2025- 04 - 19   |   بحث في الموقع  
logo الطقس غدا غائم جزئيا مع انخفاض درجات الحرارة logo حركة “أمل” تحيي الذكرى السنوية لمجزرة قانا logo إحباط عملية تهريب أسلحة من سوريا وتوقيف مشتبهَين logo استقبالات البطريرك الراعي في عيد الفصح logo معرض فن تشكيلي في الرابطة الثقافية  logo ألفريد دورة يهنئ بالفصح: إشارة إلهية إلى ضرورة الوحدة..  logo بيان هام من وزيرة التربيةيخص رواتب المعلمين.. هذا ما جاء فيه logo المرشح لعضوية مجلس بلدية طرابلس أحمد فردوس.. سيرة ذاتية 
الغفران: قمة الحرية في عالم الانتقام.. أنطوان عيروت
2025-04-18 12:25:56

في عالم يفيض بالثأر ويغلي بالأحقاد القديمة، يتحوّل الغفران الى فعل غير مألوف، بل مستهجن أحيانًا. كيف يمكن لمن فقد ابنًا أو أختًا أو وطنًا، أن ينطق بكلمة “أغفر”؟ لكن ماذا لو كان الغفران هو قمة القوة لا الضعف؟ وماذا لو كان هو الحرية بعينها؟


نقرأ في التاريخ والواقع عن أشخاص غفروا في اللحظات التي يُفترض فيها أن يثوروا، أناس عاديون لا أنبياء، حملوا جراحهم وقالوا: “سامحنا.” لكننا لا نحتاج إلى أن نذهب بعيدًا للبحث عن المعنى الأعمق للغفران. يكفي أن نتوقف عند لحظة واحدة كفيلة بقلب المفاهيم، عند صليب منصوب في الجلجلة، حيث يتألم إنسان اسمه يسوع، مصلوب ظلمًا، ويصرخ: “يا أبتاه، اغفر لهم، لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون” (لوقا 23:34)


هذه العبارة قيلت في لحظة تختصر فيها المسيح كل تعاليمه بكلمة واحدة ليست فقط عن المسامحة، بل هي في صميم المحبة الإلهية، الحبة التي تتخطى العدل البشري والمنطق الإنساني.


في مناسبة أسبوع الآلام، نستحضر هذا المعنى العميق للغفران الذي قد يبدو بعيدا عن فهمنا البشري المعتاد، لكنه في الحقيقة يمثل ذروة الحرية والإنسانية التي يمكن أن يبلغها الفرد.


المسيح طلب في مثل هذا اليوم الغفران لجلاديه، للذين صلبوه وسخروا منه، ليس لأنه ضعيف، بل لأنه قوي بالمحبة. الهدف الأساسي من هذه الكلمة هو كشف طبيعة الله الآب كمصدر للرحمة والغفران، وتأكيد إن الغفران ليس ردة فعل بل موقف جوهري.


في تلك العبارة، قال يسوع ما لم يقله قائد أو فيلسوف أو حاكم قبله. قال الغفران لمن يصلبونه، لا في لحظة سلام بل في ذروة الألم. في تلك اللحظة لم يكن يسوع عاجزًا، بل كان حرًّا إلى الحد الذي جعله يختار الغفران بدل الكراهية، والرحمة بدل اللعنة.


الغفران هنا لم يكن تنازلًا عن الحق، ولا قبولًا بالجريمة، بل فعل تحرر من الكراهية. تحرر من أن يتحوّل الإنسان إلى صورة جلاده. تحرر من أن نُعرِّف أنفسنا فقط من خلال جراحنا. الغفران لا يعني أن ما حصل كان عادلًا، ولا أنه يُنسى أو يُتَناسى. بل هو ببساطة قرار أن لا يعيش المجرم في قلبك مجانًا. هو أن تقول: “لن أسمح لفعلك أن يشوّه إنسانيتي.”


وهنا يدخل الغفران في تعريف جديد، ليس مجرد فضيلة أخلاقية، بل موقف سيادي، وجودي، تحرري. هو عكس الانتقام، لأنه لا ينتظر إذنًا من أحد. هو أن تختار من تكون، لا من يصنعك الآخرون.


لكن لنكن واقعيين: الغفران لا يأتي بكبسة زر، بل هو مسار طويل يمرّ بالدموع، بالغضب، بالرفض، وربما بالمطالبة بالعدالة. هو لا ينفي الجرح، لكنه يمنع أن يتحوّل الجرح إلى هوية.


هل كل إنسان مدعو ليغفر؟ ربما نعم، لكن ليس في اللحظة نفسها. الغفران لا يُفرض، بل يُعاش. لا يمكن أن يكون قرارًا أخلاقيًا فقط، بل نداء داخلي يقول: “أنا أكبر من أذيّتي.” بعض الأمهات يحتجن إلى سنوات، بعض الشعوب إلى أجيال، لكن البداية دائمًا واحدة: اختيار ألا تكون صورة عن الشرّ الذي تلقيته.


في لحظة الغفران، لا يصبح القاتل بريئًا، بل تبقى الحقيقة حقيقة. لكن شيئًا ما يتبدّل فينا، نقف من جديد لا كضحايا، بل كأحرار. وهذه الحرية، ليست من صنع قانون، بل من صنع قرار.


في كل مرة نغفر، نحن لا نُبرّئ القاتل. نحن نُحرّر أنفسنا منه. وفي عالم يمجّد الكراهية، يصبح الغفران ثورة حقيقية.


الغفران ليس لأن الآخر يستحق وليس لأن ما فعله كان صواباً، بل لأنه فعل نحتاجه كي نستمر في الحياة دون ان يقيّد حريتنا ودون ان نبقيه ساكنا في داخلنا


الغفران ليس ضعفًا، بل هو شجاعة في أن لا نستسلم للشر، هو القوة أن نختار الحب لا الحقد، هو أن نكرّر مع المصلوب: “يا أبتاه، اغفر لهم.” ليس لاننا لا نأتي على ذكرهم ولا نتقصّى اخبارهم، بل لأنهم بالغفران تحولوا الى العدم في ذاكرتنا،


ليس لأنهم يستحقون، بل لأننا نستحق الحياة.


نقيب المحامين السابق في طرابلس


انطوان عيروت




Related Posts

  1. جعجع التقى سفير فرنسا.. هذا ما بحثاه
  2. هيئة إدارية جديدة لإتحاد أبناء الشمال في أستراليا برئاسة حسان مرحبا..




The post الغفران: قمة الحرية في عالم الانتقام.. أنطوان عيروت appeared first on .




وكالات



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top