بيروت ـ جويل رياشي
يعيد غسان حلواني، على طريقته، وضع الأصبع على جرح قضية المخطوفين والمفقودين في الحرب الأهلية اللبنانية من خلال فيلمه الذي حمل عنوان «طرس... رحلة الصعود الى المرئي». يريد عبر شريطه جعلها قضية لا تموت على رغم عدم التمكن من الوصول الى أي من المفقودين الذين تخطى عددهم الـ 17 ألفا.
أنهى حلواني فيلمه الذي امتد لأكثر من ساعة، وهو باكورة أفلامه الطويلة، بالشهادة بتأكيد رفض بعض أسر المفقودين إعلان وفاتهم والقبول باقتراح اللجنة التي ألفتها الدولة اللبنانية، بتشييد نصب تذكاري جماعي، والتعويض على أسرهم بمبلغ مالي رمزي لا يتعدى الخمسة ملايين ليرة (اي ما يعادل الألف دينار) عن الفرد!
انتهى الفيلم بإبراز حلواني إخراج قيد عائلي، تضمن الوصول بالزمن الى يوم إعلان وفاته وشقيقه مع والدتهما وداد حلواني (رئيسة لجنة المفقودين)، وإبقاء اسم والده المفقود منذ 35 عاما عدنان حلواني في عداد الأحياء، وعدم شطبه من سجلات النفوس وهكذا اختلط العام بالخاص وتكشفت هوية منجز الفيلم ابن احد المفقودين، ما أكسب الفيلم المزيد من الحقيقة القاسية.
وكان الفيلم قد بدأ بمشهد تحريك لشاب وصبية يمشيان الى الأمام ولكنهما يبدوان واقفين في مكانهما. هما ولدا الراحلة أدويت سالم (توفيت بعدما صدمتها سيارة في 2009 في طريقها الى خيمة الاعتصام المخصصة للمفقودين قرب بيت الاسكوا في وسط بيروت)، اللذان رفضت والدتهما تسجيلهما في عداد الموتى، ما أثار حفيظة مالك منزل العائلة الذي كان يريد استرداد ملكه. والصورة نفسها تعود في نهاية الفيلم لتخبرنا ان النهاية لاتزال معلقة.
ولعل المشهد الأكثر قساوة وقهرا في الفيلم هو حفر حلواني بواسطة آلة لقطع الورق في حائط بأحد شوارع بيروت، بحثا عن صور لمفقودين طمست بسماكة دسمة من الملصقات فوقها. أغرقنا، الى حد الملل القاهر، في «دهاليز» الجدران والحفر العميق فيها بحثا عن صور أناس اتفق أمراء الحرب على طمسهم. استخدم حلواني لغة الصمت والصور الثابتة، لينقل إلينا كيف يتوقف الدهر أحيانا عند أهالي المفقودين بعد توقف حصولهم على إجابات يبدو انها قد لا تأتي.
اعتبر الحضور في النقاش الذي دار مع المخرج غسان حلواني بعد عرض شريطه للمرة الأولى أمام العموم في بيروت (صالة سينما صوفيل في الأشرفية التي باتت مخصصة لعروض غير تجارية)، ان قضية المفقودين والمخفيين قسرا باتت ملك الجميع، وتستحق بالتالي الإضاءة عليها من خلال الجذب الى التفكير فيها وليس التركيز على الشعور بالقهر والتعاطف مع الأهالي.
وتقبل حلواني الانتقادات في النقاش الذي تلا العرض، كيف لا والهدف جعل قضية المفقودين قضية وطنية وشعلة لا تنطفئ قبل الوصول الى ما يشفي غليل الأسر التي لاتزال تنتظر ولم تتعب.
حكاية تشبه الطرس (الجريدة التي يعاد تظهيرها بعد اختفاء حروفها) عبر «نبش» ما تبقى من صور وأشياء، على قلتها. عودة الى الصور التي لم تفارق من بقي من الأهل والأشقاء والرفاق والتي تقض مضجع من نفذ «الجريمة» بحرفية في شقيها: الإخفاء والإخفاء!
فيلم حلواني اختير لافتتاح الدورة الرابعة من مهرجان الأفلام حول حقوق الإنسان والهجرة الذي حمل عنوان (ما بقى إلا نوصل)، من تنظيم مؤسسة هينرش بل ـ مكتب بيروت بالاشتراك مع السفارة السويسرية.
لقد قدم حلواني شريطا يخلد من قال عنهم في شريطه انهم ضحية جريمة اشترطت في نجاحها على شيئين: ارتكاب الجريمة ثم طمسها.