انطلق قطار المفاوضات النووية الأمريكية – الإيرانية، وقطع إلى اليوم محطتين في أسبوعين في كل من مسقط وروما، ويبدو أن سير عجلاته ثابت على السكة بين طهران وواشنطن وصولاً إلى المحطة الأخيرة، حيث أن كلا الطرفين يصرّان على إكمال الرحلة دون عقبات أو تعقيدات، أما سلطنة عمان فهي تلعب دورها المطلوب في الوساطة – تطبيقاً للقرار الإيراني – بكل أمانة ومهارة في ظل أجواء تفاؤلية عكستها تصريحات ممثلي الطرفين في هذه المفاوضات.
قبل 12 نيسان تاريخ الجلسة الأولى للمفاوضات كانت سماء المنطقة ملبّدة بغيوم تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي توعّد إيران بالويل والثبور وعظائم الأمور، فيما كانت حاملات الطائرات الحربية والقاذفات الاستراتيجية وشحنات الصواريخ والقنابل تتوالى إلى قاعدة دييغو غارسيا بما أوحى بأن الضربة الأمريكية لإيران باتت قاب قوسين أو أدنى، ولكن بعد هذا التاريخ كل شيء تغيّر.
شكّلت إيران وفدها برئاسة وزير الخارجية عباس عراقتشي فيما ترأس ستيف ويتكوف مبعوث ترامب الوفد الأمريكي، وفي اللحظة الأولى للقاء كانت أمنية الأخير زيارة طهران ولقاء المرشد السيد علي الخامنئي!! المهم أن المفاوضات العتيدة التي بدت مشكلة كأداء تحوّلت إلى فرصة تلقفها الطرفان ولو على حذر.. انكسر جليد الخصومة في المحطة الأولى ليبدأ بالذوبان في المحطة التالية، وتحركت العواصم المعنية ولا سيما موسكو والرياض لتبدأ حراكاً موازياً لم يكن أحد يظن أنه سيحدث بهذه السرعة.
طار وزير الدفاع السعودي إلى طهران على رأس وفد عسكري حاملاً رسالة من الملك إلى المرشد – هي الزيارة الأولى لمسؤول سعودي رسمي على هذا المستوى منذ ربع قرن – في تطوّر مهم أعقب سلسلة مباحثات، كان آخرها اتصال هاتفي أجراه الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بولي العهد الأمير محمد بن سلمان فضلاً عن مشاورات هاتفية أجراها وزيرا الخارجية السعودي والإيراني، بما يؤشر إلى اتجاه لرفع العلاقات إلى مستوى إستراتيجي، خصوصاً بعد أن أكدت الرياض رفضها التام السماح بعبور الطائرات الإسرائيلية أجواءها أو استخدام مياهها الإقليمية لمهاجمة إيران، وهو ما لقي تقديراً كبيراً لدى القيادة الإيرانية، وقد جدّد ولي العهد تأكيد هذا المنحى بتغريدة باللغة الفارسية كتب فيها: “نطالب المجتمع الدولي بإجبار إسرائيل على احترام سيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وعدم الاعتداء على أراضيها”.
وعلى خط موازٍ، طار عراقتشي إلى موسكو ليسلم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رسالة خطية من المرشد الخامنئي “متعلقة بالتطورات الدولية والإقليمية والقضايا الثنائية”، وبعد محطة روما صرّح بأن “المفاوضات كانت إيجابية.. توصلنا إلى تفاهم واتفاق أفضل بشأن بعض المبادئ والأهداف”، أما في المقلب الآخر فقد أعربت واشنطن عن تفاؤل عبّر عنه مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية بالقول: “أحرزنا تقدمًا جيدًا جدًا في مناقشاتنا المباشرة وغير المباشرة”، مشيراً إلى اتفاق على الاجتماع مرة أخرى في مسقط بعد أسبوع يتخلله مباحثات تقنية يوم الأربعاء.
صحيح أنه لا يمكن لمحطتين من المفاوضات النووية “الناجحة جداً” أن تدفع إلى التسليم بأن الأمور سوف تسير حتماً على ما يرام، ومن العبث الاطمئنان إلى نوايا ترامب “الغزلية” تجاه إيران و”شعبها الجميل والذكي”، فالرجل يزن مشاريعه بميزان المصلحة والمدى الإيجابي لانعكاس نجاح أي مشروع على استراتيجياته المرسومة، ولكن لا بد من الاعتراف بأن إيران الدولة من خلال مواقفها واحترامها لقرارها الوطني فرضت حضورها في النسق السياسي الذي يتّبعه ترامب مع باقي الدول والمفعم بالفوقية والتعجرف، وهذا ما يترجم المنحى الاستقلالي والسيادي الذي تتّبعه إيران في التعامل مع أي دولة دون أي تنازل أو انبطاح.
تؤكد كل من طهران وواشنطن سريان الأجواء الإيجابية على المفاوضات بما يؤشر إلى سياق مريح للطرفين فيما هناك في تل أبيب وبيروت من يضرب أخماساً بأسداس ترقّباً لما يمكن أن يحصل ويطيح بكل أمنياته وآماله، ولعلّ هذا ما أثار لديه المخاوف من أن يأتي أي اتفاق أمريكي – إيراني على حساب مصالحه الضيقة والخاصة، فأي استقرار في العلاقة بين البلدين، نووياً أم سياسياً أم اقتصادياً، سيقضي حتماً على مساعي بنيامين نتنياهو ورهاناته لاستدراج الأمريكيين إلى مهاجمة إيران بذريعة امتلاكها السلاح النووي، وهو ما ينفيه الإيرانيون مراراً وتكراراً، وسيؤدي ذلك إلى وضع حد لطموحاته التوسعية نظراً لما سيتركه هذا الاتفاق من تأثير على منطقة الشرق الأوسط ككلّ باتجاه ترتيب العلاقات الأمريكية مع دولها وفيها – لا سيّما في لبنان وسوريا – وفق ستاتيكو جديد يؤكد فيه ترامب ما دأب على إعلانه حول إرساء السلام ووقف الحروب.
أما في بيروت فهناك من يزال يمنّي النفس بتدهور الأمور سياسياً وعسكرياً وانجرار المنطقة إلى حرب بدائرة أوسع تقود أمريكا إلى مهاجمة إيران استكمالاً لما بدأته “إسرائيل” من توحّش بدأ بقطاع غزة مروراً بلبنان ولن ينتهي بسوريا، وهو الذي سارع وقبل وقف إطلاق النار إلى اتّباع نصيحة من سفارة عوكر للتعامل مع حزب الله وكأنه أصبح من الماضي، فانطلق يحرق أشرعة مراكبه الصغيرة بمواقف تصعيدية مشحونة بالخطاب الطائفي واستعادة لغة الحرب الأهلية، وهو يأمل في أن يؤدي هذا الحريق الكبير – إذا حصل – إلى خلط الأوراق كلّها في الداخل اللبناني ليكون الحصان الأسود الذي يعتلي سدة رئاسة الجمهورية ويحقّق حلمه التاريخي، وهو يشعر أن تقادم الزمن بدون حدوث زلزال من هذا النوع في لبنان يضعف حظوظه في تحقيق هذا الحلم إلى حد الاندثار.
راهن منظّرو الحرب الأهلية بأوراقهم السياسية كلّها على تعليمات أمريكية ومواقف إسرائيلية جاءت في وقت كان يشتعل فيه البلد بحرب نتنياهو الوحشية على لبنان، فيما هناك من دعاهم للتروّي وعدم التصرّف من منطلق وطني لا انعزالي، وأن يقرأوا التوازنات اللبنانية الداخلية وكذلك المتغيّرات الإقليمية والدولية جيداً، فماذا لو اتفقت طهران وواشنطن، ولبنان وحزب الله وسلاحه سيكونان حتماً في قلب المفاوضات ونتائجها!؟ ماذا عن التقارب الإيراني – السعودي الوثيق وما سيجرّه من منعطفات في المنطقة وعلى لبنان خصوصاً!؟ هل سيكمل هؤلاء خطابهم التحريضي الفئوي وإذكاء نار الخلاف وإثارة الفتن، أم أنهم سيلجؤون كما العادة بعد كل خيبة إلى التراجع والالتفاف ولعق مواقفهم السابقة!؟ إن المنطق الوطني يحتّم على الجميع الالتقاء لخدمة البلد وعدم التعويل على متغيّرات ظرفية سرعان ما تجد طريقها إلى التأقلم والتماهي مع الواقع، أما العنتريات الفارغة والاستقواء بالخارج فلن يجدي سوى بالغرق أكثر في وحل الانعزال.
موقع سفير الشمال الإلكتروني