حاج، أخاطبك في عليائك حيث لا موت بل حياة أبدية، لإيماني بأن من عرفك من النخب سيقرأ هذا المقال ويشعر أنه أمام بورتريه نثري لإنسان يستحق كل هذا التعظيم، وأن يُرسم بالكلمات والفرشاة لا لتعلق صورته في صدر التاريخ، بل ليُحفر اسمه في وجدان أمة لن تموت.
لن أتوقف عند آراء البعض، فغايتي أن أقول كلمة حق: إن كانت الأمم تُقاس بعظمة رجالها، فالشهيد الحاج محمد عفيف كان مقياسًا فريدًا لتلك العظمة، قامةً لا تُكرَّر وخسارةً فعلًا لا تُعوَّض. فبعض الرجال، حين يرحلون، لا يُدفنون… بل يتحوّلون إلى أسئلةٍ حيةٍ في الضمير والعقل، تُوقظنا كلما غفونا عن المعنى الحقيقي للوجود والقيم.
فالنُبلُ الأصيل لا يُكتسب من تجارب الحياة فحسب، بل هو هبةٌ إلهية، سرٌّ يُودع في جوهر الإنسان، يتفتح فيه كزهرة نادرة حتى يصير طبعًا أصيلاً ومعدنًا نفيسًا لا يصدأ. وهكذا كان الشهيد محمد عفيف... رجلًا خُطّ اسمه في لوح البطولة قبل أن يُكتب في سجلات المناصب أو لوائح التنظيم.
منذ اللحظة الأولى للقائه، كنت تشعر أنك أمام صديق، بل ربما توأم لروحك وفكرك.
الحاج لم يرَ القيادة يومًا منصبًا، بل مسؤولية ثقيلة بحجم أمة، وعبءً جسيمًا بحجم مصير شعب.
ولأن القائد الشهيد السيد حسن نصرالله كان يدرك بعمقٍ أي وجهٍ يجب أن يمثّل المقاومة، فقد كان حريصًا على أن يكون ممثله صورةً من ذاته: متواضعًا، جادًّا، ملتزمًا، دقيقًا، يُجلّ الصغير قبل الكبير، ويهرب من الكبر والتعالي كما يهرب المؤمن من الرجس. وهكذا جاء الحاج محمد عفيف انعكاسًا روحيًّا ونورانيًّا للسيد القائد. وعلى الدرب ذاته، وكما ارتقى السيد شهيدًا، أكمل الحاج عفيف المسيرة ليرتقي شهيدًا بدوره، مثبتًا أنه سيظل حيًّا فينا، ساكنًا في ذاكرتنا وعقولنا.
لم يتعامل مع منصبه كامتياز شخصي، بل كتكليفٍ ومسؤولية. كحملٍ ثقيل لا يقوى عليه إلا من تخلّى عن ذهنية "الموظف" الخائف، وارتقى بوعيه إلى مرتبة "المؤتمن" الشجاع، الذي لا يتهرب من القرار، بل يصنعه بجرأة، ويهيّئ للغد كما يُعدّ المقاتل ساتره في ساحة المعركة.
كان يدرك تمامًا أن التعامل مع العقول مسؤولية شاقة ومُضنية، لا يُحسن فنونها إلا من نهل من ينابيع المعرفة الصافية، واغتسل بثقافات متعدّدة ومتنوعة، وانفتح صدره لكل فكرٍ بنّاء دون أن يتنازل قيد أنملة عن ثوابته الراسخة.
كان مزيجًا فريدًا من الأناقة الفكرية والأسلوب المحبب الجذاب للنخب الثقافية، مقرونًا بتواضعٍ جمٍّ وعميق غير مُصطنع. فقد كان قادرًا على الجلوس مع أي شخصية مهما علا شأنها وكأنه خريج أعرق مدارس البروتوكول، وفي الوقت نفسه، قادرًا على الجلوس مع عابر سبيلٍ ببساطةٍ دون أن يُشعِرك بأي فرق.
لماحًا، شديد الملاحظة، يقرأ من حوله كما يُقرأ كتاب مفتوح، سريع البديهة، دقيق العبارة، يسبق انفعالك بابتسامته الودودة، ويطفئ جمرة قلقك بكلمة هادئة وحكيمة.
وكان الحاج يتعامل مع المثقفين بتقديرٍ عميق، مدركًا أن انتماءهم إلى المقاومة ليس ترفًا فكريًا أو هواية عابرة، بل هو التزام بقضية قد تكلفهم حياتهم. ولذلك، كان يثمّن هذا التقارب أيّما تثمين، ويعتبره إنجازًا حقيقيًا يصبّ في صالح فكر المقاومة ووعيها الجمعي.
وكانت غايته واضحةً وطموحة: بناء منظومة نخبوية، ثقافية وإعلامية، قادرة على المواجهة الفكرية، وصناعة الفكرة، وإنتاج المعنى، بما يرسّخ خطابًا يليق بالمقاومة وموقعها الإقليمي المتنامي.
لم يكن الحاج محمد عفيف متطفّلًا على الكلمة، ولا مدّعي معرفة، ولا ساعيًا لمنصبٍ أو مكسب؛ فلقد كان يكفيه إرث والده العظيم، العلّامة آية الله الشيخ عفيف النابلسي. في كنف هذا الوالد نشأ، وبين كتبه تربّى، ومنه تعلّم أن المرجعية الحقة ليست تصدّرًا أو مظاهر شكلية، بل هي أن تخرج إلى الناس لا أن تُبقيهم في انتظارك عند بابك، وأن تسير معهم كتفًا بكتف لا أمامهم كسياسي متعالٍ، وأن تؤمن بهم أولاً ليؤمنوا بك، أن تسبقهم بالسلام، وتفاجئهم بالسؤال عن أحوالهم، وتقف عند خاطرهم وتجبره؛ لأنك إن عزلت نفسك وبقيت وحدك في معركتك… خسرتهم وخسرت معركتك.
فمثقالُ ذرةٍ من كِبرٍ يكشفك امامهم، وكفيلٌ بأن يُخرجك من المقاومة والجنة؛ ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"؟ والمقاومة في جوهرها ليست إلا سعيًا نحو تلك الجنة.
واليوم، حين نذكره – ونحن نذكره كل يوم – لا يمرّ اسمه إلا وتدمع العين، وتختنق الكلمات في الحلق. ليس رثاءً بقدر ما هو شوقٌ طاغٍ… وألمٌ دفين، لأننا فقدنا رجلًا استثنائيًا كان يوازن بحكمة بين الإيمان والواقعية، بين الولاء والنقد البنّاء، بين الصمت المعبّر والموقف الصريح، بين المقاومة كفكرٍ متجذر والمقاومة كفعلٍ يومي.
محمد عفيف لم يكن مجرد مسؤول علافات… لقد كان مدرسةً في فن الحوار وصناعة الرأي؛ فحتى من كان يختلف جذريًا مع فكر المقاومة، كان يخرج من مجلسه وقد لمس صدق القضية، أو على الأقل، أصبح أكثر تفهمًا واحترامًا لها ولدُعاتها. فالحاج محمد كان يعرف يقينًا أن الرصاصة التي يطلقها المقاوم في الميدان تحتاج إلى قلمٍ واعٍ يوصل رسالتها إلى العقول والقلوب، وإلا ظلت الرصاصة، مهما علت دويّها، مجرد ضجيجٍ مزعجٍ يتبدد في الهواء.
كان الحاج محمد عفيف يدرك أن المقاومة لا تُختزل في بندقية وزيٍّ عسكري، بل هي مجتمعٌ بأكمله، حالة وعي شاملة، وليست ميليشيا تتسلّق على جدران اللحظة الآنية ثم تتهاوى مع أول اختبار حقيقي. المقاومة التي لا تحيط بها نخبٌ فكرية واعية، ولا تحتضنها تنوّعات الوطن بمثقفيه وأدبائه وفنانيه، تتحوّل لا محالة إلى صدى معزول... أو إلى كابوس يُرفض حتى في الحلم.
فالمقاومة الفرنسية لم تدخل التاريخ بقوة سلاح مقاتليها فحسب، بل لأن وراءهم وقف جيشٌ آخر لا يقلّ بأسًا: فلاسفةٌ خطّوا بالفكر دروب الحرية، وأدباءٌ أنشدوا للوطن قصائد الصمود، وفنانون رسموا بريشتهم ألوان الأمل، ومنشدون صدحت حناجرهم بأغاني المقاومة... كلّهم كانوا يقاومون، وإعلامٌ أمينٌ نقل الرواية كما تُروى الملاحم الخالدة. فكلّ مقاوم يستحق قصيدة، وسيرة، ومسيرة تخلّده.
الحاج عفيف لم يكن من نبلاء العروش والقصور… بل كان وريثًا للقيم الأصيلة، وارثًا لنهج الأنبياء والصالحين، لا سلالة الملوك والحكام. كان أرستقراطيًا في أخلاقه وسلوكه، وتلك هي الأرستقراطية الحقة، الوحيدة التي لا تسقط أبدًا، ولا تُشترى بالمال، ولا تُغيّرها تبدّلات الزمان وتقلبات الدهر.
يا حاج، لقد مرّ على فراقك خمسة أشهر، وما زال وجهك البشوش يطالعنا من شريط الذاكرة. وما زالت صورتك توقظ فينا الحنين العميق، وتترك في القلب شوقًا لاذعًا لا يستطيع الزمن محوه.
يا حاج، أنت حقًا خسارة لا تُعوّض، والدليل الأكبر أننا لا نكتب عنك اليوم كمن رحل وانتهى أثره… بل كأنك حاضرٌ بيننا الآن، تبتسم ابتسامتك المعهودة، ونحن نردد على مسامعك بكل صدق:
"حج محمد... اشتقنا أن نشرب معك كوب شاي "
يا الله... يا الله... يا الله...
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.