، وهو لن يألو جهدًا باستكمال الحوار مع الجميع، لكن حين يتآمر بعضهم على الدولة، ويتسلّل منطق الدويلات والمقاطعات ليعلو على حساب وحدة الدولة بإمرة خارجيّة ومؤامرة داخليّة جينئذ سيتحوّل الغضب الهادئ إلى عاصفة للحق بوجه الباطل، وسيرى اللبنانيون ذلك حين يطلّ الرئيس بجبروته ومهابته ومحبته ليشير بالإصبع إلى كلّ فاسد ومتآمر على لبنان، وبعد ذلك سيعلن سقوط النظام السياسيّ بهؤلاء المتآمرين على لبنان، ليطلّ ونطلّ معه على مرحلة جديدة يؤمل أن تتكلّل بالنور.