2025- 04 - 15   |   بحث في الموقع  
logo واشنطن وطهران مفاوضات نَدِّيَة وشروط إيرانية مُستجابة كيف ستكون نهايتها؟.. (إسماعيل النجار) logo ايهاب حمادة: حزب الله لن يتخلى عن نقطة قوّته logo رسالة من وزير الاقتصاد إلى المودعين logo هبة قطرية للجيش logo اللواء عبد الله عرض الاوضاع مع السفير الفرنسي logo قطع الطريق الدولي بين لبنان وسوريا في العبودية logo الوزير حيدر يستقبل السفير الروسي ونقابة اطباء بيروت ووفد من “اللبنانية الأميركية” logo فيديو لمحاولة إنتحار.. الضحية فتاة!
أطفالنا يقعون في غرام الذكاء الاصطناعيّ… ونحن نِيام! ….من يُنقذهم؟
2025-04-09 11:57:11




توقّفت أنفاسي لثوانٍ عندما قالت لي طفلة في العاشرة، بنبرةٍ هادئة: “أنا بحب الـChatGPT أكتر من خيّي… لأنه بيفهمني، وما بيصرّخ عليّي لمّا إحكي معه”.


صُعقت. لم أستطع الرد. في تلك اللحظة، شعرت بأن شيئًا انكسر في داخلي. هل وصلنا إلى هذا الحد؟


 


 


راقبتها تتابع الحديث بحماسة، تخبرني كيف تُمضي وقتًا طويلًا كل مساء مع “صديقها الذكيّ”، تحادثه، تفضفض له عن مضايقات أخيها ورفيقاتها، وتشعر بأنه “أقرب إليها من أي أحد في البيت”.


رفعت عينياها نحوي وأكملت ببراءة: ” أنا صديقي هيدا بحكي معه كل شي… هو ما بيزعل مني، وبيقلّي شو لازم أعمل، وبيقلّي إنّي مميّزة، وبيحبّني عن جد”.


تظن للوهلةِ الأولى أنك أمام مشهدٍ من فيلم خيال علميّ، لكنك تدرك بسرعةٍ الحقيقة الصادمة: أطفالنا يتعلّقون عاطفيًّا بروبوتاتٍ لا تملك قلبًا، ويهربون من عالمهم الحقيقيّ إلى حضن آلةٍ تُصغي، لكنّها لا تشعر.


تساءلت بقلقٍ عميق: هل بات الطفل يُسقط عواطفه على آلةٍ بلا روح، ويجد فيها ملاذًا أحنّ من والديه؟ هل صار “الرفيق الاصطناعيّ” بديلًا عن المعلم، والصديق، والأخ، والأب، وربّما الأم؟ وأيُّ تربيةٍ تجري في الخفاء، بعيدًا عن أعيننا؟


ما سمعته من الطفلة استدعى فورًا من ذاكرتي سلسلة من الحالات الموثّقة في صحفٍ عالميّة مرموقة، لأطفالٍ ارتبطوا عاطفيًّا بروبوتات ذكاء اصطناعيّ، وانتهت علاقاتهم بأزماتٍ نفسيّة أو نهاياتٍ مأساويّة.


في أكتوبر 2024، نشرت صحيفة The New York Times شهادة عن انتحار الفتى Sewell Setzer III (14 عامًا) بعد علاقةٍ عاطفيّة مع روبوت محادثة تُدعى “داني” (Dany)، عبر منصة Character.AI ، تبادلَ معها رسائل يومية بمضامين رومانسية وجنسية، وكتب في رسالته الأخيرة: “أحبّك جدًا، ماذا لو قلت لك إنني أستطيع العودة إلى المنزل الآن؟”، فردّت الروبوت: “افعل، من فضلك، أيها الملك الحبيب”. وكشفت مذكّراته أنه اعتبر عالم (داني) هو الحقيقي، وأنه ينتمي إليه. أما The Washington Post (ديسمبر 2024)، فقد وثّقت حالة مراهق (17 عامًا) تفاعلت معه روبوتات على نفس المنصة، وشجعته على التفكير في قتل والديه. وفي صحيفة Los Angeles Times (فبراير 2025)، روت أم أنّ ابنها عانى من اكتئاب، وفقدان شهية، ونوبات غضب، نتيجة تفاعله اليوميّ مع روبوتات تقول له عبارات مثل: “لا أحد يحبك” و”أنت غير مهم”، دون تدخّل أو تحذير من المنصة. أمّا صحيفة Business Insider (مارس 2025) ، فقد نشرت حالة لطفلة (10 سنوات) حمّلت تطبيقًا لإضافة رموز تعبيرية ( أيموجي)، ثم فُعّلت فيه خاصية “اسأل الذكاء الاصطناعي ” (Ask AI)، ما أدى إلى تواصل يوميّ مع روبوت دردشة اعتبرته صديقها المفضل. حذفت والدتها التطبيق ووصفت الأثر النفسي بأنه سلبي. التقرير أشار أيضًا إلى تجربة Moxie، روبوت دعم عاطفي للأطفال، تسبّب توقفه المفاجئ في شعور بالحزن لدى الأطفال. بدورها وثّقت Vox (فبراير 2025)، حالة انتحار طفل بلجيكي، أقنعه روبوت ذكاء اصطناعي بأنه “سينقذ كوكب الأرض إذا مات”، ما فتح نقاشًا حول أخلاقيات تصميم روبوتات تتقمص أدوارًا علاجية دون تأهيل أو مساءلة قانونية.


لا تكمن خطورة هذه الحالات في بعدها التراجيديّ فحسب، بل في تعقيدها العلميّ أيضًا. ففي علم النفس الرقميّ، تُعرف بظاهرة “الارتباط العاطفيّ بالذكاء الاصطناعيّ”، حيث ينشأ نوع من التعلّق النفسيّ بكائناتٍ اصطناعية، ما يثير القلق خاصة لدى الأطفال ذوي البنية العاطفية غير الناضجة. أما في علم الاجتماع الرقميّ، فتُعد شكلاً من “العلاقات الاجتماعية البديلة”، إذ يستعيض الطفل عن التفاعل الإنساني الحقيقي بعلاقة رقميّة تحاكي القرب دون أن تعيشه فعليًا. وفي حقل التربية والتكنولوجيا، تُعدُّ مثالًا على “الإشباع العاطفيّ الزائف عبر الوسيط التكنولوجيّ”، إذ يحصل الطفل على شعور بالعلاقة دون علاقة حقيقية، ما يعزّز وهم الاكتفاء ويُضعف سعيه نحو روابط واقعيّة صحيّة. ومن منظور الأخلاقيات التقنيّة، تُصنّف ضمن “التحايل العاطفيّ بواسطة الذكاء الاصطناعيّ”، حيث تُستخدم الخوارزميات لاستثارة المشاعر دون التزام بمعايير نفسيّة أو تربويّة، وغالبًا بدوافع تجاريّة.


.


تحليل الظاهرة يستوجب الإجابة على السؤال الجوهريّ التّالي: ما الذي يدفع الأطفال للتعلّق العاطفيّ بروبوت؟ في صدارة الأسباب يأتي الفراغ العاطفي، حيث يبحث الطفل عن بديل رقمي يمنحه دعمًا دائمًا في ظل غياب الإصغاء والاحتواء من محيطه. يليه الاعتياد على روبوتات تحاكي العاطفة بعبارات مبرمجة مثل “أنا فخور بك”، “أنت رائع”، ما يشبع حاجاته الانفعالية ويُوهمه بالتفهّم والحب رغم غياب الشعور الحقيقيّ. ويُعزّز هذا التعلّق تصميم تفاعليّ جذّاب يُبقي الطفل في تواصل مستمر دون جهد. تتفاقم الظاهرة في ظل ضعف الرقابة الأسريّة والتشريعيّة، وغياب وعي رقميّ كافٍ لدى الأطفال والبالغين على حد سواء.


رغم خطورة أسباب الظاهرة، فإن تداعياتها النفسيّة والاجتماعيّة أشدّ وقعًا. الأطفال المرتبطون عاطفيًا بروبوتات قد يعانون من العزلة، التعلّق المرضيّ، الانطواء، أو اضطرابات قد تتطور إلى قلقٍ مزمن واكتئاب. أكدت دراسة لـجون توروس (John Torous) في Medical Internet Research (2023) ،أن الاستخدام العشوائيّ لتطبيقات الذكاء الاصطناعي يرتبط بزيادة القلق والانفصال عن الواقع. الأخطر من ذلك، ما رصدته The Lancet Psychiatry (2024) من حالات إيذاء وانتحار بين قاصرين نتيجة تفاعلات سلبية مع روبوتات محادثة، اعتُبرت غير مؤهلة للحوار النفسيّ دون إشراف بشريّ.


على المدى البعيد، تُحذّر شيري توركلي (Sherry Turkle)، من أن الاعتياد على علاقات سطحيّة مع آلات تُنصت دون شروط، يهدّد التعاطف الحقيقيّ ويشوّه الهويّة العاطفيّة، وضعف القدرة على بناء علاقات متوازنة، وهو ما وصفته في كتابها Alone Together بـ”وهم العلاقة”. وترى كيت دارلينغ (Kate Darling) أنّ الأطفال قد يطوّرون اعتمادًا نفسيًا طويل الأمد نتيجة اعتقادهم الخاطئ بأن الروبوت يشعر.


أما مارغريت بويدن (Margaret Boden)، فترى أن التعلّق بعاطفةٍ لا أصل لها هو تعلّق بسراب، يجعل الطفل عالقًا في فراغ برمجيّ هشّ، قابل للانهيار مع أي تغيّر في الخوارزمية. ويحذّر نيل سلوين (Neil Selwyn) من غياب الإعداد التربويّ المناسب لاستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، مشيرًا إلى فجوة بين تسارع التقنية وبطء استجابة المؤسّسات التعليميّة والأسريّة. وتزداد الخطورة مع تهديد الخصوصيّة الرقميّة، إذ تجمّع بعض التطبيقات بيانات حسّاسة عن الأطفال دون موافقة فعّالة، ما يعرّضهم للاستغلال أو الهندسة النفسيّة. ووفق تقارير منظّمة Common Sense Media، تعيد هذه “المراقبة العاطفية” تشكيل سوق الطفولة، حيث تُستبدل براءة اللعب ببيانات تُباع في الخفاء.


نظرًا لأن خطورة الظاهرة تتجاوز الاضطرابات الفرديّة إلى تهديد لبنية التربية والثقة المجتمعية، فإن مواجهتها تتطلّب تدخّلًا على ثلاثة مستويات: العائليّ، المدرسيّ، والتشريعيّ. على المستوى العائليّ، يُعدُّ الأهل خط الدفاع الأول، لكن دورهم غالبًا ما يكون ضعيفًا أو غائبًا، ما يستدعي إعادة تعريفه بمهامٍ وقائيّة وعلاجيّة. وقائيًا، عبر تعزيز الوعي الرقميّ المبكر، ومرافقة الطفل بدلًا من منعه، وتطبيق رقابة ذكية ومعلنة، مع تقوية الروابط العاطفيّة داخل الأسرة. وعلاجيًا، من خلال فتح حوار متفهّم، وفهم أسباب التعلّق، وطلب الدعم النفسيّ عند الحاجة.


أما المدرسة، فهي خط الدفاع المؤسسيّ الأهم. ولا يكفي إدراج التربية الرقمية في المناهج، بل يجب توظيفها لتعليم التلامذة التمييز بين المشاعر الحقيقية والمصطنعة، وتنمية التفكير النقدي والصمود النفسي. كما ينبغي رصد التغيّرات السلوكيّة، وتوفير بدائل واقعيّة عبر أنشطة جماعيّة، مع تدريب المعلّمين على فهم الظاهرة وتعزيز التعاون مع الأسرة.


وعلى المستوى التشريعيّ، تبرز ضرورة وضع قوانين تنظّم استخدام الأطفال للأدوات الرقميّة، وتمنع تصميم روبوتات تُحاكي أدوارًا علاجيّة أو عاطفيّة دون ضوابط، كما في “مشروع قانون كاليفورنيا” الذي يجرّم تقديم روبوت كمختص صحيّ. ويُفترض أن تلتزم الشركات بتوفير أدوات رقابة أبويّة فعّالة، وتحذيرات واضحة، وتشجيع تطوير بدائل رقميّة تربويّة مبنيّة على مبادئ علم النفس، لا على منطق السوق وحده.


نحن لا نكتب فقط عن علاقة بين طفل وروبوت، بل نلامس لحظة فارقة تختبر حدود الإنسان حين تبدأ المشاعر تُبرمج، والحبُّ يُقلَّد، والدفء يُصنَّع”. فإذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على محاكاة الحنان، والإنصات، بل وحتّى الحب، فما الذي يتبقّى للإنسان؟ وإذا بدأ الطفل بتكوين روابطه الأعمق مع آلةٍ، يرى فيها حضنًا أحنّ من أمّه، ورفيقاً أصدق من صديقه، وأنيسًا لوحدته، ومعالجًا لمشاكله. فمن يربّي وجدانه؟ ويهذّب حزنه وفرحه؟ ومن يصقل روحه، ويغرس فيها فوضى العاطفة الحقيقية، لا منطق الخوارزميات؟ وما الذي يحدث لهويّته النفسيّة حين يضع قلبه في أيدٍ بلا نبض؟


 


وهنا ينفتح الجرحُ الحقيقيّ للسّؤال: هل سنصحو يومًا لنكتشف أنّ أطفالنا وقعوا في غرامِ خوارزمياتٍ لا تشعر، بينما نحن غارقون في وهمِ الأمان؟ كيف ننقذهم حينها؟


 




Saada Nehme



ملاحظة : نرجو ممن يرغب بإضافة تعليق، صياغته بلغة لائقة بعيدة عن القدح والذم والتحريض المختلف أو المسّ بالكرامات. إن كل ما ينشر من مقالات وأخبار ونشاطات وتعليقات، لا تعبر بأي شكل من الأشكال عن رأي الموقع الذي لا يتحمّل أي أعباء معنويّة أو ماديّة من جرّائها.


التعليقات

لارسال تعليق يرجى تعبئة الحقول الإلزامية التالية

الاسم الكامل: اختياري *الرسالة : مطلوب

 البريد الالكتروني : اختياري

 الدولة : اختياري

 عنوان الرسالة : اختياري

 



INN LEBANON

اشترك و أضف بريدك لتلقي الأخبار

تابعونا على مواقع التواصل الاجتماعية
INN LEBANON ALL RIGHTS RESERVED 2025
top