أجمل وصف أطلق على الروح القدس أنّه المعزّي وروح الحقّ والمالئ الكلّ. يعيدنا هذا الوصف إلى حوار السيّد مع تلاميذه خلال العشاء الأخير قبل آلامه وموته، حين قال لهم: "متى جاء ذاك روح الحقّ، فهو يرشدكم إلى الحقّ كلّه، يأخذ مما لي ويخبركم" (يو16: 13-14) ليكمل فيما بعد قائلاً: "وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. (يو15: 26).
بهاء الروح بجوهره، أنّه المعزّي وروح الحقّ، أنّه الكلّ في الكلّ، لا حياة من دونه، ولا سرّ يحصل في الكنيسة بلا استدعائه. إنّه الملك السماويّ كما نسمّيه في الكنيسة، وهو الحاضر في كلّ مكان وصقع. منذ بداءة التكوين كان يرفّ على وجه الأرض، يبعث فيها الحياة من عند الله. من الأزل إلى الأبد هو، واصل الأجيال كلّها ببعضها البعض، يتكلّم فيها ويرشدها إلى الخير والحقّ والجمال، متدفّق ومدفق للينابيع، باعث الضياء ومرسّخ للمواهب ومقسّم لها، ثابت على العرش الإلهيّ، وبه كما بالكلمة تمّ الخلق وأعطيت الحياة للبشريّة، ثمّ يجعل السماء تتكلّم على الأرض وتبدي خيراتها للبشر. لا حياة من دونه، وإذا ما أدركنا الموت فهو يتلقفنا بحبّ الله ورحمته بعدما مسحنا بزيت الابتهاج، وختمنا بالمعموديّة بميرونه المقدّس، فيبقى الابن والروح مضيئين ظلمة القبر، إلى أن يقيمنا الضابط الكلّ في اليوم الأخير بالابن الحبيب، والدعاء أن ينقلنا الروح في هذه اللحظة إلى الآب قبل أن ينقلنا إلى التراب، التوق أن يبطل الروح ترابياتنا المكدّسة لنصير أرواحًا متلألئة ومضيئة في العالم.
إنّه ثالث الثالوث، الآب والابن والروح القدس. هو الكائن في الآب والظاهر على التلاميذ بألسنة ناريّة. قبل حلوله بالألسنة حلّ في المعموديّة أي في الظهور الإلهيّ في نهر الأردنّ بهيئة حمامة، وقبل الظهور حلّ بشكل نجم فوق مذود بيت لحم في ميلاد المخلّص ليرشد الملوك والمجوس والرعاة إلى مذود ملك الكلّ فيها، وفي التجلّي على جبل ثابور ظهر بشكل سحابة منيرة غطّت الجبل والسيد الرب المتجلّي عليه واقفًا في الوسط بين موسى وإيليّا وهما يتخاطبان معه إلى أن صارت ثيابه بيضاء كالنور. وفي الآلام كان الروح معه في بستان الزيتون يشدّده مع الآب أبيه، وما انفصل عنه لحظة علّق على الخشبة، لقد كان فيه، إلى أن أسلمه في الموت، فكشف مجده لحظة دخوله في هؤلاء المقتولين منذ البدء، فانبسط اللحم على العظم فحيوا من جديد وخرجوا من القبور كما رأى أشعياء النبيّ، وكثيرون من أجساد القديسين الراقدين خرجت وظهرت لكثيرين. كان الروح يتحرّك بين موت المسيح وقيامته، ليكشف ان الابن كلمة الله وأقنومه الثاني المتألّم والقائم من بين الأموات، لقد كان فيه متحرّكًا حتى اللحظة التي فيها صعد إلى السماوت، حينئذ ظهر في اليوم الخمسين على أخصّائه الجالسين في العليّة بألسنة ناريّة.
ليس في الإناجيل الأربعة خبر عن هبوب الروح بل هو موجود فقط في سفر اعمال الرسل، حيث انكشفت الرواية بتفاصيلها الكاملة. الرواية بحدّ ذاتها نتيجة حتميّة لما أوصى به يسوع في ليلة الآلام خلال العشاء الأخير وما جاء على لسانه بعد قيامته. لقد دخل إلى التلاميذ والأبواب مغلقة، وقال السلام لكم كما أرسلني الآب كذلك أنا أرسلكم، بمعنى أنّه يرسل نفسه بهم ويفعّل كلمته بالروح القدس إذ نفخ فيه وقال لهم: "خذوا الروح القدس من أمسكتم خطاياهم أمسكت"، كان هذا التكوين الثاني لخليقة جديدة وحياة جديدة صنعتها قيامة المسيح لبشرية لا تموت لأنّ الروح مقيم فيها وساكنها إلى الأبد، وهو ممدود بطبيعة نموّه وجوهره إلى كلّ الأجيال، وفي الوقت نفسه يؤسّس يسوع بنفخه الروح القدس سرّ الكهنوت بتلاميذه، كما أسّس ليلة آلامه وفي العشاء الأخير لسرّ الأفخارستيا، أي لسرّ الشكر. لقد نفخه الرب يسوع كما نفخه الله حين خلق العالم. "إذهبوا وتلمذوا الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح والقدس، وعلّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به، وها أنا معكم كلّ الأيام إلى انقضاء الدهر، آمين".
كان لا بدّ وفي كمال جديد عدّ بالخمسين يومًا أن يهبّ الروح على التلاميذ. تشير الرواية أنهم كانوا في العلية مقيمين خوفًا من اليهود، إلى أن أحسّوا بعاصفة ناريّة هوجاء. كان ذلك متوقّعًا، لأنّ يسوع وعدهم بإرساله ليكون معهم وفيهم، إنّه المعزّي والقوّة والكرم والحبّ والسلام والحياة، "كنز الصالحات ورازق الخيرات". هبّت العاصفة الناريّة بقوّة إلى أن ظهر الروح بشكل ألسنة ناريّة دخلت جوف كل واحد من المجتمعين ليصير الجوف نورًا وينبوع نور، والنار مصدر للتطهير. فابتدأوا كلّهم ينطقون بلغات مختلفة. كلّ اللغات تحركت بالنار والنور حتى النطق، بل إنّ النار والنور صارا الكلمات المنطوق بها للناس، العبريّة والعربيّة واليونانيّة والآراميّة. الروح القدس بالعنصرة كسر قيود القوميّة المنغلقة عند اليهود الأوّلين، وكشف لليهود بأنّ المسيحيّة وإن ولد مسيحها من نسل داود لكنّها لن تنحصر في ملك أرضيّ ولن تتغلّف بهويّة دون أخرى، أو تفوق الأخرى شأنًا. فكما هي قياميّة ظافرة، فهي بدورها عَنصريّة وليست عُنصريّة، هي كونيّة وليست قوميّة، إنّها كلمة الأزل في التاريخ وليست كلمة تذوب مع ذوبان التاريخ، إنها العالم الجديد المتسع ولا تستقرّ فيها ثقافة الحروف المغلقّة، إنّها الروح وليست الحرف. هذا تمّ التماسه في هذه اللحظة بالذات، لقد انسكبت لغات العالم كلّه بثقافاتها ومكنوناتها وتراثاتها على التلاميذ وما كانوا يتقنونها أو يعرفونها أو يتكلّمون بها، أو ذوّاقة لأدبياتها، هذا هبّ في لحظة في طرفة عين ليجعل يسوع مقيمًا في الكون، في العالم القديم والعالم الجديد، من أورشليم إلى روما، وهو قائم في أصقاع الكون كلّه. لقد كسر الرسل المتحرّكين بالروح منطق الانحسار في أورشليم، وتملّك أورشليم للرسالة، لم يعد ثمّة "غويم" أي الأمم الغريبة، كل الناس مخلّصون بالنعمة والحقّ اللذين ظهرا بالمسيح يسوع وبواسطة الروح القدس.
العنصرة هي الحدث المتمّم للفصح العظيم. لقد قام المسيح من بين الأموات ليبقى حيًّا في الكون مقيمًا في أزمنة الناس والبشر، غير منفصل عنهم بالحبّ الكثيف. وفي العنصرة انحدر الروح الإلهيّ ليبقي يسوع يحرّك التاريخ ويتحرّك به، وليبقيه رأسًا لكنيسته حتى لا تتمزّق وتتحطّم، وليجعله راقدًا في ليل الثقافات والأديان على حدّ تعبير المطران جورج خضر، وليعلن أن ليس من إله عظيم سواه لا قبل ولا بعد وهو خاتمة الألوهة لأنه كمال كلّ شيء وبه عاد كلّ شيء إلى الوجود، إنحدر الروح القدس ليبقي المواهب متأججة وكل موهبة تخبر عن بهاء الله بسرّ الثالوث وهو سرّ الحبّ الواحد والوحيد، وليجعل الأسرار إلهيّة، فلا المعموديّة تعني التغطيس بالماء فقط بل الروح يدخل في المياه ويعلن للمعمّد بأنه شريك في المسيح ومعه وقائم معه من الموت، ولا الكهنوت يستقرّ إن لم ينحدر الروح على المزمعين أن يصيروا شمامسة وكهنة وأساقفة كخدّام للأسرار الإلهيّة، فهو جوهر النعمة الإلهيّة التي للمرضى تشفي وللناقصين تكمّل، والتي تنتدب المرشّحين ليخدموا الربّ، ولا المناولة تكون إلهية إن لم ينحدر الروح على الخبز والخمر ويصيّرهما جسد الرب ودمه، ولا الزواج يكون مقدّسًا إن لم يتفاعل الروح في الرجل والمرأة لحظة يتكللاّن على اسم الآب والابن والروح القدس، فيصيّرهما جسدًا واحدًا، إنّه موحّد المتفرّقات إلى حال واحد.
أيها المسيحيون، في يوم العنصرة العظيم، إسمعوا إلى نداء الروح فيكم، أتركوه ينفجر وينهمر من جديد ألسنة نارية عليكم لتتطهّروا وتصيروا بالفعل خليقة جديدة، لتعرفوا في عينيّ الرب أنكم أبناؤه ولستم من هذا العالم. أتركوا الروح يطهّر الألسنة والقلوب وينير العقول، ويتحوّل في شوارعنا ومدننا كي تعود لله وحده، أتركوه يهبّ في عائلاتنا لا سيّما المشتّتة والممزّقة منها ليجتمع أفرادها من جديد وتلتئم في محبة يسوع المسيح وتكون له واحدة، أتركوه ينفجر غضبًا بالنار على من ممزّقوا الكنيسة إربًا إربًا من أجل مجد السلطة عندهم ليضمحل بهم مجد المسيح، إنهم الفريسيون الجدد، أتركوه يوحّد أبناءه المسيحيين في العالم ليتقدّسوا بالماء وبه من جديد، ليكونوا أبناء ليسوع، فلا يقوى عليهم أي جحيم لأنّ رسالتهم أن يثبتوا ويثبّتوا ربّهم إلى الأبد.
أيها الروح الكليّ قدسه هلمّ تعال وطهرنا من كل دنس، واغسلنا بالماء والروح وخلصنا من كلّ جحيم في هذا العالم حتّى يتمجد الثالوث القدوس وأنت ثالثه في الكون ويصير العالم سماء لله ونصير بدورنا قامات من نور.