تتجدّد اليوم معركة انتخابات المجالس البلديّة والاختياريّة في لبنان، بعد سنواتٍ من التمديد والتأجيل، وفي ظلّ انهيار إداريّ وماليّ يكاد يُجهِز على ما تبقّى من مظاهر الدولة. وبينما تشهد المدن الكبرى معارك متفاوتة الحجم بين الأحزاب التقليديّة والمجتمع المدنيّ والعائلات الكبرى، تحظى بعلبك بنصيبٍ وافرٍ من هذه المنافسة. فالمدينة، الّتي تُعَد مركز أكبر قضاءٍ في لبنان، شهدت لعقود انتخابات بلدية خضعت لاصطفافاتٍ عشائريّة وحزبيّة، حتّى غدت البلدية أقرب إلى "مجلس أعيان" تتناحر فيه العائلات الكبرى على خلفيات مذهبيّة وسياسيّة، فيما يخيم الشلّل الإداريّ على المجالس، وتبقى الدولة المركزيّة شبه عاجزة؛ تُرقّع هنا وتغفل هناك. ومع أنّ الانهيار الاقتصاديّ منذ العام 2019 أطاح بمعظم آمال البعلبكيين التنموية، جاءت الحرب الإسرائيليّة الأخيرة لتفاقم مأزق المدينة شبه المنسيّة إلى حدٍّ يُنذر بانفجارٍ اجتماعيٍّ محتوم.
تفادي معركة انتخابيةتشير مصادر متابعة، في حديثها إلى "المدن"، إلى أنّ ثنائي "حزب الله" و"حركة أمل" بدأ جولة من الاتصالات المكثّفة لتشكيل لائحة ائتلافية موسَّعة في انتخابات بلدية بعلبك، تهدف إلى حسم النتائج بالتزكية ومنع قيام معركة انتخابيّة فعلية. وبحسب المصادر نفسها، يُبدي "حزب الله" حماسة كبيرة لإنجاز الاتفاق مع مراعاة التوازنات العائليّة، وتوضح أنّ التركيبة المرتقبة لن تكون نسخة طبق الأصل عن لائحة عام 2016؛ أي أنها لن تتكوّن من 21 عضوًا، الغالبية من الشيعة والباقي للأطراف الأخرى مثل السنّة والمسيحيين (عضو واحد)، مع احتمال تغيُّر حصص بعض الحلفاء التقليديين، وغياب أسماء قديمة كانت مطروحة.
يحاول "الثنائي"، ولا سيّما بعد الحرب الأخيرة وتفاقم الأزمة الاقتصادية، تجديد سعيه إلى توافق يُطمئِن هواجسَه، مستغلًّا الالتفاف الشعبيّ حوله، فضلًا عن تلاشي مركزية القرار لدى العائلات السُّنية مع كثرة مرجعياتها، والتغيير الاجتماعي الذي انعكس على الواقع السياسي وعلى الإمكانات المالية، وشُح دعم السفارات العربية؛ ما أرسى نوعًا من التضعضع في "الصوت السُّني" وعدم توحُّده في مواجهة لائحة "حزب الله"، كما كان يحصل سابقًا.وقد يكون المأزق الأكثر تعقيدًا في بلدية بعلبك هو مسألة تقاسم الرئاسة بين العائلات. ثمّة أعراف محلية تقضي بتداول المنصب كل ثلاث سنوات بين عائلتَيْن شيعيتَين بارزتَيْن، لكن هذا العرف لم يَعُد مضمونًا نظرًا إلى سعي "الثنائي" للتحكّم بالترشيحات والوجوه المسؤولة. كذلك يتمسّك الحزب باتفاق سابق مع "جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية" يمنحُها منصب نائب الرئيس، مع إمكان تدوير هذا المنصب أيضًا. غير أن هذه الحسابات تُثير حفيظة بعض العائلات السُّنية الكبرى، الّتي تخشى أن يتحوَّل المجلس البلدي إلى ميدان لتثبيت التفاهمات الحزبية بعيدًا عن متطلَّبات الإنماء العاجلة.
في الجانب السُّني، تبدو الصورة منقسمة؛ فبينما يتردّد أن آل الرفاعي منحازون جزئيًّا إلى "المشاريع" لتسهيل وصول أحد أفراد العائلة إلى منصب نائب الرئيس، تقف آل صلح، العائلة الأكبر، على مفترق طرق يزداد ضبابية. ففي دورات ماضية، صبّت أصوات كثيرة من العائلة في خانة اللائحة المناوئة لـ"الثنائي"، وكانت قادرة على الإخلال بالتوازن الانتخابيّ. غير أن تحوُّلات سياسية عدّة طرأت بعد الحرب الإسرائيليّة واتّساع رقعة النفوذ الحزبي، ما جعل بعض وجهاء العائلة يميلون اليوم إلى التهدئة كما تجلّى في الانتخابات النيابية الأخيرة حين فاز ينال صلح على لائحة "الوفاء للمقاومة"."المستقبل" والمعارك المكلفةوفي خضم كلّ هذا، يبرز موقف "تيار المستقبل" كأحد أبرز التساؤلات. فقد تراجع دورُه في المنطقة بعد اعتكاف زعيمه سعد الحريري وتجميد نشاطه السّياسيّ على المستوى الوطني. ورغم ذلك، لا يزال "المستقبل" يمثّل شريحة لا يُستهان بها من السُّنّة البعلبكيين، ويمكنه توجيه بعض الأصوات الحاسمة إذا شاء. لكن قيادتَه الإقليمية تبدو متردّدة، حتّى اللحظة من خوض المعركة، في وقتٍ تستمر فيه الاتصالات والمشاورات واللقاءات، فيما تتردّد فرضية التحالف مع الثنائي في لائحةٍ واحدة. ويرى عدد من المراقبين أن "المستقبل" غير متحمّس لخوض معركة مكلفة، خصوصًا في ظل الوضع الماليّ الضعيف وغياب التمويل الإقليمي الذي كان يتدفّق سابقًا، ووفاة الرموز الشيعيّة الّتي كانت تجذب الأصوات الشيعيّة والسنيّة المعارضة للحزب. وفي الوقت نفسه، ثمّة فريق داخل التيار يرى أن التنازل عن معركة بعلبك يُكرّس نفوذ "الثنائي" أكثر فأكثر، ويحوِّل الاستحقاق الانتخابيّ إلى إجراءٍ شكليّ بلا منافسة حقيقيّة.وقد دارت الانتخابات البلدية في بعلبك بالفعل، طوال ما يقارب ثلاثة عقود، تحت السقف ذاته من الاصطفاف العشائريّ والحزبيّ أكثر ممّا ارتكزت إلى برامج إنمائيّةٍ واضحة. ثنائي "حزب الله" و"حركة أمل" يدركان أنّ كلّ صوت في بعلبك استثمار شعبيّ ثمين في أي تجاذبٍ داخليّ أوسع، بينما حاولت قوى أخرى، أبرزُها "تيار المستقبل"، الاستثمار في الثقل السُّنّي الكبير (ستة آلاف صوت سُنّي)، لكن محاولاتها نادرًا ما أحدثت خرقًا حقيقيًّا، إذ أتقن "الثنائي" فنّ التحالفات أحياناً، والإمساك بمفاصل العمل السّياسيّ حينًا آخر.تعثّر المعارضة الشيعيةأمّا على صعيد القوى الشيعية المناهضة لنهج "حزب الله" و"حركة أمل"، فلا يبدو المشهد أكثر صلابة. فلطالما ارتكزت اللوائح المعارضة في بعلبك على أسماء ذات وزن شعبيّ وعائليّ كافٍ لإحداث فارق في صناديق الاقتراع. لكن وفاة بعض تلك الرموز، وعزوف البعض الآخر، وتراجع الحماسة بعد الحرب الإسرائيليّة الأخيرة، تجعل مهمّة تشكيل لائحة قويّة قادرة على تحدّي "الثنائي" أمرًا بالغ الصعوبة. فلا يكفي وجود شخصيّات قليلة متفرّقة لتوحيد الأصوات، في ظل تنازُع القوى المحليّة على اسم الرئيس وغياب جسم تنظيمي داعم على المستوى الإقليمي. لذا يلجأ بعض المعارضين إلى مقاربة "النَّفَس الطويل"، أملًا في أن يستفيق الشارع لاحقًا على حاجته إلى تغيير حقيقيّ.في انتظار كلمة الصناديقوالحال أنّه قد تسير الانتخابات في قضاء بعلبك في 18 أيار المقبل، نحو سيناريوهين لا ثالث لهما: إمّا "التزكية" بغياب منافسين أقوياء، وإمّا معركة غير متكافئة يخرج منها "الثنائي" منتصرًا عدديًّا من دون غطاء شعبيّ شامل. وربّما يبقى بصيص أمل في لائحة معارضة وازنة إذا تكاتفت وجوه مستقلّة وعائلات وفاعليّات من مختلف الطوائف حول برنامج إنمائيّ جذريّ مدعوم ماليًّا وسياسيًّا.
لكن السّؤال المصيريّ يبقى: هل تريد هذه القوى قلب المعادلة، أم تفضّل تسويات ظرفيّة تُرضي مصالح ضيّقة؟ فقد أثبتت التجارب أن محاولات الإصلاح كثيرًا ما تحطّمت على صخرة الأحلاف المتينة، وأن الناخب ينتهي أمام خيارين: أسماء تدور في فلك التوازنات العشائريّة والحزبيّة، أو الانكفاء، تاركًا صندوق الاقتراع نهبًا للأقوياء. ومع عجز الدولة المركزيّة عن تأمين الحدّ الأدنى من الخدمات، تبقى المجالس البلديّة الحلقة الأضعف بلا صلاحيات حقيقيّة.
وفي خضم ذلك، يجد أهالي بعلبك أنفسهم أمام استحقاق يبدو حلقة جديدة في مسلسل طويل: الوجوه تتبدّل، والأسماء تتعدَّل، أمّا الأدوار فقلّما تتغيّر. وقد تبقى المدينة رهينة لهذا المأزق ما لم تتكوّن إرادة شعبيّة جامعة تُرغم القوى السياسيّة على مراجعة حساباتها، والكف عن التعامل مع المجالس البلديّة كأنّها حصص حزبيّة. وما لم يُفسَح المجال لوجوه جديدة بمقاربات إنمائيّة جادّة، سيظلّ الحديث عن مشاريع إنمائيّة حقيقيّة يدور في حلقة مفرغة، تحكمُها علاقات الولاء والخصومة بدلًا من خطط مُحكَمة للنهوض بالمنطقة.