من منظار العدالة التي حان وقتها، لا بدّ من تسليط الضوء على الخلل الجوهري في إدارة مصرف لبنان للأزمة والانتهاك الصريح للدستور وللقانون ولمبدأ المساواة وحماية الملكية النقدية، مع التوقف عند دور القضاء في التصويب القانوني او في التردد او الاعتكاف الذي لم تعالج الدولة اسبابه في خضمّ الأزمة المالية – الاقتصادية التي عصفت بلبنان، ولأن تسليط الضوء على الخلل الجوهري قد يزول متى وضع حد له إن كان يريد من يستطيع وضع الحدّ من اجل مصلحة الشعب.
في ظلّ التحديات المالية والنقدية غير المسبوقة التي شهدها لبنان ولا يزال، وما رافقها من تعاميم تفوّقت على القوانين، ومن تمييز صارخ في تطبيق السياسات النقدية، جاء انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وخطاب القسَم الذي أعاد إلى اللبنانيين شيئًا من الأمل بمشروع استقلالية القضاء ومكافحة الفساد، وقد علّق اللبنانيون آمالهم على السلطة التنفيذية، رئيس الجمهورية والحكومة، من اجل استعادة دولة القانون ومحاسبة المسؤولين عن الانهيار، وفتح صفحة جديدة، نريد لها أن تكون صفحة عدالة ومساواة، وصرخة ضميرية في وجه كل مساس بجوهر العدالة وحق المواطن بحماية نفسه وماله وكرامته حفاظًا على ما تبقّى من شباب هذا الوطن.
من هذا المنظار، منظار استقلالية القضاء التي طال انتظارها منذ عشرات السنين، لا بدّ من تسليط الضوء على الخلل الجوهري في إدارة مصرف لبنان للأزمة، وعلى الانتهاك الصريح لمبدأ المساواة، مع التوقّف عند دور القضاء المتأرجح بين التردّد والتصويب.
ففي خضمّ الأزمة النقدية، الاقتصادية والإدارية التي عصفت بلبنان، لم يقتصر المشهد على الانهيار النقدي والمصرفي فحسب، بل تمدّد الى انهيار في المنظومة الأخلاقية للدولة، بحيث باتت التعاميم أعلى رتبة من القوانين والحاكم الفعلي لسلوك الدوائر الحكومية والمؤسسات، وعلى رأسها مصرف لبنان.
لقد صدر عن مصرف لبنان عشرات التعاميم منذ عام 2019، تحمل في ظاهرها طابعًا تنظيميًّا للأزمة، لكنها في جوهرها شكّلت خروجًا فاضحًا على القانون، وتعديًا على حقوق المودعين، وتفريغًا لمنظومة الإيفاء بالنقد اللبناني من مضمونها، خلافاً للمبدأ القانوني الواضح: لا يُلغى القانون إلا بقانون، ولا تملك السلطة النقدية أو أي جهة إدارية صلاحية تعليق أو تقييد النصوص التشريعية المرعية.
إن التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان، أو عن أي وزير، لا يمكن أن تُقصي أو تُعطّل أحكام قانون النقد والتسليف أو قانون الموجبات والعقود، أو ما ورد في قانون الموازنة إذ إن بعض التعاميم تعدّل جوهر ما نص عليه القانون بشأن الدفع بالليرة اللبنانية، مع أن قانون الموازنة نفسه المنشور في كانون الثاني 2023، قد حدد سعر الصرف الرسمي بـ /15000/ ل.ل. مقابل الدولار بدلًا من /1507/ ل.ل. ابتداء من تاريخ نشر قانون الموازنة، ولو أراد المشترع تحديده بسعر السوق السوداء لكان قد نصّ عليه وكان قد بلغ الخمسين الف ليرة لبنانية للدولار الواحد
في هذا السياق، نعيد التذكير بالنصوص القانونية: المادة /7/ من قانون النقد والتسليف التي نصت على أن الليرة اللبنانية هي وسيلة الإيفاء القانونية والإجبارية لجميع المدفوعات ولها القوة الابرائية غير المحدودة في أراضي الجمهورية اللبنانية، وكذلك المادة /1/ ق.ن.ت. التي نصت على أن الوحدة النقدية للجمهورية اللبنانية هي الليرة اللبنانية واختصارها الرسمي هو ل.ل.، والمادة /2/ ق.ن.ت. التي تنص على أن القانون هو الذي يحدّد قيمة الليرة، والمادة /192/ ق.ن.ت. التي جاء فيها تطبق على من يمتنع عن قبول العملة اللبنانية بالشروط المحددة في المادتين /7/ و /8/ تطبّق بحقِّه العقوبات المنصوص عليها بالمادة /319/ من قانون العقوبات التي جاءت تحت عنوان النيل من مكانة الدولة المالية ويمكن عطف المادة /321/ التي تنص على انه يقضي بنشر الحكم وبالمنع من الحقوق المدنية أو منع الإقامة أو بالإخراج من البلاد.
وعليه، فإن مبدأ القيمة الإبرائية يقابله مبدأ الاسمية النقدية، الذي يفترض ثبات القيمة القانونية للعملة الوطنية، حتى وإن تغيرت قوتها الشرائية بمرور الزمن.
وبالرغم من هذه النصوص القانونية، تمادت المصارف في مخالفتها وفي رفض قبض الديون بالعملة الوطنية، محتمية خلف التعاميم الفاسدة لمصرف لبنان، في غياب المشرّع عن إصدار قانون يعيد الأمور إلى نصابها.
والوجه الأخطر في المخالفات، بعد هدر أموال المودعين وفقدان الثقة بالمصارف، أن مصرف لبنان نفسه استمر في التعامل بالليرة اللبنانية مع بعض المصارف دون سواها واستمر بضخ الدولار الأميركي هذا البعض على أساس سعر صرف /1507/ل.ل. ما يشكّل تمييزًا فاضحًا لا مبرر له قانونيًّا ولا ماليًّا، ويثير علامات استفهام جدية حول نزاهة وحيادية السلطة النقدية.
هذا التمييز لم ينتهك فقط مبدأ المساواة بين المصارف، بل قوّض وحدة النظام النقدي، وأكد أن بعض المصارف تتمتع بحصانات خفية ودلالات مريبة في آليات التسوية والإيفاء، وأن محاسبةً لن تتم، وأن هيئة الرقابة على المصارف لم تقم بعملها المعيّنة من أجله.
في الوقت الذي كانت فيه العملة الأجنبية غير متوفرة إلا “للمحظوظين” من المصارف أو غيرهم، وفي الوقت الذي كانت المصارف ترفض دفع الوديعة بالدولار لعدم توفره كما تزعم، لا بل ترفض الدفع إلا على اساس /1507/ اضطر المدينون إلى اللجوء إلى القضاء لإيفاء ديونهم على ذات القواعد القانونية، فحكمت المحاكم لمصلحة المدينين سنداً للقانون. لكن ما زاد من تعقيد المشهد، أن البعض الآخر من المحاكم، بدلًا من تكريس سيادة القانون كما فعل زملاء لهم مشهود لهم بالكفاءة والشفافية وعدم الخوف من تهديدات مصرفية او حتى سياسية، لجأت إلى ردّ طلبات الإيداع بالليرة مستندة إلى التعاميم حسب سعر السوق السوداء، ما جعل المواطن ضحية مزدوجة: ضحية التعاميم والفساد المحمي في المصارف، وضحية التأخير في الاحكام التي أحدثت فرقاً كبيرًا بقيمة الإيداع من تاريخ عرضه إلى تاريخ الحكم في قانونية الإيداع، وطالت الخسارة المواطن أيضاً بدلًا من إلزام المصارف بالتعاطي مع المدين كما تصرفت هي مع المودعين، عدا عن أن المشرّع قد غاب عن اتخاذ الحلول القانونية اللازمة لمنع الخسارة عن المواطن إن بصفته مودعًا، أو بصفته مدينًا لا قدرة له إلّا على الايفاء القانوني، وليس الايفاء حسب التعاميم التي لا تتفوق على الدستور او القانون.
ونضرب مثلًا حيًّا: عرض أحد المدينين (سندًا للقانون) إيفاء دينه بالليرة اللبنانية عندما كان سعر صرف الدولار في السوق السوداء يوازي عشرة آلاف ليرة، ولنفرض أن المحكمة ردّت الإيداع بعد سنوات حين أصبح سعر الدولار حوالي /89500/ ل.ل.، فإنه يتبين بعد إجراء عملية حسابية بسيطة أن المدين، وهو الأضعف في المعادلة، قد خسر عشر مرات من قيمة المبلغ الذي عرضه فعليًّا وأودعه أصولًا، وللأسف كانت المصارف في ذات الوقت تربح عشرات الأضعاف عندما تسدد لصغار المودعين من حساب الدولار بالليرة على أساس /1507/ ل.ل. للدولار!
فما هو التوصيف القانوني والوطني والأخلاقي لمصارف ترفض قبض الليرة اللبنانية، بينما لا تدفع للمودع من حسابه بالدولار إلا بالليرة اللبنانية، ووفقًا لسعر الصرف الرسمي وبالتقسيط على سنوات؟ وهل المواطن هو المسؤول عن ضياع جنى عمره أم السلطة ومصرف لبنان والمصارف الذين تآمروا جميعًا على المواطن؟ ومن يعوّض المدين الذي نفّذ القانون وأودع دينه، ليجد نفسه خاسرًا بسبب رد الإيداع بعد سنوات؟ مصرف لبنان؟ أم لجنة الرقابة على المصارف؟ أم الدولة؟ أم المصارف؟ أم بعض القضاء الذي شُلّت وظيفته طيلة فترة الأزمة؟
أن النظام التشريعي اللبناني واضح في تحديد القوة الإبرائية للعملة الوطنية، استنادًا إلى النظام العام المالي، ومبدأ السيادة النقدية. وبالتالي، فإن رفض الإيفاء بالليرة يتعارض مع القانون، بل يُعد مخالفة تُلزم القضاء بالتدخل لتصحيح الخلل. ولا يمكن فرض الدفع بالعملة الأجنبية، ولا رفض الدفع بالليرة اللبنانية، باعتبار أن هذه النصوص القانونية إلزامية، لا يمكن الاتفاق على مخالفتها.
وقد صدر، عن بعض المحاكم الجريئة والمعروفة بتطبيق القانون، العديد من الأحكام التي قضت بصحة العرض والإيداع بالليرة اللبنانية على أساس سعر الصرف الرسمي وفقًا لنشرات مصرف لبنان، واعتبرت أن المدين قد سدد أصولًا ما عليه، وأن الدائن يبقى ملزمًا بقبول الليرة كوسيلة إيفاء، وأن التذرّع بالتعاميم لا يُنشئ قاعدة قانونية ملزمة للمواطن، لأنها لا تسمو على القانون، ولا تُقصي النصوص التشريعية.
وإن كانت التعاميم ملزمة للمصارف، فهي ليست ملزمة للمحاكم إلا بقدر توافقها مع القواعد القانونية. ويتوجب على القاضي، متى ثبت تعارض التعميم مع القانون، أن يقدّم القانون في مجال التطبيق.
إن الأحكام التي صدرت عن بعض المحاكم سنداً للقانون تمثّل بارقة أمل وسط مشهد قاتم، لأن البعض الآخر من المحاكم تجاهلت القانون واسندت احكامها على تعاميم مصرف لبنان رغم ما في هذه التعاميم من فساد، كما هو ثابت من إفادة مصرف لبنان نفسه لبعض المحاكم، والتي تؤكد أن مصرف لبنان كان يتعامل مع بعض المصارف بالليرة اللبنانية حسب سعرها القانوني ويتعامل مع مصارف أخرى حسب سعر السوق، وأن هذا التمييز بحد ذاته هو أساس الفساد في منظومة فاسدة.
واخيراً نسمع يوميًا في الإعلام أن “لا اقتصاد من دون مصارف”، ويغيب أي مسعى حقيقي لمحاسبة هذه المصارف محاسبة شفافة وجديّة،ونؤكد انه لن يكون للبنان سوى مصارف تسرق ودائع الناس من جديد لأنها محميّة وغير موثوقة، ولا عدالة من دون محاسبة، ولا مساواة في وجود تمييز مالي مقنّع، ولا قانون بوجود التعاميم، ولا قضاء من دون استقلالية ودون تجرّؤ على مواجهة الخلل المؤسساتي والفساد المالي.
إن تطبيق القانون ليس ترفًا نظريًّا، بل هو جوهر العدالة. واليوم، العدالة في لبنان تُنازع، لا بسبب غياب القوانين، بل بسبب تغييبها، وتقديم التعاميم عليها، والتغاضي عن الفساد المغلّف بالانتقائية بين مصرف لبنان وجمعية المصارف والسلطة المتغاضية والسلطة المشاركة التي أوصلت البلد إلى ما أوصلته من أزمات.
المطلوب وقفة ضمير… لا أكثر.
الكاتب: النقيب أنطوان عيروت
النقيب السابق للمحامين في طرابلس
موقع سفير الشمال الإلكتروني