ثمّة صفات أطلقت وستطلق على جبران جرجي باسيل إبن مدينة البترون، والصفات مقتبسة من تصاعد نجوميّته السياسيّة وبلوغها نحو الذرى في تماهي الصراع ودورانه ما بين الداخل والخارج، فجبران ليس الوزير ورئيس تيار ولد من رحم النضال بل هو حالة مستقلّة فريدة وقف ويقف الجميع أمامها بترجّح واضح ما بين التهيّب والخشيّة من جهة وما بين الاطمئنان من جهة أخرى، والفرادة تستجمع مفرداتها هنا فيما يظهره للكثيرين.
إنّما صفتان تغويانني وتسهويانني بصورة خاصّة كما تستهويان كثيرين من الذين عاينوا ويعاينون ولا يعانون. إنه المبدع والخلاّق. يستحقّ جبران تلك الصفتان عن سوبر جدارة، وهاتان الصفتان قلّما نراهما ونقرأهما عند العدد كبير من السياسيين المعاصرين والحديثين، ويكتسبهما من أمرين لا بدّ من إيرادهما:
1-الأمر الأوّل: أنّه جسّد رؤية لم ترد لحظة واحدة في الأدبيات السياسيّة اللبنانيّة سوى عند المغفور له السفير فؤاد الترك، وهي: جمع لبنان المقيم بلبنان المنتشر، وكان فؤاد رافضًا رفضًا مطلقًا تسمية الاغتراب فتمسّك بالانتشار، واعتبره كنزًا لا يفنى. وكاتب هذه السطور شاهد على ولادتها كفكرة حاول فؤاد تجسيدها غير مرّة فذوت بالصدى. أتى هذا الشابّ بديناميّة لاهبة ومضيئة فتبنّاها بعدما انسكبت فيه، فبات مسألة اجتماع لبنان المقيم بلبنان المنتشر هاجسًا وجوديًّا وحيًّا. اقتحم جبران الحجب الطائفيّة والمذهبيّة ليبدّدها بقوّة المنطق وبروح وطنيّة. سافر إلى كلّ دول الانتشار، حضّ اللبنانيين المنتشرين على الانوجاد الوجوديّ في قلب لبنان الفكرة والمدى، واستجمعهم إلى مؤسّسة سميت بال LDE إلى أن بدأت تتوسّع رويدًا رويدًا من لبنان إلى أميركا إلى كندا إلى جنوب إفريقيا إلى البرازيل إلى فرنسا... جالت المؤسسة معظم الدول وعقدت مؤتمراتها فيها، وعقدت العزم على أن تعقد مؤتمرها السنويّ في لبنان كلّ سنة، ليصير هذا المؤتمر جزءًا من تراثنا وأدبياتنا لتبدو الملاقاة على أرقى وأبهى وأكمل وجه بين لبنان المقيم والمنتشر، بين اللبنانيين "الهنا" و"الهناك"، وتبدو في تجلياتها مركزًا كبيرًا بل موقعًا مركزيًّا يولّف بين نسيج المجتمع الداخليّ ونسيج المجتمع الخارجيّ في مجموعة إبداعات واستثمارات تأخذ طريقها باتجاه الإثمار. فحشد وجيّش الشركات على مختلف أنواعها السياحيّة والغذائيّة وهندسيّة وعمرانيّة وحرّك القطاعات الصناعيّة والمؤسسات الثقافيّة، وأطلقها بين الداخل والخارج. لم يكن هذا سائدًا في التلاقح والتناضح، الوسيلتان طريقان لكشف الرسالة اللبنانيّة بتعدديّة وسائلها وأذواقها، فزيت الزيتون والنبيذ اللبنانيّ والمطعم اللبنانيّ والكتاب وسائل رساليّة تظهر لبنان الفكر والصناعة كحقيقة كيانيّة لا يمكن الحياد عنها في العالم. وثمّة إحصاءات أظهرت مؤخّرًا أن المطاعم اللبنانيّة في الخارج موطئ لرواد أجانب أمسوا ذوّاقة للمائدة اللبنانيّة الطيبة، وهم يطلبون ذلك بإلحاح.
2-الأمر الثاني: بيت المغترب في البترون. إنّه إبداع حاكه عقل جبران ونحته قلبه. قبل ستّ سنوات، كان المكان مجرّد خرائب متروكة ومهجورة وزرائب للماشية. فأمسى لؤلؤة تراثيّة فائقة البهاء. ليست أهميّة الموقع بالحجارة بتراصفها المتين والجميل أو بالعقد الذي يذكّرنا بتراثنا اللبنانيّ والمشرقيّ كهويّة حضاريّة عمرانيّة، بل بأنّه تحوّل إلى كيان يضمّ المغتربين والمقيمين، إلى كيان تترسّخ في رحابه العلاقات والروابط، فتبدو اللبنانيّة حقيقة وفعلاً.
يفترض بالقارئ هنا أن يتذكّر بأن الكلام على اللبنانيّة الظاهر في خطاب جبران باسيل ليس منفصلاً عن الدائرة المشرقيّة، فاللبنانيّة كصفة وخيار تجيء من الكيان وتعبّر عنه بالاستدلال وليس بالاستقلال عن المحيط، فهي هوّية حقيقيّة كما السوريّة أو العراقيّة أو الفلسطينيّة هويّات قائمة بحدّ ذاتها ومستقلّة ضمن الخصوصيّة الكيانيّة لكلّ كيان، فالهويّات المذكورة تعبّر عن نفسها بخصوصياتها ولكن في الوقت لا تنبذ التكامليّة بأبعادها والتكامليّة تؤلّف الهويّة المشرقيّة ببعديها الحضاريّ والتاريخيّ والروحيّ.
خيار جبران باسيل أن تكون البترون مركزًا لهذا البيت استراتيجيّ. البارحة قال بأنّه يجب بلدته، وكأنّه قال بأنّ هذا هذا الإنجاز تمتمة كبيرة لهذا الحبّ المحتدم في قلبه. لقد أوصانا الرجل بأن تكون كل قريّة مقرًّا لهذا اللقاء الحضاريّ الفريد. لن تكون البترون وحدها المقرّـ هذا المنزل سيتشعّب غلى كل لبنان من الشمال إلى الجنوب، ومن البحر إلى الجبل فالبقاع. من الأهميّة بمكان أن تحظى جبيل مدينة الحرف بأن يشيّد فيها بيت للمغتربـ إنّها والبترون توامان للإطلاله القديمة جدًّا على أثينا وأوروبا، وهما مثالان للقاء لبنان المقيم بلبنان المنتشر، مثلهما مثل صيدا وصور وطرابلس. كلّ مدينة لبنانيّة إطلالة كونيّة على العالم بكل فرادة مكنونة فيها. وكل قريّة في لبنان تروي نضال المنتشرين من أبنائها وإبداعاتهم في العالم. أوّل قرية في لبنان انطلق منها الانتشار كانت بلدة صليما أول مغترب من آل مشعلاني ينتمي إليها. وإذا تكرّم القرّاء وسمحوا بتوصية شخصيّة أتمنّى أن تحظى بلدة سوق الغرب في قضاء عاليه ببيت للمغترب لأنّ تراثها قائم على اللقاء بين الجميع، وقد كانت موقعًا سياحيًّا كبيرًا بفنادقها الكبرى، كما كانت مركزًا تربويًّا عبر مدرستها التي جمعت العرب في أرجائها، كما أتمنّى أن يتحوّل بيت الاستقلال في بلدة بشامون إلى هالة يقرأ فيها المنتشرون تاريخ لبنان، ومقرّ لقاء بين لبنان المقيم ولبنان المنتشر، من دون نسيان بلدة جبران خليل جبران بشرّي بحيث متحفه قادر أن يكون صلة وصل بين المقيم والمنتشر فضلاً عن بلدة بطرّام في الكورة بحيث يقام فيها متحف لشارل مالك يضمّ كلّ آثاره الفكريّة والفلسفيّة، بالإضافة إلى أن تكون زحلة جارة القمر مدى لمتحف للشاعر الكبير سعيد عقل فيضمّ بدوره آثاره الشعريّة والكتابيّة. هؤلاء العظام كتبوا مجد لبنان العظيم، ورسالة لبنان تكمن بإنتاجاتهم أي بالكلمة وهي قلب الفكر ومحور الجمال، لبنان المقيم والانتشار يجب أن يتذكّر حسن كامل الصبّاح ورمّال رمّال ووليد عقل...
نعود لخيار جبران الاستراتيجيّ بأن تكون البترون مركزًا لهذا البيت، لنبدي بأنّ أهميّة القرار مرتكز إلى كون المدينة معبرًا ما بين الشمال والجنوب مرورًا ببيروت، بل معبر نحو العمق السوريّ مثلها مثل طرابلس. وبدوره سيكون البيت مقرًّا ومستقرًّا للوافد والخارج. لقد أعادنا البيت في البترون إلى أصلتنا وهو بشكله الخارجيّ ومضمونه الداخليّ راوية للأصالة بالمتحف المتضمّن لمخطوطات وصور ورسوم قديمة. هذا البيت مرآة لقيمنا وتراثنا الأصيل، وهو رسالة إنسانية ووطنيّة بل كونيّة من قلب البترون غلى العالم كلّه، وفيه تتجمع هذه الكونية بهوياتها العالميّة، من أميركيّة وروسيّة وفرنسيّة وإماراتيّة... ولكن بجذور لبنانيّة نابضة.
هذا المقرّ إبداع لبنانيّ بامتياز، وكشف لنا بأن جبران باسيل ليس وزيرًا للخارجيّة وليس سياسيًّا فقط وليس رئيس تيّار أو تكتّل، بل هو المبدع والخلاّق، ولأنّه المبدع والخلاّق سما نحو المتجليّات الكونيّة بقيمنا اللبنانيّة. لقد بات حالة خاصّة وهالة مضيئة، وهو بحدّ ذاته معادلة صعبة تقتحم المستحيل فتحوّله إلى حقيقة معيشة، يستحبّها كثيرون ويخشى منها آخرون.
جبران باسسل حالة فريدة ورقم صعب حوّل الصحراء إلى جنّة حقيقيّة. جبران باسيل هو المبدع والخلاّق على كلّ المستويات.